حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (4)

30-04-2007

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (4)

كان طبيب الأسنان أنداش تكاتتش, يضاجع عشيقته ماريان, دون أن يسمح لنفسه, ولو لمرة واحدة, أن ينام معها في سرير واحد.. هذا, بالنسبة إليه, مبدأ, طبقه مع زوجته مارغريت, ومع عشيقاته, الواحدة بعد الأخرى, غير مبالٍ بتوسلاتهن,

في أن ينمن في حضنه عاريات, مهما تكن أجسادهن فارعة, ملساء كأجساد الزنجيات الحريرية الجلد, وهذا ما جعلهن يعتقدن بأنه شاذ, له تصرفات غريبة, بسبب ما لقيه من زوجته مارغريت, التي هجرها بعد سنوات قليلة من ولادة ابنته غبريلا.‏

كان يعيش في منطقة (كيد) التي أنشأ فيها عيادته, منذ تخرجه طبيباً للأسنان من جامعة بودابست, وكان, خلال السنوات الأولى, يأتي الى عيادته في الضحى, ويغادرها في نحو الثامنة ليلاً, الى حيث يسكن في شارع شاشادي, في بودا, مع زوجته مارغريت, مدرّسة مادة التدبير المنزلي, حسبما أشار عليها, حين قررت أن تتخلى عن دراسة الطب, هرباً من مادة التشريح التي لا تتحملها أعصابها.‏

في السنوات الأولى من زواجهما, كان الحب الموار الذي جمع بينهما, حارساً لهذا الحب, كانا يصعدان جبل الحب من السفح, وفي هذا الصعود كانت تحدث خلافات, سرعان ما تزول, وتعود الألفة بينهما الى سابق عهدها, وهكذا, نقلة بعد نقلة باتجاه الذروة, كان كل شيء على ما يرام, وعندما بلغا الذروة, تمتعا وهما عليها, بلذة الحب الذي يعيش ما دام شهوانياً, وما دام أنداش يعتبر نفسه عشيقاً لمارغريت, ومارغريت تعتبر نفسها عشيقة لأنداش, غير أن الثبات على ذروة جبل الحب غير ممكنة, فالحياة قانونها الحركة, تميد الذروة تحت أقدام من يقف عليها, ويبدأ الانحدار من الجنب الآخر لجبل الحب, حيث الخلافات بين الحبيبين الى تفاقم, ولا تسوية لها كما إبان الصعود.‏

أدرك انداش, دون معرفته بأي شيء عن جبل الحب, وعن فلسفة صعوده من جهة, والانحدار عنه من الجهة الثانية, أن حبه لمارغريت يتلاشى على مهل, وأدركت مارغريت أن الخلافات مع زوجها لاتسوّى بالطريقة السهلة التي كانت, ومع حلول الطمأنينة محل القلق, صارت ممارسة الجنس عادية, روتينية, خالية من فورة الاشتياق, باعثة على الملل, طارقة باب الفراق بضربات أقوى فأقوى.‏

في الثانية عشرة من عمر غبريلا, وبعد أن اشترى الزوجان انداش أرضاً, وشيّدا عليها طابقين, مع قبو وحديقة, وقع الهجر الذي وجدا أنه الحل الأنسب, ما دام زواجهما كاثوليكياً لا طلاق معه.‏

ما هو غير مألوف, صار هنا مألوفاً, فالهجر تم بالتراضي, بغير ضجة أو فضيحة أو اتهام أو شكوى متبادلة.. الوحيدة التي بكت كانت غبريلا, فأخذها أنداش في حضنه وقال لها بحنان أبوي:‏

- لا تبكي يا غبريلا, يا صغيرتي الحبيبة, لأننا, أمك وأنا, على تفاهم بشأنك, فأنت صاحبة الاختيار: تبقين مع أمك أم تأتين معي؟‏

قالت غبريلا باكية:‏

- أريدكما معاً, أحبكما معاً, في هذا البيت الذي ولدت فيه, وعرفت الهناءة في حضنيكما الماما وأنت.. إنني لا أعرف, ولا أفهم ما حدث.. الزواج, كما قيل لنا في المدرسة, رباط مقدس, فلماذا لم يبق رباطاً مقدساً؟‏

ابتسم انداش وهو يفكر بصياغة جواب مقنع, وكانت ابتسامته مصدرها أنه تذكر حكاية جبل الحب, والانحدار عنه بعد صعوده, وصعوبة شرحه, أو تفهيمه, لطفلة في سن اليفاعة بعد, لذلك اكتفى بالقول:‏

- رباط الزواج المقدس انحل تلقائياً, ودون أي شجار بيني وبين أمك, التي, كما أرى, تفضلين البقاء معها, وهذا جيد.. لن أنقطع عن زيارة هذا البيت, كلما سنحت لي الفرصة, وحتى إذا لم تسنح هذه الفرصة بسبب العمل, فإن من واجبي أن أزوره كل أسبوع, نهار الأحد, حاملاً إليك الهدايا.‏

- أنا لا أريد الهدايا, أريدك أنت, لماذا قررت الابتعاد؟ ماذا جرى بينك وبين ماما مارغو, لم أسمع أن شجاراً وقع بينكما, وأنكما تصرخان, كما يفعل بعض الجيران, وفجأة, دون سبب, تقرر الهجر, كما تجيز الكنيسة, حسب ما تقوله ماما مارغو, فما يعني هذا كله؟‏

- هذا ما سوف تعرفينه مستقبلاً, حين تبلغين سن الرشد.‏

- ومتى يكون سن الرشد هذا؟‏

- في الثامنة عشرة من العمر.. عندما تكبرين, وتكونين قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة, والتي هي في صالحك.‏

- يعني بعد ستة أعوام؟‏

- تماماً!‏

- وأصبح حرة, لا سلطة لأحد علي؟‏

- تصبحين حرة في حدود الأسرة والكنيسة.. أي بإمكانك أن تعملي إذا أكملت تعليمك, ومع العمل لك الخيار في البقاء مع والديك, أو الاستقلال عنهما, على شرط عدم الخروج على تعاليم الكنيسة, حيث يسوع والعذراء مريم, والاعتراف للكاهن, مرة في العام على الأقل, ولنقل في عيد الميلاد, كي يباركك, ويسأل الله أن يغفر خطاياك, كما يفعل معنا جميعاً. نحن الخطاة أبناء هذه الكنيسة جزيلة الاحترام.‏

قالت الأم مارغريت:‏

- باكر بعد, يا أنداش, على هذه الأسئلة وأجوبتها.‏

قالت غبريلا:‏

- ليس باكراً يا أماه, أريد أن أعرف كل شيء, سمعت؟ كل شيء.‏

قال أنداش:‏

- كما تقول غبريلا, تماماً إنها في العمر الذي تطرح فيه الأسئلة, ويُجاب عليها بالصراحة الممكنة.‏

قالت مارغريت:‏

- أنت-يا أنداش, عليك أن تتخلص من (تماماً) هذه, التي أصبحت لديك لازمة.‏

- تنبيهك في محله تماماً يا مارغو.‏

- أنت, لا تريد أن تنرفزني يا أنداش, أليس كذلك, دع تماماً هذه أرجوك, لنتكلم في المفيد فقط.‏

قالت غبريلا:‏

- بابا يتكلم في الذي يفيدني, يطلعني على أمور تدور في رأسي, ولا أجد أجوبة لها.‏

- مثل ماذا؟‏

- بلوغ سن الرشد, في الثامنة عشرة من العمر, وبعده الاستقلالية الشخصية, والعمل المفيد, المتلائم مع الدراسة الجامعية, والخيار بين البقاء في بيت الوالدين, أو اتخاذ سكن مستقل, البقاء عزباء أو الزواج ممن أحب, مع الاعتراف وطلب المغفرة.. أنت, يا أماه, كان عليك أن تقولي كل هذا, في اللقاء بعد الظهر, لتناول الشاي, أو عند شرب القهوة في المساء, لكنك لم تفعلي,لماذا؟ تخافين علي من معرفة كل هذه الحقائق التي أصبحت تدرس في الثانويات,ناهيك في الجامعة.‏

قالت الأم مارغو:‏

-إذا كانت هذه الأمور تدرس في الثانويات والجامعة,فستعرفينها في حينها,ويبقى عليّ النصح وحده,وكنت على استعداد له,دون غاية من ورائه.. والدك يا صغيرتي,يقول كل هذه الأشياء لغاية في نفسه,تعرفين ما هي؟‏

أنا أقول لك :غايته إبعادك عني!‏

قال أنداش:‏

-كلامي واضح وصريح تماما يا مارغو,وأنت سمعت هذا الكلام الذي لن أكرره: غبريلا ستبقى معك,وسأزورها كل أسبوع كواجب,وأزورها,أيضا,حين يتوفر الوقت,والقصد من الزيارة الاطمئنان عليها وعليك..إني غير حقود كما تتوهمين,فقد أحببتك,وتزوجتك,وبنينا هذا البيت بالتعاون والجهد المشترك,لكن الحب الذي كان بيننا لم يعد موجودا,مات,كما ولد مات,وكل ما يولد يموت,هذه سنة الحياة,والرغبة في الهجر كانت رغبتك لا رغبتي,فقبلتها ولن أتراجع عنها,وما أفكر فيه الآن,وقبل الوداع الأخير,هو صالحك وصالح غبريلا وبكلمة,أو عبارة,لمن أكتب هذا البيت الذي أتنازل عن نصيبي فيه,لك أم لغبريلا.‏

-لغبريّلا !‏

-فكري جيدا..‏

-وهل من داع للتفكير؟ المسألة ليست حل معضلة رياضية,أقول بعدها:وجدتها كما..‏

قال أنداش مقاطعا:‏

-أعرف أن إقليدس هو الذي قال:وجدتها! ..لكنني,بكل الصدق والحب الذي كان بيننا,أريد صالحك يا مارغو,فلا تتهوري..‏

-وأين التهور؟‏

-يا إلهي! وتسألين بكل سذاجة ؟البيت ينبغي أن تكتب ملكيته مناصفة,بينك وبين غبريلا..هذا رأيي.‏

-وما الدافع لهذا الرأي؟‏

-غدر الزمن!‏

-لم أفهم..‏

قالت غبريلا:‏

-وأنا لم أفهم أيضا,اشرح لنا..‏

قالت مارغو:‏

-نعم ! اشرح لنا ما تعنيه بغدر الزمن.‏

-سأشرح,ولكن بعد أن أشرب فنجانا من القهوة,من يد صغيرتي غبريلا.‏

سرت غبريلا بهذا الطلب,حديث والدها اليها اليوم كان مفيدا,كان جديا بالقدر الكافي,وكان يعني,بالنسبة إليها,أنه يضع ثقته فيها,فلما انصرفت لإعداد القهوة قال أنداش لغابو:‏

-غدر الزمن,يا عزيزتي,هو الخوف من أن يكون زوج غبريلا خروفا قبل الزواج,ثم ينقلب ذئبا بعده..أن يجعل ابنتنا تبيع البيت فتصبحين أنت في العراء.‏

-تقول :يفعلها؟‏

-من يدري ! الاحتياط واجب,لا أريد للزمن أن يغدرك بعدي.‏

بكت مارغريت,أو مارغو كما يسميها أنداش تحببا,نهضت وعانقته,زاد بكاؤها وهي تعانقه,الندم,على رغبتها في الهجر,فجرت دموعها,ودت أن يسامحها,أن يرفض رغبتها,لكنها تعرف أنه عنيد,وأنه هو الذي قال: مات الحب الذي كان بيننا يا مارغو!‏

فوجئت غبريلا ببكاء أمها على صدر أبيها,وضعت صينية القهوة على التربيزة,وعانقت والدها وبكت هي أيضا,حسبت أن البكاء سيعيد الأمور إلى نصابها,وأن أباها سيعود إلى امها,إلا أن الاب,الذي اتخذ قرارا لا رجعة عنه,ضم الاثنتين الى صدره فترة قصيرة,وبعد أن شربوا القهوة قال أنداش:‏

-لم أشرب قهوة لذيذة كهذه منذ زمن طويل..آه يا صغيرتي غبريلا كم يعز عليّ فراقك,لكنني,رغم البعد,سأكون قريبا منك ومن أمك دائما,والآن هاتوا أوراق البيت الثبوتية,وغدا صباحا سأنجز معاملة تطويب هذا البيت لك ولأمك مناصفة.‏

صاحت غبريلا باكية:‏

-هذا يعني ان كل شيء قد انتهى..انا لا أريد البيت,اريدك انت,ابق معنا.‏

قال انداش بحسم حزين:‏

-فات الاوان يا صغيرتي,وعليّ ان اضمن مستقبلكما بشكل جيد..لذلك كونا مستعدتين غدا او بعده للذهاب الى دائرة الطابو,وبذلك يصبح البيت ملككما,فحافظا عليه,لان فيه ذكرى عائلتنا.‏

كان ذلك منذ عشرين عاما,وفى خلالها أنداش بوعده,لم ينقطع عن زيارة ابنته,لم يتعامل مع زوجته المهجورة إلا بلطف لائق,فإذا قدمت له القهوة أو الشاي,شكرها,تحدث معها,سألها عن أحوالها,عن تدريسها مادة التدبير المنزلي,دعاها مع غبريلا الى تناول طعام الغداء أو العشاء,في المطعم الذي تختارانه,إلا أن ما رغريت كانت تعتذر,وفي هذه الحال يصحب ابنته,يستمع الى حديثها بانتباه تام,يطرح عليها بعض الأسئلة,يجيب بصبر على أسئلتها الكثيرة,يغتبط لأنها مجتهدة,تتقدم في دراستها,ولأنها ترغب,بعد الثانوية,بدراسة الموسيقىا في الكونسرفتوار,يشجعها على ذلك,لا يبخل عليها بالمال,إذا كانت بحاجة إليه,وإذا لم ترفض بإصرار أن تأخذه,تاركا لها حرية الاستقلال بعد بلوغها سن الرشد,مع توجيه هذه النصيحة أو تلك,في هذا اليوم أو ذاك,دون أن تفوته مناسبات الأعياد وهداياها,وكان يضحك ,أحيانا,حتى أمام مارغريت,إذا ما سئل عن عمله,قائلا بمودة:‏

-لا أزال أخلع الأسنان!‏

فتقول مارغريت ضاحكة:‏

-صار ذلك من الماضي يا أنداش,وكان مزاحا مني أن أدعوك خالع الأسنان.‏

فيجيب ضاحكا:‏

-ولماذا المزاح؟ أنا خالع الأسنان حقا,هذه هي مهنتي التي أعتز بها,ومنها آكل خبزي بعرق جبيني!‏

فإذا سألت غبريلا:‏

-وهل خلع الأسنان موجع كما يقولون؟‏

أجابها:‏

-لدي من المهارة والدربة,ما يجعلني أخلع حتى ضرس العقل,دون أن يتألم صاحبه.‏

- وهل صحيح أن تبدل عشيقاتك, كما تبدل قفازات العمل؟‏

- هذا مبالغ فيه يا غبريلا!‏

- وكم عشيقة بدلت؟‏

- ثلاث أو أربع, وهذا بسبب الملل, إني ملول بطبعي, فماذا أفعل؟‏

- ولماذا لم تنجب منهن؟‏

- كي تبقى ابنتي الوحيدة!‏

- كنت أريد أخاً.‏

- وكيف ذلك يا غبريلا, بالحرام؟ لا!‏

- وهل أنت متدين؟‏

- أنا كاثوليكي تماماً, وإلا لتزوجت, وتزوجت أمك أيضاً..الدين يا ابنتي, الدين!‏

- إذا كنتَ متديناً كما تقول, فإن الدين يحرّم الزنى, وأنت, سامحني, تزني!‏

- هذا صحيح ياغبريلا, ولكن إذا لم أخطئ أنا, ويخطئ غيري, فلمن يغفر الله؟‏

يضيف:‏

- لا تكوني متزمتة في هذه الأمور, أوسط الأمور أفضلها, علينا ألا نكون عاهرين, كما علينا ألا نكون محرومين من نعمة اللذة..هناك الحب, وهو ألذ ما في الحياة, وإذا كان الحب لا يدوم, فإنه يتحول بعد الزواج, يصبح حب أسرة مثلاً.‏

- أنا لا أؤمن بمؤسسة الزواج!‏

- غيرك قال هذا, ثم أحب وتزوج, وأنت ستحبين, وتتزوجين بعد التخرج من الكونسرفتوار, كل شيء في وقته, سيأتي الحب, والزواج, والأبناء, والأسرة, وإلا كيف تتواصل الذراري؟‏

- أنا لست مسؤولة عن تواصلها.‏

- أكثر الناس قالوا هذا, لكنهم, بعد الزواج, ,وجدوا أنهم على خطأ, لذلك أنجبوا, وبذلك تتابعت الذراري..كفى ياغبريلا, يا صغيرتي العزيزة, لا تتعجلي, الإنسان ابن تاريخه, ابن بيئته, ابن المرحلة التي هو فيها من العمر, وفي كل مرحلة يتبدل الفكر, يتحول الى فكر المرحلة التي هو فيها, صدقيني!‏

لم تصدق غبريلا ما قاله والدها, غير أن نبوءته, عن كل مرحلة والفكر الملائم لها صدقت, فبعد أن تخرجت من الكونسرفتوار, وعمل في تدريس الموسيقا, تعرفت الى الموسيقي امري الايوش, أحبته كما أحبها, تزوجا, وحضر والدها حفلة زواجها, وباركا هذا الزواج الموفق, فرحين كيوم زواجهما, وبعد شهر العسل سكنا الطابق الأعلى, ومضت سنوات قليلة دون أن ينجبا, ودون ان يعرف السبب, ما إذا كان العقم من غبريلا, أم من زوجها امري ألايوش, فتذكرت عندئذ قول والدها عن مؤسسة الزواج, وضرورة الإنجاب, وتتابع الذراري, وقالت في نفسها: (كم هو مصيب ورائع والدي, وكم لكلماته الرصينة, المشبعة بالتجربة والحكمة, من وقع جميل؟ يبدو أننا, امري وأنا, قد صعدنا جبل الحب, وتمتعنا في صعودنا الى ذروته, وفي ذروته نفسها, ثم بدأنا الانحدار من الطرف الآخر لهذا الجبل, ولا فائدة من الانكار! لقد أحببت امري حباً مجنوناً, وأحبني حباً عاقلاً, وهناك فارق كبير بين الحب المجنون والحب العاقل, لذلك كان الأقوى, وكنت الأضعف, وعندما لاحت له فرصة العمل في ألمانيا اهتبلها, وافق عليها دون التشاور معي, كما تقتضي الأعراف بين زوجين, قال لي ببرود قاتل:‏

- أنا ذاهب, هل تأتين معي؟‏

- أنت ذاهب للعمل في تدريس الموسيقا, فماذا أفعل أنا؟ اسع, هناك, في تدبير عمل لي, وسألحق بك فوراً.‏

- من الصعب تدبير هذا العمل, أنا خبير بموسيقا السيكان, موسيقا الغجر, التي تعب بارتون في جمعها وتدوينها, والتي تختص بها المجر وحدها, لأنها موئلها, وهم يريدونني هناك, في ألمانيا, لتدريسها, أما أنت, إذا ذهبت معي, فلن تجدي عملاً, لأن الألمان لا ينقصهم الموسيقيون, وهم خبراء وأساتذة فيها, وبعض الموسيقيين, من الألمان أنفسهم, لا يجدون عملاً..فكري بهذا!‏

- ولماذا التفكير؟ سأذهب معك والسلام!)‏

- ذهبت غبريلا مع زوجها أمري الى بون, كان راتبه متواضعاً, بالكاد يكفي لاستئجار بيت متواضع, من غرفة أو غرفتين, مع مرافقهما, فماذا يبقى للطعام والشراب؟ جربت أن تحصل على عمل, بادنى راتب, لكنها فشلت, وكان فشلها متوقعاً فلم تفاجأ به, وعندئذ توفرت, بما لديها من تجربة, على تقنين كل لوازم البيت, والعيش على الكفاف تقريباً, لكن امري بدا غير راض, غير مرتاح لوجودها معه, وكلما تحاورا حول أمر من الأمور صاح بها:‏

- انتبهي, أنا الخبير هنا, وأنت تعيشين على حسابي!‏

فترد عليه:‏

- أعرف أنك أنت الخبير هنا, لكنني ,أنا أيضاً, أتدبر شؤون هذا المنزل.‏

أستطيع تدبير شؤون منزلي بنفسي!‏

- أفهم من هذا أنك تريد أن أعود إلى بودابست؟ أن أتركك وحيداً.‏

- لاتخافي علي من الوحدة , فالتدريس يستغرق كل وقتي.. ثم هناك ما هو أهم: كوهبتك كموسيقية! الموهبة , ياغابريلا ,تحتاج إلى صقل, إلى مواصلة التمرين, وإلا ضاعت , وفقدت أصابعك ليونتها, تيبست, غدت غير صالحة للعزف على البيانو.. أقول هذا لأجلك, لصالحك ,كيلا تفقدي عملك هناك , بودابست, مضحياً لأجلك تضحية صعبة جداً علي.‏

قالت غابريّلا:‏

- لم نكن, لا أنت ولا أنا, بحاجة لكل هذا الشرح, وكل هذه الغيرية على مصلحتي وموهبتي.. أعرف مصلحتنا المشتركة بأفضل مما تعرفها, نبقى معاً, أو نعود معاً.‏

خبط أمري الطاولة بقبضته وصاح:‏

- لن أعود كما تحلمين, هنا عملي, هنا مصلحتي, هنا مستقبلي, فلا تفهمين خطأ.‏

ردت غابريلا:‏

- أفهمك بشكل صح.. أنت تطردني, وبوقاحة أيضاً, فأين الحب الذي كان؟ وأين الرقة والعذوبة؟ وأين اللياقة التي ينبغي أن يتحلى بها انسان مثلك, يطلقون عليه لقب فنان؟‏

وقفت غبريلا وهي ترتجف, تفّت في وجهه وقالت‏

-نذل! أسفي أنني كنت مخدوعة بنذل.. أنت فنان أنت!؟ أنت بريء من الفن, أو الأصح إن الفن بريء منك.. إنني عائدة إلى المجر, إلى بلدي, إلى بيتي , إلى الهجران الذي لا أقوى على غيره, مادام زواجا كاثوليكياً, الطلاق فيه غير مسموح به, إلا في حالة الزنى مع التلبّس, ولأنني غير زانية, ولن أكون زانية كما ترغب أنت للحصول على الطلاق, فإنني أكتفي بالهجر, وألعنك!‏

لم يرد امري, لم يحاول إرضاءها , لم يتحرك فيه نبض حياء,وزوجته, التي كانت حبيبته, تجمع أشياءها,وتوضب حقيبة سفرها, وحين غادرت البيت, صفق الباب بعنف وراءها.‏

في بودابست عادت إلى تدريس الموسيقا, عاشت مع والدتها, ومثل والدتها لم تحتمل حياة الهجر الكاثوليكي , فكان لها عشيق هي أيضاً, عشيق حسبت أنه سيعوضها عن الزوج الذي هجرته , إلا أن العشيق غابورمولينار تكشف عن نذل, عن فاسد, عن مجرم, كل همه أن يفترسها في الفراش, وأن يبتزها خارجه.‏

الفضيلة كما الرذيلة , لهما وقت محدد, تزهر فيه الفضلة وتتجلى, أو تنتكس مصابة بمرض الذبول كالأزهار, أما الرذيلة فإنها تتضخم , تنداح, تصل إلى حد الفضيحة, كما جرى لغبريلا وعشيقها المجرم غابورمولينار, والفضيحة ينتشر خبرها بسرعة , تتناقله الألسن, تتداوله الشفاه شماتة غالباً, ورحمة نادراً, يسري مع الريح إلى آخر الدائرة التي هو فيها , ودائرة كيد, حيث عيادة طبيب الأسنان, انداش تكاتتش لم تكن بعيدة , فجاء الأب بأقصى السرعة , عندما بلغه ما وقع لصغيرته العزيزة غابريلا.‏

استمع الوالد, بهدوئه المعتاد, إلى كل التفاصيل, هنأ ابنته على خلاصها من المجرم غابور, طمأنها إلى وقوفه الراسخ إلى جانبها, توقف, بشكل خاص , عند نقطة معينة: مَن هو هذا العربي الذي أنقذ غابريلا , والذي يسكن في الطابق الأعلى, جالساً على حقيبة سفره, دون أن يفتحها, ودون أن يشعل أيما ضوء في شقته, والذي تصفه زوجته السابقة مارغريت بالمعتوه والمجرم, وتخاف , حد الرعب, منه على ابنتها.‏

قال انداش لغابريلا:‏

- أعرف مبالغات أمك , وخوفها الجبان الذي لامبرر له, وأعرف غريبي الأطوار من أمثال هذا العربي الساكن في الطابق الأعلى , فما رأيك أن أصعد إليه, وأتبين حقيقته؟‏

قالت غابريلا:‏

- أنا معك في هذا, على شرط أن تكون مسلحاً بأي سلاح تدافع به عن نفسك.‏

- ولماذا السلاح ياعزيزتي؟‏

ردت الأم مارغو:‏

- لأنه معتوه ومجرم!‏

قالت غابريلا:‏

- ماما تبالغ, إنه غريب الأطوار فعلاً, لكنه لايؤذي.. أنا صعدت إليه, في أول يوم سكن فيه الشقة التي فوق, فوجدته يجلس على حقيبة سفره, لأنه , كما ادعى, قد يغادر هذا البيت في أية لحظة.. ومنذ تلك الحادثة, التي تبدت فيها شجاعته وشهامته لم نره مرة أخرى.. أرجح أنه غادر المنزل.. حتى بعد أن دفع إيجار شهر كامل.‏

قالت مارغو:‏

- اسأل الله, وشقيقتي العذراء الطاهرة, أن يكون قد ترك هذا البيت, فإذا لم يتركه فإنني على استعداد لرد ما دفعه حتى آخر فلّر.‏

قال الطبيب انداش:‏

- هناك تناقض عجيب في أقوالكما, أمك مارغو وأنت ياغابريلا .. كيف يكون شهماً وسيئا؟ وكيف يتصدى للمجرم غابور, ويكون هو نفسه مجرماً؟ وهل من المعقول أن يغادر شقته ويأخذ مفتاحها معه ؟ ثم, وهذا هو الأهم, كيف يتكلم كعاقل, ويتصرف كمعتوه؟.. يجب أن أصعد إليه, ودون سكين أو عصا, لأن كل ماسمعته عنه من سوء وهم في وهم.‏

صعد الدكتور انداش بهدوء , رن جرس الباب برفق, وإذا ايهم قمطور أمامه, يرحب به دون أن يسأله من هو, وماذا يريد.. وعندما قال لضيفه:‏

- تفضل بالجلوس!‏

اطمأن الدكتور, دهش, شيئاً فشيئاً, من دماثة ايهم , وكرمه, وحديثه الذي يدل على ثقافة جيدة.. ومن صراحته وصدقه, وقوله إنه يتاجر بالنبيذ والقشقوان المجريين, ولما تناول القهوة , سار ايهم معه إلى الباب, وودعه وداعاً فيه سلوك متحضر.‏

كانت غابور وغابريلا على نار, بانتظار عودة الدكتور انداش, الذي دخل مبتسماً , راضياً, مرحاً, قائلاً: هذا العربي أكثرنا عقلاً وخلقاً جميلاً.. إنه تاجر, شهم, مثقف, وكان عليكما أن تعتنيا به , بدل تصويره وهماً, إنه معتوه أو مجرم .. إلى اللقاء!‏

/يتبع/‏

حنا مينة

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...