حلم دالامبير لـ: ديدرو.. انتصار العقل والتفكير العلمي
أطلق المفكرون والباحثون والنقاد على القرن الثامن عشر تعبير «عصر الفلسفة» لاحتشاده بكبار فلاسفة العالم، وفي خضم هذا القرن ولد ديدرو عام 1713.
وكان قد نشر أول كتبه الفلسفية عام 1746، بعنوان (خواطر فلسفية)، حيث جاءت آراؤه مخالفة ورافضة للميتافيزيقيا التقليدية، وداعية للعقلانية كمنهج علمي.
ودالامبير هو المفكر العظيم وصديق ديدرو الذي شاركه لمدة ربع قرن بكتابة العمل الضخم الذي سمياه (الموسوعة) وقد كتب دالامبير مقدمتها.
وشارك في هذه الموسوعة معظم كتاب عصره الكبار: فولتير، وروسو، وسواهما...
جاء مقال دالامبير الافتتاحي في أصل الأفكار وتداخلها من أجل تقدم المعرفة العلمية والفلسفية. وعرض التطور التاريخي للحضارة الحديثة، ابتداء من عصر النهضة، مستشهداً بأعلام الفكر والعلم والثقافة، من أمثال: ديكارت وبيكون ونيوتن ولوك ولايبنتز ومونتسكيو وفولتير.
ومن جراء إصداره كتاب «خواطر فلسفية» -الصادر مؤخراً عن وزارة الثقافة السورية ترجمة عبود كاسوحة- فقد سجن لمدة ستة أشهر، وأراد ديدرو أن يضع، كما يرى بعضهم، أسساً مدنية للمجتمع، تقوم على احترام الإنسان، وجعله مركز كل تطور وتفكير. ولأن الزمن كان معاكساً لما طمح، فقد كان عليه أن يدفع الثمن.
أراد، تنفيذاً لمشروعه التنويري، ترجمة موسوعة إنكليزية في الفنون والعلوم، لكنه بمساعدة صديقه دالامبير، غيّر رأيه في الترجمة، وأصدر واحدة مشابهة لكنها مؤلّفة، ولها طابع البحث العلمي والفلسفي، وقد سخّرها صاحبها لنقد الأفكار التقليدية التي تسجن العقل وتأسر الفكر، فخرج بذلك عن السائد، مستخدماً الروح الفلسفية النقدية والعقلانية في تناول قضايا العالم الراهن.
ولذلك فقد رأى التقليديون في هذه الموسوعة تهديداً حقيقياً لعقائدهم، وخطراً يهدد آراءهم القائمة على التعصب والشعوذة العقلية. أكد ديدرو على وجوب البحث عن مكانة الإنسان في هذا الكون، وتناول جميع القضايا المتعلقة بتطلعات الإنسان وواجباته واحتياجاته وملذاته. وحث على الاهتمام بالقيم الإنسانية، ورفض أي استعباد، لأن قيمة الإنسان في حريته، وهو يقول: «من حق كل إنسان أن يستمتع بالحرية حين يستمتع بعقله» وشجب استغلال البشر من أجل تحقيق مكاسب مادية.
يروي أحد الكتّاب المعاصرين، وهو المفكر الإنجليزي فيليب بلوم، قصة مثيرة لتأليف هذه الموسوعة، معتبراً أنه في البداية كان ديدرو وزميله دالامبير يريدان ترجمة الموسوعة الإنجليزية لكي يطلع القارئ الفرنسي على آخر مستجدات المعرفة في عصره.
ومعلوم أن إنجلترا كانت قد سبقت فرنسا إلى النهوض العلمي والصناعي والسياسي، كما ذكر أحد الصحفيين الذين قرؤوا كتاب بلوم، وكانت تمتلك موسوعة «شامبر» المشهورة التي ألفت باللغة الإنجليزية بين عامي 1728 - 1742. وكانت تشتمل على مختلف المعارف والعلوم.
ولكن ديدرو بعد تأملات طويلة ومناقشات عميقة استقر رأيه على كتابة موسوعة جديدة، لا على ترجمة الموسوعة الإنجليزية حرفياً. وكان يهدف من ورائها إلى استعراض كل مكتسبات الروح البشرية -أو الفكر البشري- في مجال العلوم والصناعات والحرف على مدار القرون الماضية.
كان يهدف إلى تغيير العقلية الفرنسية عن طريق تشجيع الفكر الجديد ونشر الأنوار الفلسفية في مملكة الاستبداد والظلامية الأصولية. فالفرنسيون في ذلك العصر كانوا جهلة منغلقين على العلم والفلسفة ومحدودي الأفق.
ولذلك فكر هذا الفيلسوف الكبير بتنويرهم وإخراجهم من ظلام الجهل إلى نور العلم. ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقدم لهم معرفة جديدة غير المعرفة الكنسية السائدة: أي المعرفة التي يتلقونها عن الرهبان والمطارنة. وهي دينية في معظمها، ولا تولي أهمية تذكر للعلوم الحديثة.
ثم يردف المؤلف فيليب بلوم قائلاً: وقد انخرط ديدرو مع دالامبير في هذه المغامرة الضخمة لتحقيق هدف نبيل وعظيم. ثم اقتسم العمل مع شريكه منذ البداية. فدالامبير اهتم بالإشراف على المواد الخاصة بالعلم والرياضيات. وأما ديدرو فقد اهتم بمراجعة المواد الخاصة بالفلسفة والدين.
كتب ديدرو (حلم دالامبير) عام 1769، إلا أن هذا الكتاب لم ينشر إلا بعد موته. قام الكتاب على مجموعة من الحوارات بين ديدرو وصديقه دالامبير. وتهدف هذه الحوارات إلى نشر المنهج العلمي، وطرق التفكير الحديثة، عن طريق جدل ونقاش يتطور حتى الوصول إلى نتيجة مبدئية، ليتم تجاوزها إلى نتيجة أخرى، وهكذا، كما يرى أحد الكتاب، مع الزمن، ترسخت رؤية ديدرو الكونية، وتوسعت فلسفته الأصيلة، لتصبح أساساً لكل الماديين الذين عاصروه وخلفوه.
كندة السوادي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد