جرائم.. لكن القوانين قاصرة

07-07-2008

جرائم.. لكن القوانين قاصرة

تحلقوا حولها أبُ وأمٌ وأخٌ، وفي الصمت المطبق لحظة لقائهم كان بإمكانها سماع دقات قلوبهم المتسارعة شيئا فشيئا، نظرت في عيونهم واحدا تلو الآخر، فأدركت أنه قد تم اختيارها قربانا جديداً، أخفضت رأسها لتسهّل مهمتهم، فشُق الصمت بأصوات الرصاص من مسدس أخيها، صدى ضحكات طفولتها وصباها غردت فوق رؤوسهم جميعا، وقبل أن تنهمر الدموع فتلحق بهم عارا جديدا تحشرجت الزغاريد في حنجرة أمها وخرجوا من الباب واحدا واحداً لملاقاة طلائع المهنئين التي اجتذبتها رائحة الدماء وصوت الرصاص، فراحت تتوافد لتبارك قربانهم وتعلنه عرسا وطنيا عشائريا، وتعيد لهم في طقوس وثنية وعلى طبق من دمٍ.. شرفهم الذي خسروه في مضافات القوم بعد ثرثرة رجالهم ونسائهم.
لم تكن هدى أبو عسلي القربان الأول والأخير، فهي واحدة من الكثيرات اللواتي يُضحى بهن يوميا على مذبح ما تصر بعض الأوساط الاجتماعية على تسميته «الشرف».
ففي سورية وحدها يقدر عدد الضحايا سنويا بين 200 و 300 جريمة ترتكب تحت هذا الاسم، وهو رقم كبير جدا إذا ما قورن مع باقي الدول، وما يزيد الطين بلةً أن القانون هو الذي يحمي هذه الجرائم من خلال مواد تمنح المجرم الأسباب المخففة والمحلة من العقاب، تاركة الباب مفتوحا أمام الأفراد لقتل النساء بمجرد الشبهة، تحت ضغط من أعرافهم الاجتماعية. هذا وبالرغم من الصرخات والحملات التي أطلقها المجتمع مناشداً الحكومة لتغيير القوانين الجائرة، وشن حملات توعية اجتماعية بكل الطرق المتاحة، لتعيد للشرف فهمه الحقيقي، كقيمة تمثل الصدق والنزاهة والأمانة، لم تلق هذه الجهود صداها في الدوائر الحكومية المخولة باتخاذ إجراءات تساهم في الحد من هذه الجرائم.
وللوقوف على هذه الظاهرة وأبعادها التقت «أوان» عددا من أبرز الناشطين الإعلاميين والحقوقيين في سورية، ومن بينهم بسام القاضي، مدير مرصد نساء سورية، الذي أطلق بالتعاون مع عدد من الشركاء الحملة الوطنية لإيقاف جرائم الشرف، والتي جمعت عشرات الآلاف من التواقيع، ومن مختلف شرائح المجتمع السوري، محامين وقضاة وإعلاميين وأعضاء في مجلس الشعب، فسألته عن الجهود التي بذلها المجتمع السوري الناشط في هذا الإطار، وعن أهم المعوقات التي تحول دون نتائج إيجابية ملموسة فأجاب بقوله: إننا في سورية استفدنا في تجربتنا من البلدان العربية التي سبقتنا في هذا المجال، فنحن لا نريد لقضية جرائم ما يسمى بالشرف أن تكون ثورة ثم تنطفئ أمام التجاهل والصمت الحكومي، إننا نؤمن أن التغيير الاجتماعي لا يأتي بين ليلة وضحاها، وبالرغم من الأهمية الكبيرة لتغيير القوانين الجائرة المتعلقة بهذه القضية، إلا أن الجزء الأهم هو العمل على الصعيد المجتمعي، ونزع العقلية العشائرية، لقد قمنا بالكثير، وهناك الكثير من العمل أيضا ينتظرنا، والخطوة الأولى التي قمنا بها هي تسليط الضوء على هذه القضية بشكل دائم، وسخّرنا لها كل إمكانياتنا وطاقاتنا المتواضعة، لفتح هذا الباب والحوار حوله، والعمل على استمرار توهج شعلته دون أن تخمد، لقد أطلقنا مع شركائنا الحملة الوطنية لإيقاف جرائم الشرف، والتي استمرت كحملة مدة ستة أشهر، قمنا خلالها وعلى كل المحاور بجمع التواقيع، ونشر عدد كبير من المقالات، وإقامة ندوات ومحاضرات في عدد من المدن السورية، أحداها كانت مخصصة لأعضاء مجلس الشعب، بوصفهم السلطة التشريعية الأولى في سورية، وقد نجحنا بجمع 14 عضوا في واحد من أكثر الأيام توترا هنا في سورية، وهو يوم صدور تقرير ميلس الأول، وقد تمكنا من سحب الغطاء الديني عن هذه الجرائم، عن طريق تصريحات رافضة لعدد كبير من رجال دين مسيحيين وإسلاميين، ولا يزال العمل متواصلا، بالرغم من الصعوبات الكبيرة التي نواجهها في عملنا، وأهمها قانون الجمعيات، والذي نسميه في مرصد نساء سورية بقانون تدمير الجمعيات، فكما هو واضح أن الحكومة السورية تعادي كل عمل اجتماعي يصب في صالح المرأة... قبل شهرين فقط عقدت ندوة مدعومة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، تقول نعم لسحب التصديق على اتفاقية (السيداو)، وندوة أخرى حملت عنوانا مؤلما وهو لا للمساواة نعم للتكامل.
هناك جهود إعلامية غير رسمية كبيرة تبذل ونعمل على استمرارها، ففي باب جرائم الشرف في موقع نساء سورية أكثر من أربعمئة مقالة منذ إطلاق الحملة حتى الآن، وهناك عدد كبير من المواقع الشريكة والصديقة تشاركنا هذا الهم الاجتماعي، وهناك أيضا طرح لهذه القضية في الجهات الإعلامية الرسمية لكن الفضل في هذا لا يعود للحكومة، بل لأفراد ناشطين بعينهم ضمن هذه المؤسسات.
معضلة المادة 548
في سورية القاتل محمي بموجب قانون تمييزي، يتعارض مع الدستور ومع الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها سورية، وعلى رأسها اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) فتنص «المادة 548» من قانون العقوبات على أنه:
1 - يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو ايذائهما أو على قتل أو ايذاء أحدهما بغير عمد.
2 ـ يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر.
أما المادة/192/ من قانون العقوبات والتي أطلق عليها الدافع الشريف فتنص على :
« إذا تبين للقاضي أن الدافع كان شريفاً قضى بالعقوبات التالية...» إلا أن القانون لم يعرف الدافع الشريف ولكن القضاء السوري عرفه بما يلي : « هو كل عاطفة نفسية جامحة تقود الفاعل إلى ارتكاب جريمته تحت تأثير فكرة مقدسة لديه» .
حول هذه المواد والجهود القانونية التي بذلت للعمل على إلغائها أو حتى تعديلها نتيجة لتعارضها مع الدستور تقول المحامية والناشطة في مجال حقوق المرأة مجدولين حسن :
عن أي جهود يتحدثون، إن الجهود التي بذلها العاملون في القانون لوضع آلية تضبط جرائم الشرف، هي جهود تكاد تكون معدومة، فلم أسمع حتى الآن لا نقابة محامين ولا وزارة عدل ولا قاض أو محام قام بجهد منظم له علاقة بجرائم الشرف، وهنا أتساءل: هل نظمت نقابة المحامين ورشة عمل واحدة أو هل سمعنا وزير العدل يتحدث ولو لمرة عن جرائم الشرف. وبخصوص العمل المجتمعي تكمل مجدولين: إن العمل الفردي على هذا الصعيد هو عمل كبير لكنه لا يعدو عن كونه مجموعات تربطها دوافع الصداقة والهم المشترك، دون أن يكون هنالك عمل منظم، فلا يصح أن يطلق على هذه الجهود توصيف منظمات المجتمع المدني، وحتى كلمة مجتمع مدني هي كلمة غير قانونية في سورية، وهي بحد ذاتها تعتبر تهمة للمواطن السوري.
وتضيف مجدولين في حديثها: ثمة تعارض واضح وصريح بين مواد الدستور السوري ومواد القانون فالدستور السوري ينص في أحد بنوده على أن المواطنين سواسية أمام القانون، وفي بند آخر ينص على واجب الدولة بحماية الأفراد وممتلكاتهم، ولكن المادة 548 من قانون العقوبات تتعارض بشدة مع مواد الدستور تلك، في جانب الظروف المخففة وهذا ما يفرض تعديل مواد القانون فالدستور هو القانون الأسمى للبلاد.
القضية الاستثناء
وفي قضية تشكل استثناء هاماً في «جرائم الشرف» تمكن من خلاله الناشطون السوريون من قلب المعادلة جراء حرصهم على نيل المجرم جزاءه العادل، ونتيجة لذلك هو لا يزال في السجن حتى هذا اليوم بانتظار صدور حكم قضائي عادل بحقه في قضية قتله لزهرة عزو، التي كانت قد تعرضت للاختطاف والاغتصاب من قبل أحد أصدقاء العائلة في محافظة الحسكة السورية، وبينما ذهب المختطف إلى السجن أصبحت زهرة هدفا لغسل العار، لكنها قررت أن تهرب من موت محتوم ووصلت إلى معهد رعاية الفتيات في دمشق، وأقامت في المعهد تسعة أشهر تعرضت فيها لمحاولتي قتل من قبل أخيها الذي يريد غسل العار عن شرف عائلته، وفي المرتين تمكنت الجمعية السورية لتطوير دور المرأة «وهي شريك في إدارة المعهد» من معالجة المشكلة وحماية زهرة من القتل، وبدأت محاولات الجمعية لإقناع الأهل أن الفتاة ليس لها ذنب فيما حصل، وبعد ذلك قررت أن تتزوج ابن خالتها ذلك الشاب الذي أحبها وقدر أن لا ذنب لها بما حصل، وبعد أن حصلت على موافقة والدها وأخيها الذي حاول قتلها، تزوجت زهرة من ابن خالتها، وعقد الزفاف بحضور أفراد من أسرتها، لكن الأقارب لم يعجبهم
ما حصل فبدؤوا سلسلة التحريض والضغط على أسرة زهرة، وبعد شهر على الزواج جاء أخوها لزيارتها وفي اليوم التالي بعد أن ذهب زوجها للعمل، استيقظ وطعن زهرة أربع طعنات عميقة في الظهر وصلت إلى الرئة، وأخرى في الرقبة ثم فر هاربا، ولم تكمل زهرة يومها ذاك في مستشفى المجتهد في دمشق لتفارق الحياة عن عمر لا يتجاوز الستة عشر ربيعا.
ضغط عشائري
كما التقت «أوان» المحامية مها العلي عضو مجلس إدارة الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة، ورئيسة اللجنة القانونية فيها، والتي تولت قضية زهرة عزو لتشكل فارقا هاما في مسار هذا النوع من القضايا، فقالت: إن المشكلة في جرائم الشرف هي غياب طرف الادعاء الشخصي، وسقوط الحق العام نتيجة لعدد من المواد القانونية مثل المادة 548 والمواد المتعلقة بها، لكننا في هذه القضية تمكنا من إقناع زوج الضحية بالادعاء على قاتلها، فكان هناك حق شخصي لا تسقطه هذه المواد. هذا وبالرغم من الضغوط الكبيرة التي تعرضنا لها، والتي تعرض لها المدعي، متمثلة بجاهات كبيرة ضمن النظام العشائري، حاولت إقناعه بالتنازل عن حقه، إلا أننا وعن طريق التواصل الدائم معه وتشجيعه على المضي في الدعوى، تمكنا من إحراز نتائج هامة وهي على الأقل أن الدعوى لم يبت فيها حتى الآن، ولا تزال قائمة حتى ينال المجرم عقابه العادل.
تأثير الإعلام وتغيير عقلية المواطن

محاربة هذا النوع من الجرائم عن طريق السبل القانونية أمر مهم، ولكن ثمة شق آخر يجب التطرق له، ألا وهو محاولة تغيير عقلية المواطن لإقناعه بعدم جدوى هذه الجرائم، وهنا يبرز دور الإعلام كمؤثر له علاقته المباشرة مع المتلقي.
«أوان» أجرت اتصالاً مع رئيس تحرير مجلة الثرى يحيى الأوس ــ وهي مجلة معنية بقضايا المرأة وكان لها دور إيجابي كبير في الجهود المبذولة للحد من جرائم الشرف ــ وسألته عن الدور الذي لعبه الإعلام السوري والمعوقات التي تواجهه .. فأجاب بقوله: الإعلام في سورية تبنى الموضوع خارج المؤسسة الرسمية، ومن قام بالحملة هم عبارة عن مجموعة من الصحف والمواقع الإلكترونية الخاصة، وكان سقف المطالبات عاليا حيث طالبنا بتعديل المادة 548 والمادة 533 من جرائم الشرف، ولكن للأسف الشديد هذه الحملة باءت بالفشل، أما بخصوص المعوقات التي وقفت بوجه الإعلام يكمل السيد الأوس: هنالك تيار ديني يعتبر أن تغيير وضع المرأة هو لإفساد المجتمع، ويصف الناشطين في هذا المجال بالانحلال الأخلاقي، الأمر الذي وصل إلى حد التكفير بالإضافة طبعا إلى وجود سقف لا نستطيع أن نتجاوزه كإعلاميين.
لا بد وأن الجهود المبذولة في سورية هي جهود كبيرة، لكنها بشكل عام هي جهود لمجموعات ناشطة من الأفراد، لم تصل إلى درجة من التنظيم لتشكل تيارا قويا قادرا على إحداث تغيير ما في التركيبة الذهنية للمواطن السوري أولا، وفي نصوص قانون يحمي القتلة (الشرفاء)

عاصم جمول

المصدر: صحيفة أوان الكويتية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...