تدمير لبنان هدية إسرائيل إلى الإدارة الأمريكية

28-08-2006

تدمير لبنان هدية إسرائيل إلى الإدارة الأمريكية

إذا فسدت الدولة باغترابها عن شعبها وتعسرت مهمة إصلاحها تحولت عبئا عليهم في السلم وبالأخص في الحرب بسبب احتكارها امتلاك السلاح واستعماله، كما هي حال الدولة العربية المعاصرة، فكان مقدار ما يصيبون من النجاح في الدفاع عن أنفسهم مساويا لمقدار تخففهم من وطأتها والتضييق من سلطتها وانتزاع حقهم في حمل السلاح للذود عن حياضهم في مواجهة العدوان وبالخصوص من قبل عدو يفوقهم قوة وبطشا وسندا.

ظهر ذلك في الصومال وأفغانستان وفلسطين ولبنان والعراق بعد سقوط الدولة. ولم تكن عجبا انطلاقة الإسلام الأولى من جغرافية سياسية مماثلة.

وتقدم المواجهة مع العدو الصهيوني الذي أخضع وأرعب دول المنطقة وبطش بجيوشها في أكثر من موقعة، مثلا على عجز جيوش الدول المركزية في المواجهة مقابل النجاح المتحقق على يد المقاومة الشعبية في حال ضعف سلطات الدولة (لبنان) أو غيابها (فلسطين).

لقد أمكن للصهاينة أن يبطشوا في أقل من أسبوع بثلاث دول مركزية تحتكر السلاح. ورغم أن حرب رمضان 1973 عدلت الصورة قليلا فإن الكلمة الأخيرة كانت للصهاينة، وما استردت سيناء باهظا إلا منزوعة السلاح.

والأفدح إخراج الدولة الأقوى من ساحة الصراع مع عدو لم يتخل عن إستراتيجيته في الهيمنة على المنطقة، حيث تم تهميش مصر -المقصد الرئيسي لتأسيس الكيان الصهيوني- تاركة فلسطين وبقية دويلات العرب للافتراس أو الاحتواء.

وشعر الفلسطينيون بفداحة تركهم لمصيرهم يصارعون عدوا عجزت عنه جيوش العرب مجتمعة، فحاولوا أن يتخذوا من جوارهم قواعد انطلاق لتحرير أرضهم، إلا أن الأبواب سدت في وجوههم وارتكبت المجازر لتجريدهم من سلاحهم (الأردن)، وتكررت ملاحقتهم في لبنان، حيث أفادوا من تنوع التركيب المجتمعي وضعف الدولة المركزية، فتولى الأشقاء خطة تضييق الخناق عليهم، وفرض عليهم الرحيل بعيدا عن حدود الكيان الصهيوني، ليظل آمنا ومحروسا من دول تستمد شرعيتها الدولية وتمويلها من ذلك الدور.

فلم يبق أمام فلسطينيي الداخل وهم يرون تصاعد وتيرة نهب أراضيهم وتدمير مقدرات حياتهم من قبل عدو متوحش نهم، بينما المنظمة هجرت بعيدا، والمحيط العربي غير مبال، إن لم يكن متآمرا، لم يبق أمامهم وقد ارتقت مستوياتهم العلمية والإيمانية إلا أن يتسلموا زمام قضيتهم بأنفسهم فانفجرت في أواخر الثمانينيات انتفاضتهم الأولى التي كشفت عما تتوفر عليه الجماهير من طاقات للمقاومة غير محدودة إذا تمت تعبئتها لصالح قضية صحيحة، وفي غياب دولة القمع، فكانت أول وأضخم تحد يواجه الدولة العبرية المتوحشة، إذ واجهت صنفا جديدا من الأعداء ومن المعارك لا تسعف معه الوسائل المعتادة في حسم المعارك العسكرية.

هاهنا شعب لا وصاية عليه من أحد خلافا لبقية الشعوب العربية التي اطمأنت إسرائيل والنظام الدولي إلى حسن قيام الدول بجيوشها وأمنها وإعلامها بمهمة لجمها واستحلالها وتدجينها.

هاهنا فراغ لابد من سده، فبدأت المساومات مع منظمة جاهزة مشردة تتلمظ بحثا عن سلطة تشبع من خلالها عطشها إلى بهرج الحكم وملاذه أسوة بعصابات الحكم في أرض العروبة. وهكذا التقت الرغبة المحلية مع الرغبة الإسرائيلية والدولية في ملء هذا الفراغ وتخليق سلطة تتولى تدجين شعب متوفر على قدر من النخوة والحرية والكرامة رغم كل ما فقد، فكانت نكبة أوسلو التي حولت أقوى وأغنى منظمة للتحرير مجموعة احتكارات مالية وعصابات أمنية تم تدريبها وتسليحها على عين إسرائيل لتنهض بنفس الدور الذي ينهض به النظام العربي: تدجين الشعب، وتجريده من السلاح، وملاحقة المجاهدين وإجهاض كل جهد مقاوم، الأمر الذي فاقم الكمد والحسرة والغضب وبالخصوص مع تصاعد الغطرسة الإسرائيلية وإقدام شارون على قدح الزناد لمّا وطئت أقدامه النجسة الأقصى، فالتهبت الأرض المحتلة بانتفاضة ثانية أشد بأسا وجوبهت بقمع صهيوني أعتى، أشفى أحقاده التلمودية من كل شيء فلسطيني حتى السلطة التي صنعها، طفق يدمرها تدميرا، وانتهى إلى اغتيال رأسها، وهو ما كاد يعيد المشهد الفلسطيني إلى أصله: احتلال/مقاومة، بعيدا عن ضباب اسمه السلطة وبالخصوص في الضفة الغربية حيث بلغت المهزلة أن اعتقل نصف وزرائها وثلث المجلس التشريعي وفيهم رئيسه.

فهل بقي للسيد عباس وهو لا يتحرك قيد شبر إلا بإذن من المحتل، ما يحمله على التردد في الإعلان عن حل هذه السلطة عودا إلى حقائق الأمور بدل التمسك بالوهم وإعفاء المحتل من تبعات الاحتلال، وبالخصوص في الضفة، بينما الأمر في غزة أقل فجاجة حيث أجبر الاحتلال على الانسحاب ولم يقو إلا على ممارسة عدوانه بالقصف والتدمير واحتلال بعض الأطراف شبيها بما يفعل في لبنان حيث هاهنا ساحة أخرى شبيهة بفلسطين من حيث خفة وطأة الدولة على شعبها لا بسبب عفة، فالملك حسب ابن خلدون طبيعته الانفراد لو قدر، وإنما نتيجة للتركيب اللبناني المتميز بالتنوع والتوازن وتوزيع أنصبة أسهم الشركة على أكثر من عشرين شريكا، وهو ما رشح لبنان من وقت مبكر لإيواء المنظمة قبل أن يتألب عليها الذئب الإسرائيلي مع النظام الدولي والإقليمي، عندها دخل مسرح أحداث الشرق الأوسط لاعب جديد –وغالبا ما تتحول الأحداث المحلية في هذه المنطقة أحداثا دولية بسبب الأهمية الإستراتيجية لها- أعني المقاومة اللبنانية مستفيدة من نفس الخاصية: قوة المجتمع وضعف الدولة، ووجود دول مستعدة لمد يد العون، وهو ما أتاح لقوى مجتمعية أن تفصح عما تتوفر عليه من مخزون إيمان وتضامن واستعدادات للبذل والفداء غير محدودة، طالما أذاقت أعداء الإسلام صنوفا من النكال وجللت جيوشهم بعار الهزيمة ما واجهتهم وجها لوجه متحررة من أوهاق الدولة. حصل ذلك في الجزائر وفي أفغانستان وفي الصومال وفي لبنان سنة 2000 ويتكرر اليوم في أبهى صورة، حيث فشل أقوى جيش في المنطقة في أن يحقق أيا من أهدافه المعلنة: استرداد الجنديين، القضاء على حزب الله، وإبعاد صواريخه عن الحدود.
لقد ظل تعهد السيد نصر الله منذ اليوم الأول: لا عودة للجنديين دون تفاوض وتبادل للأسرى، بلا أدنى خدش، وظلت صواريخ المقاومة -أمطار الصيف- لآخر ساعة تنهمر حمما على عمق الكيان الصهيوني وتفرض على ربع سكانه الاختباء في الملاجئ أو الهجرة، فيتذوقون الكأس التي طالما جرعوها الفلسطينيين واللبنانيين.

الارتباك الحاصل اليوم في قمة هرم العصابة الصهيونية وتقاذفها مسؤولية ما حصل وتأليف لجان المحاسبة شاهد على الهزيمة النكراء التي أحاقتها المقاومة للمرة الثانية بالجيش الذي لا يقهر! بما جرده هو ووحداته المنتخبة من أهم أسلحته: الرعب، وتلك من أمارات ساعة أي كيان استيطاني مغتصب، وهو ما صرح به أحد رموزه المؤسسة "شيمون بيريز "إنها معركة وجود".

صحيح أن قطعان "الجيش الذي لا يقهر" ترك قصفها المركز على مقومات الحياة المدنية بشرا وحجرا دمارا هائلا وأشلاء ممزقة للصبية والنساء والشيوخ وتجار الخضر وقوافل الإغاثة والإسعاف وحتى جنود الأمم المتحدة، ولكن ذلك لا يغير من حقائق الأشياء شيئا: انهيار قوة الردع الجبارة، بمركافاتها وبوارجها ووحداتها الخاصة، أمام عزائم ثلة من المؤمنين من أبناء الجنوب مصممين على الذود عن قراهم ووطنهم ودينهم، فوجد الجيش الذي لا يقهر نفسه في حالة إرباك ورعب يأتيه الموت من كل مكان ولا يدري كيف يحمي نفسه.

ورغم القنابل الذكية التي زوده بها الشريك الأميركي والرعاية الدولية والإقليمية والتمديد له، آملا تحسّن وضعه، فقد اضطر بعد 34 يوما من الحرب المفتوحة للقبول بوقف القتال يائسا من أن ينال كسبا يستر الوجه أمام قطعانه المفجوعة المعتلة وأسياده الذين أوكلوه مهمة ضبط المنطقة وتأديبها، وأملوا أن يقدم لهم عوضا عما لاقوه من جحيم في العراق وأفغانستان فما أتاهم بغير مزيد من الهزائم.

كيف يستثمر النصر؟ ذلك هو الشغل الشاغل اليوم لكل القوى ذات العلاقة محليا وإقليميا ودوليا:

- محليا: رغم أن السيد نصر الله كان توفيقه في إدارة المعركة السياسية لا يقل روعة عن توفيقه في إدارة المعركة ميدانيا اتزانا وحرصا على وحدة الموقف الوطني، فكان جوابه لاستفزاز جنبلاط "لمن سيهدي هذا النصر؟: " لكل اللبنانيين" ورغم تماسك الجبهة الوطنية خلال العدوان فإن بوادر التفكك بدت على بعضها والجثث لمّا ترفع من تحت الأنقاض مركّزين الأضواء على سلاح حزب الله وواجب إخلائه من جنوب الليطاني بل نزعه جملة، مستظهرين بقرار دولي لم يفصح عن ذلك، وبحجة شكلية: أن السلاح يجب أن يظل احتكارا في يد الدولة، حتى وهم يعلمون يقينا أن ذلك مطلب إسرائيلي وأنه ليس الجيش اللبناني الضعيف هو العاجز عن مواجهة إسرائيل بل جملة الجيوش العربية مجتمعة، وأن المجاهدين الأبطال هم أبناء قرى الجنوب دافعوا عن ديارهم فمن ذا الذي له مصلحة في تجريدهم من سلاحهم وإقصائهم من قراهم غير العدو الصهيوني.

بل من ذا يقدر على ذلك وقد انهارت دونه أضخم آلة عسكرية؟ هل من المعقول في شيء أن تكون جائزة حزب الله على صموده الرائع في وجه أعتى جيش في المنطقة والعودة لشعبه بهذا النصر المبين، هي معاقبته بتجريده من سلاحه بينما في الأعراف العسكرية يجرد القادة من رتبهم بسبب الخيانة والهزيمة وليس نتيجة للصمود والبلاء العظيم والنصر المبين؟ هل يستحق الفريق الناجح في مجال الرياضة العائد إلى قومه مجللا بالبطولات الإهانة والإحالة إلى المعاش؟ عجيب أمر عرب هذا الزمان!

أليس من حق حزب الله بل من واجبه أن يدافع عن سلاحه وعن مرابطته بقراه في الجنوب للدفاع عنها في وجه عدو قام على الاجتياح والتوسع وبالخصوص أن لبنان تحول إلى عقدة ومركب نقص لهذا الجيش الذي لا يقهر. من يضمن لأهل الجنوب ومجاهديه بالذات ألا يغير عليهم الذئب الصهيوني للانتقام والثار؟ الحقيقة التي يجب على الفرقاء اللبنانيين أن يعترفوا بها أن قانون اللعبة وموازين القوة قد تغيرا. لبنان الأمس لن يكون نفسه.

-عربيا: معظم النظام العربي من أفصح منه ومن أسرّ كان يتمنى ويتوقع أن يأتي الاجتياح الإسرائيلي على حزب الله في أيام معدودات، بعضه بدوافع سياسية تتغشى بغلاف طائفي زائف، ومعظمهم إن لم يكن جميعهم يخشون من تأثير انتصار إسلامي في لبنان يرفع من طموحات ومعنويات مد إسلامي في بلادهم هم في حرب صامتة أو معلنة معه، غير أن موقفهم آل إلى حرج بصمود حزب الله وتحول الرياح لصالحه فهرولوا يقدّمون لأنفسهم بالإعلان عن تخصيص مساعدات للبنان وبطاطين وتبرع بالدماء وإعلان أيام تحزّن. وكلهم متوجسون من هذه السابقة: انتصار قوة شعبية ذات توجه إسلامي وانعكاساتها على أوضاعهم خاصة وقد بلغ إفلاس النظام العربي حد العجز عن الاجتماع لإصدار بيان شجب.

وبالمقابل فقد أبرزت الحرب السادسة انتصار إيران وسوريا وحماس والشارع العربي والإسلامي الذي تحرك من إندونيسيا إلى المغرب وعبر الشتات قافزا فوق كل الدعوات الطائفية النشاز، ومن وراء ذلك كل القوى المناهضة للعولمة، وكان الرئيس هوغو شافيز أبرزها.

- دوليا: عبرت الحرب السادسة عن مدى التشابك بين الإستراتيجية الأميركية والصهيونية لدرجة أن شيراك فوجئ في اجتماع الثمانية ببطرسبورغ بالرئيس الأميركي يقول "هذه ليست عملية إسرائيلية وافقت عليها الولايات المتحدة لكنها عملية الولايات المتحدة تنفذها إسرائيل".

يعلق الصحفي تيري ميسان بعبارة أدق :"إن خطة تدمير لبنان قدمتها إسرائيل إلى الإدارة الأميركية قبل العام الماضي، وفقا لما أفادت به سان فرانسيسكو كرونيكول "(صحيفة الحياة 4-8-2006).

ومعنى ذلك أن الشرق الأوسط الجديد الذي جاءت خطة اجتياح لبنان في سياقه إزاحة لعقبة أساسية من طريقه: المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية تمهيدا للإطاحة بالممانعة السورية والإيرانية بالإخضاع أو التدمير، مرة أخرى أجهضته المقاومة بفضل الله.. وانتصرت الجماهير.

راشد الغنوشي

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...