بعد مصالحة القدم.. «لهم جنيفهم ولنا جنيفنا»

30-01-2016

بعد مصالحة القدم.. «لهم جنيفهم ولنا جنيفنا»

على كرسيّه المتحرّك، ينتظر أبو عدنان (61 عاماً) الانتهاء من إتمام إجراءات دخول أهالي حيّ القدم في ريف دمشق الجنوبي للعودة إلى منازلهم، بعد دخول مصالحة المنطقة حيّز التنفيذ. يقول الرجل: «خرجت من الحيّ مع أولادي منذ أن اشتعلت الأحداث وبدأت المعارك فيه، وانتقلنا للعيش في منطقة سكن عشوائي حتى اليوم، وقد آلمني منظر الدمار في منازل جيراني أكثر من منزلي».
مشهد عودة أهالي الحيّ الذين يقدّرون بحوالي 400 عائلة (خمسة آلاف نسمة تقريباً) إلى منازلهم المدمّرة بعد أكثر من أربعة أعوام من الشتات، يذكّر بمشهد تهجير السكان إبّان اقتحام تنظيم «الدولة الإسلامية» لمخيّم اليرموك، أحد أكبر الحشود البشريّة غير المسبوقة في تاريخ الأزمة السوريّة. الدمار هو كلّ ما ستلتقطه عيناك أينما نقلتها، إذ تبدو مفردة «النكبة» وصفاً بليغاً للصورة.. عيون الأطفال المنهكة من التعب والخوف، ألمٌ لن تستطيع الكلمات وصفه.
لم يشهد حيّ القدم استهدافاً كبيراً بسلاح الطيران أو المدفعيّة لمواقع التنظيمات المسلّحة، كون جزء يسير من السكان فضّل البقاء فيه. ومعظم الاشتباكات التي شهدها الحيّ، كانت بين فصائل المسلحين أنفسهم، أو بينهم وبين مسلّحي «داعش»، لذا لم يكن حجم الدمار في الأبنية شبيهاً بذلك الذي حلّ بمخيم اليرموك المجاور له، بالرغم من وجوده طبعاً، لكن السرقات كانت أكبر خسائر العائدين.
سنواتُ البُعد لم تُنسِ خالدة تاريخ خروجها من منزلها، تقول السيدة الأربعينية بتأثّر بالغ: «أذكر أنّني خرجت من منزلي صباح 17/ 7/ 2012، وإلى الآن لم أعد إليه. لا أعلم عنه شيئاً». تتابع والدموع تشاركها حديثها: «لقد خسرت زوجي ومنزلي وعائلتي وأتنقّل في منازل أقربائي، وعدت اليوم لأجد نفسي واقفةً على أطلالهم فقط».
هذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها توقيع اتّفاق مصالحة محليّة في حيّ القدم في دمشق. فقد شهد صيف العام 2014 توقيع اتّفاق المصالحة في الحيّ ضمن ما عُرف حينها بتسوية جنوب العاصمة، وتمّ تنفيذه مع مسلّحي الحيّ تحت رعاية «قوّات الدفاع الوطني» آنذاك، ولم يكن تنظيم «داعش» قد دخل إلى خطّ المواجهة هناك بعد.
في الصيف الذي تلاه، شهد الحيّ أوّل محاولة لاقتحام تنظيم «داعش» إثر خلاف مع مسلّحي ما يعرف بفصائل «الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام» المسيطر على حيّ القدم، والذي كان قد أعلن بدوره الحرب ضدّ التنظيم بعد محاولته التمدّد من ضاحية الحجر الأسود باتّجاه القدم. وبالفعل، تمكّن مسلّحو التنظيم من التسلّل بمئات العناصر إلى القدم، ليسيطروا على نصفه تقريباً، عبر محور العسالي المتاخم له، ما أدّى إلى فصل القدم عن الأحياء المهادنة مثل ببيلا، وبيت سحم، ليتعرّض الحيّ إلى حصار شديد من قبل التنظيم.
مع بداية العام الحالي، أُعيد تفعيل الحديث عن مصالحة الأحياء الواقعة جنوب العاصمة دمشق، ومن بينها حيّ القدم. وتنصّ الهدنة المذكورة على إخراج عناصر «داعش» من تلك الأحياء إلى الرقّة ـ أكبر معاقل التنظيم في سوريا ـ بسلاحهم الخفيف والمتوسّط، في مقابل تسليم تلك المناطق إلى الدولة السورية وتسوية أوضاع المسلّحين فيها، ودخول قوافل المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المحاصرين هناك، بالتزامن مع وصول حافلات كبيرة تقلّ الأهالي إلى مداخل الحيّ.
في اليوم المنتظر، صباح الأربعاء 20 كانون الثاني الحالي، واكب وصول الباصات الخضراء التي ارتبط حضورها بملف المصالحات هدوء مريح إلى حدٍّ ما. الوضع يوحي بالأمان لدرجة أنَّ عناصر الأمن الموزّعين على مداخل الحيّ، كانوا بغنى عن خوذاتهم ودروعهم العسكريّة، كما غابت أصوات الاشتباكات عن سمع الأطفال المتعثّرين بالأكياس التي فاقت أحجامهم تقريباً، وهم يحاولون مساعدة أمّهاتهم في حمل ما استطاعوا. وما تحدّث به العائدون، يبشّر بأملٍ طال انتظاره.
الحي مقسّم حالياً إلى ثلاث مناطق سيطرة (بشكل تقريبي، ثلثين للمسلّحين وواحد للدولة). يعيش الجزء الأول من منطقة المسلحين في ظلّ مصالحة سابقة، أمَّا الثاني، فيتمّ العمل عليه ليدخل نطاق المصالحة أيضاً في وقت قريب. والتسوية الموقّعة مؤخراً ستكون على مراحل، بدأت بزيارة الناس إلى منازلهم وتفقّدها كما نصّ الاتفاق، بالتوازي مع خروج المسلّحين من الحي، بحسب مصدر أمني. وفي مرحلة مقبلة، سيتمكّنون من المكوث فيها والتنقّل بحريّة بين منطقة القدم وبين دمشق، كما جرى سابقاً في ببيلا، حيث تمّ تسجيل مفصّل لهويات كل العوائل قبل الدخول والسماح لهم بإدخال ما يشاؤون، على أن يخرجوا في نهاية اليوم.
وسط محطة القطارات المشهورة في المنطقة، اصطفّت العائلات التي شكّلت النساء والأطفال وكبار السن السواد الأعظم منها، وعيونهم تسبر كتل الاسمنت التي اخترقتها القذائف والرصاص في سنوات غيابهم. عين على الذكريات، وعين أخرى على الغد المجهول، وقد يُفاجأ أصحاب البيانات والخطابات الذين ما زالوا يحاولون عرقلة «جنيف 3»، أنَّ شروط هؤلاء الناس للعودة إلى حياة شبه طبيعية أبسط وأسهل بكثير من كل ما يعطّل اجتماعاتهم للخروج بحلّ، ليختزل السوريون مأساتهم بأربع كلمات «لكم جنيفكم.. ولنا جنيفنا».

سناء علي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...