برقاوي يتحدث عن ثقافة الانحطاط وثقافة التحرر

24-01-2008

برقاوي يتحدث عن ثقافة الانحطاط وثقافة التحرر

يحدث أحياناً أن تكون جالساً أمام شاشة «التلفزيون» تشاهد بثاً حياً لبرنامج ما أو تتابع مباراة بكرة القدم أو حفلاً فنياً. وفجأة ينقطع الإرسال وتغيب الصورة. لكن أن تكون جالساً تصغي إلى محاضرة باستمتاع وفجأة يقطع المحاضر حديثه مختتماً إياه على نحو يبدو مبتوراً فهذه حالة نادرة واستثنائية وهذا ما فعله «أو حدث» مع الدكتور أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق مساء الإثنين في ثقافي أبو رمانة عندما كان يتحدث عن ثقافة الانحطاط وثقافة التحرر قائلاً: «هذا رأيي أنا فما الذي تريدون قوله؟» مخاطباً جمهور الحضور من كتاب ومثقفين وإعلاميين وطلبة إذ أشار إليه أحد الحضور منبهاً أنك تتحدث وأمامك «ميكروفون» إحدى الفضائيات العربية!!
 ليفاجأ د. برقاوي متسائلاً باندهاش باد وبعينين كبيرتين كمن وقع في ورطة «أهذا مباشر؟!» وكان وصل حينها في محاضرته إلى القول: «إن أكبر مظهر للانحدار من الثقافة إلى الغريزة هو ما يحدث في بعض البلدان – قالها بالاسم الصريح – إنه شيء مقرف» ولم يوضح أو يشرح أو يدلل كعادته عندما يعطي أمثلة!! ليتابع بعدها بطبقة صوت بدت وكأنها مختلفة «يجب ألا تخاف من القول إذ ذاك فإن قولي لا معنى له إلا إذا كان هناك بشر فاعلون. لا أحب اللغة التي فيها التزام فبقدر ما يكون الإبداع جميلاً يكون فاعلاً» وهنا ينهي برقاوي محاضرته مستمعاً ومعلقاً على المداخلات ولم يكن بعد أشبع نهمه ونهم الحضور تبعاً للعنوان المطروق وحالة التدفق الإسقاطي الفرضي والتأكيدي التدليلي المنسابة بأسلوب مشوق والتفاعل الواضح بصرف النظر عن موافقة البعض أو معارضة بعضهم الآخر لما ذهب إليه د. برقاوي وإن كان بدا للبعض أنه أحاط بجوانب موضوع محاضرته.

إذاً لعلها السياسة وتداعياتها التي تطل برأسها دائماً والتي قال عنها د. برقاوي: «إنها تدخل في كل شيء حتى في العشق» عندها ندرك أن ما قد يقال ضمن الأبواب المغلقة وتبعاً للزمان والمكان والظروف قد لا يقال في «الفضاء المفتوح» وما قد يقال هنا لا يصح قوله هناك أو ربما يقال لكن على نحوٍ إسقاطي توروي أو تلميحي غير مباشر ودائماً حسب الحامل والمحمول أو لعلها سطوة الإعلام وحضوره الطاغي وما يمكن أن ينفخه رماداً يستحيل جمراً كاوياً.
د. برقاوي الذي كان تطرق إلى «ثقافة الخوف» انطلق في بداية حديثه عن «ثقافة الانحطاط وثقافة التحرر» من معنى «الانحطاط» ليقول عن مجتمع «إنه منحط.. إذا كان مجتمعاً راكداً بالمعنى التاريخي والراكد هو المجتمع الخلُو من فئات وطبقات اجتماعية صاعدة تطرح مشروعها للتقدم الإنساني» وأهم معلم من معالم الانحطاط الثقافي «غياب الإنسان ومن ثم غياب الحرية» ويعقب «إذا كان كذلك وهو كذلك فإننا بتنا نعيش عصر انحطاط كلي» ذلك لأن «الانحطاط ثقافة سائدة والسلوك المترتب عليها هو سلوك بالضرورة منحط» فإن السؤال الذي يطرحه د. برقاوي هنا يقول: «كيف يبدو الانحطاط واقعياً؟!» وللإجابة عنه يقول: «إن السبب الأرأس لسيادة ثقافة الانحطاط هو القضاء على قلب المجتمع» وباعتبار أن كل المجتمع الصاعد يشترك في إنجاز التقدم التاريخي – حسب برقاوي - «لكن إذا بطل قلب المجتمع (الفئات الوسطى) فاعلموا أن الانحطاط حاصل لا محالة» وبرأيه أنه قضي على هذه الفئات فعالية ومشروعاً.. و«هكذا راح التاريخ يزحف على بطنه بعدما كان يمشي على قدميه وأصبح متثائباً فكلما فتح عينيه يخاف من النور فيغمضهما ليغط في سبات عميق».
وأهم شكل لثقافة الانحطاط هو «موت الآخر.. الإنسان قد مات ومن ثم لم يعد وجودي مرتبطاً بوجودك ولهذا فإن الخلاص الفردي بموت الآخر» ذلك أن تاريخ الفئات الوسطى «قاد المجتمع الجاد الحيوي الذي لا يطرح إلا خلاصاً جماعياً» أما ما هو حاصل «بروز ثقافة الذلة رمزاً لثقافة الانحطاط» والخلاص الفردي يتجلى - تبعاً لـ برقاوي – بظاهرتين: الانزواء والعكوف من الاندماج بالهم العام (موت الآخر) والتقوقع خوفاً على المصير الذاتي «انزوى خائفاً أو يذلل خوفه بإقامة علاقة مع ذاك الذي لا يخاف (الله) فينعزل معه كي يجد الخلاص الإلهي مثل الفردي لا يشير إلى فاعلية البشر الجمعية» فيصبح المجتمع «كائنات كالدود لا حول لها ولا قوة».
أما الظاهرة الثانية فهي «انهزام قيمة الوطنية لأنه في هذا العزوف الكامل والتقوقع غياب للمواطنة إذ لا مفهوم لوجود الوطن إلا بفاعلية المواطن» ويدلل برقاوي على ما ذهب إليه هنا مفسراً: «لذلك ترون خيانات الوطن تفقأ العين دون ردود فعل كبيرة أو دونها ألبتة» ذلك أن الوطنية برأي الدكتور المحاضر «تمنح البشرية القوة من أجل الدفاع عن الوطن لأنك تحبه وعندما تفقد هذا الحب تصبح مجرداً من سلاح الوطنية، والخطر في ثقافة الانحطاط عدا فقدان الحب هو أن يموت الوطن وتظهر الخيانة دون أي رادع أخلاقي ولأن ثقافة الانحطاط على هذا النحو الفاقع يصبح كل شيء مباحاً من الكذب إلى ظهور ثقافة «الزعبرة» إلى الاحتراف الكاذب فالانحطاط العلمي وبروز المثقف الوطواط واغتيال اللغة وبروز خطاب القبح.
وإذا كانت الثقافة من زاوية الإبداع أمراً على غاية من الأهمية فالإبداع في ظل هذه الثقافة «يتحول إلى جزر معزولة» ذلك أن «شرط الإبداع يغيب عندما يصبح المجتمع بلا قلب ولا روح فتموت العلاقات المعشرية ولا يصبح لدينا معيار للإبداع الحقيقي في الأدب» ولا ينفي د. برقاوي حالات من الإبداع هنا وهناك لكن «المبدع مقاوم الانحطاط لا يصنع تاريخاً ولا نهضة فالنخبة تساعد التاريخ على الولادة والسياسة هي التي تخلق الجنين».
إذاً يرى المحاضر أن «المبدع أو النخبة قابلة قانونية» لكنه يعقب: «لا تطلبوا من النخبة ما لا تستطيع أن تفعله».
أما ثقافة التحرر فهي «ثقافة مشروع نحو المستقبل.. مشروع حلم كثقافة بديلة من ثقافة الانحطاط» وهي تتجلى في «وعي طوباوي في العالم.. ذلك الوعي الرافض للعالم المقدم حالة أشمل» وينبه د. برقاوي «ليست الطوباية مذمة» ويذهب إلى أبعد من ذلك «بل إن نفساً طوباوية لأطهر من نفوس كثيرة تسوّغ المستنقع الذي نعيش فيه ومن يقول إن هذا طوباوي لا يريد العالم فدعوا الطوباوي يرسم العالم فمن يكون طوباوياً في لحظة يصبح واقعياً في لحظة من التاريخ» ذلك أنه «لا يعتد بالنقد الواقعي الزائف والواقعية الزائفة هي للذي يرضى بالعالم كما هو.. لا.. الممكن أغنى من الواقع».
النمط الثاني من ثقافة التحرر «تلك الثقافة التي تعمل على التقاط لحظة ما قابلة للتحقق في التاريخ» ولكن هذه يستلزمها «حاسة شم.. إذا استطاع البشر التقاط إمكانية ما مقرونة بالإرادة الضرورية سار التاريخ» وإلا فإن «العفن يصيبها وعندها تموت وتميتنا» والأخطر برأي د.برقاوي «أن يتصور البعض أن هناك إمكانية في التاريخ ويكون التاريخ خلواً منها فيقدمون تضحيات كثيرة لكنها تكون هنا مجانية».
ويرى أن المعيار الحقيقي للتقدم هو «تحقق الحرية» لكونها «الحقل الوحيد الذي يسمح للإرادة أن تدخل التاريخ غير هيّابة» والسؤال المطروح: ما دور الثقافة المبدعة في صياغة مشروع التاريخ؟! والجواب يجب أن يكون مؤسساً على أن «ليس من حق أحد أن يطرح مشروعاً ويحمل الناس عليه فيضع علامة مع أو ضد» ذلك أن «أهم معلم من معالم ثقافة التحرر هو ثقافة الاختلاف والتنوع والتعدد» ما يولد مشروعات.. أما إذا كان معيار المشروع هو الحرية.. فإذ ذاك تصبح المشروعات جميعها في خدمة هذا الهدف العظيم».
د. برقاوي يضيف أمراً آخر يتعلق بالمشروع الثقافي «ليست المشكلة الثقافية أن المشروع ثقافي صرف فهو سياسي.. لا نفع للثقافة وحدها» وأكثر ما يخشى في استمرار ثقافة الانحطاط «أن يعود المجتمع إلى المرحلة الغريزية إلى ما قبل الثقافة فيصبح الإنسان غريزة ليس إلا» والتعبير عن هذا الخوف هو «ثقافة التسلية التي تخاطب الجسد في مرحلة ما قبل الثقافي» ذلك أن (ينهي د.برقاوي محاضرته التي حضرتها إحدى الفضائيات) «أكبر مظهر للانحدار من الثقافة إلى الغريزة ما يحدث في بعض البلدان- قالها بالاسم الصريح- شيء مقرف!!»..

علي الحسن

المصدر: الوطن السورية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...