باتريـك موديانـو: أكتـب كسـائق يقـود فـي الضبـاب

05-10-2012

باتريـك موديانـو: أكتـب كسـائق يقـود فـي الضبـاب

باتريك موديانو، واحد من ابرز الروائيين الفرنسيين المعاصرين الذين يتمتعون باحترام القراء والنقاد، على السواء، وتشكل كلّ رواية جديــدة له حدثا ما، إذ من الصعب أن تمرّ مرور الكرام من دون أن تثير الردود والتعليقات.
آخر أعماله، «عشب الليل» (غاليمار) وفيها يستعيد أيضا جزءا من طفولته وشبابه في باريس، بالأحرى، ربما لم يكتب موديانو سوى أجزاء من ذاكرته، وكأنه يعيد، بمعنى من المعاني «بحثه عن زمنه الضائع».
صحيفة لوفيغارو التقته بمناسبة صدور روايته، في حديث طويل، هنا ترجمة لأبرز ما جاء في هذا الحوار.
باتريـك موديانـو
÷ تقول إن في أصل كلّ رواية من رواياتك، هناك دائما صورة تفرض نفسها عليك فجأة. هل أن الأمر هو عينه مع «عشب الليل»؟

} أجل.. يبدو الأمر معقدا على الشرح.. لم تكن صورة، هذه المرّة، بل ثمة شيء جاء فجأة. ذات يوم، ذات نهار أحد كئيب، مثلما بدا لي، وجدت نفسي خلف محطة مونبارناس، وتحديدا في شارع أوديسا، إذ كانت هناك زاوية عرفت فيها، في نهاية الستينيات، فترة كئيبة من حياتي (وإن كنت قد أقفلت عليها). فترة من الوحدة، من الانعزال، من التهديد. كنت أتجول تائها، من دون منزل، كنت في الثامنة عشرة من عمري، وكانت الغالبية في ذاك الشارع في الواحدة والعشرين من عمرها، أي كان بإمكانهم أن يوقفوني أينما يريدون، كنت أخاف ذلك، خوف مرعب. حين نكون شبانا فالعواطف تكبر من دون قياس. إيجادي ذلك الشارع مجددا أعادني إلى هذا الإعياء. لم تتغير المباني، بل كانت أكثر وضوحا فقط، كأنها نزفت. مشيت لغاية فندق «أونيك» وأنا أشعر بأن توأما ما لا يزال يعيش في هذا الجوار من دون أن يشيخ.

÷ بالضبط، يظهر فندق أونيك منذ الصفحات الأولى، حتى أنه نقطة انطلاق التحقيق الذي يقود الراوي إلى الاهتمام عن قرب ببعض نزلائه. هل عشت في هذا الفندق؟

} أجل، لفترة قصيرة.. في الستينيات كان يدير الفندق شخص «غريب»، إنه أحد «أبطال» قضية بن بركة». والناس التي تختبئ فيه كانت تعرف أن الشرطة ستتركهم بحالهم. في تلك الفترة، كانت بعض الفنادق في باريس محمية من قبل «الألوية» الدنيوية.. حين سرت إلى جانب واجهته، تذكرت ذاك المناخ، أحسست كأنني وجدت نفسي أمام كلب مليء بالقش، كلب كان لنا، أحببناه، لكنه لم يعد موجودا...

÷ ما كان جرى لو لم تجد تكــملة لهــذا اللقاء؟ هل أنت محكوم، في كلّ مرة، إلى التقـدم نحــو كتاب جديد؟

} لا أعرف، أعرف بالضبط أن كلّ كتاب يبدأ بهذه الطريقة. أغرق فيه، من ثم، وبعد 15 يوما، تنبثق المشكلة نفسها، أي هذا الإحساس بأننا أخذنا طريقا سيئا لا يقود إلى أي مكان.

÷ تقول إنك تكتب مثل سائق يقود في الضباب.

} أجل، لا يعرف إلى أين يذهب، فقط يعرف أنه مجبر على التقدم.

÷ لماذا؟

} لأنه لا يمكن القيام بأي شيء آخر. أخشى أن أترك كتابا على الطريق. كيف أشرح هذا، ليس خوفا من فشل داخلي، أبدا، الخوف من أن التخلي عن كتاب قد يحطم شيئا في العمق، أن يجبرني على استعادة كل شيء من البداية، وأن أجد نفسي غير جدير بالقيام بهذا، أي أن أبدو كقافز السيرك الذي يرمي نفسه بالفضاء كي يصل من ضفة إلى ضفة. إني أصل المقاطع ببعضها بعض، نخترع علاقات، تصنع الرواية عبر المقاطع، كما القاطرات التي تربك ببعضها. هل تفهم عليّ؟

÷ أجل

} هذا العناد يتأتى أيضا من واقع أني فقدت مخطوطا، منذ زمن طويل، أولى مخطوطاتي، التي كتبتها قبل «ساحة النجمة»، وكنت أتمسك بها جيدا.

÷ كيف فقدت هذا المخطوط؟

} لا أعرف بالضبط.. كنت في مدرسة داخلية وقد تم طردي لأني قرأت كتابا لكوليت، يتراءى لي أني وضعت المخطوط عن أناس كي يحتفظوا لي به.. لا أعرف إن أضاعوه أم أنا الذي أضعته؟ لم أجده مجددا أبدا.

«عشب الليل»

÷ هل أن عنوان كتابك مأخوذ من ديوان للشاعر جوزف بولان كما يمكننا أن نقرأ ذلك على أحد مواقع الانترنت المخصصة حولك؟

} أبدا! هذا الموقع عائد لشخص اقتصادي، كما أعتقد.. لقد نشر كتابا عني بدون استشارتي، والأنكى أنه لا يمكن القيام بأي شيء ضده. يأتي عنوان الكتاب من قصيدة لأوسيب ماندلشتام. لا أعـــرف إن كانت اللغة الروسية تعبر بالطريقة ذاتها، لكن العبــارة بالفرنســية «عشب الليل» تبدو لي أنها تعكس مناخ كتابي: هذه الــذكريات التي تنبجـس مثل العــشب والتي نقصــها إلى ما لا نهاية.
÷ نجد الكثير من «الدفاتر» في هذه الرواية. نجد الراوي بحاجة إلى ذلك كي لا يضيع وسط ذكرياته كما وسط ذكريات الآخرين. هل نجدك كــذلك أيضا؟ هل تحـمل دفاتر؟
} ليس بالضبط.. أسجل بعض الجمل، أشياء أقول عنها إنه يجب أن لا أفقدها. لدي عشرون دفترا. لا أبحث فيها بالضرورة.

÷ تجري أحداث الرواية حول محطة مونبارناس، ومن ثم باتجاه «الترينيتي». هذه الحدود بين الضفة اليمنى والضفة اليسرى، هل ما زالت حاضرة بقوة، برأيك، مثلما كان عليه الأمر منذ سنوات، حين كنت تجتاز «البون رويال»، وأنت تشعر بالراحة، كما تقول؟

} لقد اختلف الأمر اليوم، هذه الراحة كانت مرتبطة بالواقع من خوفي بأن يتم إيقافي. كنت أشعر بالطمأنينة أكثر في الضفة اليمنى، إذ كانت هناك العديد من الأماكن التي يمكن الاختفاء فيها، في حين أن الضفة اليسرى تبدو لي أكثر انفتاحا، بالنسبة إلى المراهق الذي كنت عليه، كانت الفانتازيا الاجتماعية موجودة بالقرب من «ليه هال»، «البيغال»، «الشنزيليزيه».. هذا التمايز لم يعد موجودا. ثمة حوانيت في كل مكان اليوم.

÷ أليست هناك أماكن جديدة في باريس يمكن لنا أن نجعلها ساحرة؟

} بلى، ربما ناحية مكتبة فرانسوا ميتران، هناك بعض الأشياء الميتافيزيقية، المرتبطة بالفضاء، بنهر السين، بأنوار الليل.

÷ تكتب في روايتك إن هناك وسيلة للنضال ضد النسيان، تكمن في الذهاب إلى أماكن في باريس لم تزرها منذ ثلاثين أو أربعين عاما، وأن تبقى فيها طيلة فترة بعد الظهيرة كما لو أنك تقوم بالمراقبة. هل هذا أمر لا تزال تقوم به اليوم؟

} كلا، لم أعد أخرج كثيرا، اشعر بأن الحي الذي أسكن فيه لم يعد لديه أي علاقة مع ما أنا عليه. لقد اصبح حيا للحوانيت، لم تعد الأشباح موجودة هنا، أو ربما هي في عمري تقريبا (يضحك).. أفكر بشارع فور. في الخمسينيات، كان شارعا هامشيا، ذا صيت شيء تقريبا، نلتقي فيه بكل الأشخاص غريبي الأطوار. من الحماقة أن نتكلم بهذه الطريقة...

÷ تبدو كأنك تجد اليوم اقل صعوبة في الحديث عن كتبك وعن نفسك مما كنت عليه في بداياتك؟

} هذا صحيح

÷ كيف تفسر الأمر؟

} في بداياتي، كنت أتلقى الكتــابة وكأنها نوع من الإرغام، أن تبدأ الكتابة باكرا، فهذا أمر مرعب، إنه يتخطى قواك، عليك أن تحمل أشــياء ثقيـــلة وأنــت لا تملك الوسائل لذلك. مؤخرا، أعدت رؤية مخــطوطاتي الأولى، وتفاجأت بغياب المساحات بين الخطوط، لا مجال للتنفس. هكذا كانت حالتي النفسية يومها، اليوم الضغط يبدو أقل حدة.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...