القاعدة في لبنان

26-04-2007

القاعدة في لبنان

على دفعات تخترق مخابرات الجيش منطقة «أشعب شعيب» في القبة، أحياناً بالتنسيق مع فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. تلتقي شباناً قبل أخذهم الى التحقيق «لمدة نصف ساعة وشرب فنجان من القهوة»، أو تطلب منهم تسليم حقائب كانت قد وضعت لديهم أمانة وتتركهم ثم تستدعيهم في اليوم التالي ويختفون. المخبرون الذين تعتمدهم أجهزة الدولة يعرفهم السكان. هم أيضاً أبناء الأحياء الفقيرة، ويشاركون في عمليات التعرف على المطلوبين.
يختفي الشبان الذين يذهبون لـ«شرب فنجان قهوة»، وبعد عشرين يوماً سيعلم الأهالي أن أبناءهم صاروا في وزارة الدفاع في اليرزة. يتلقى بعضهم اتصالات هاتفية تسمح لهم بزيارة أبنائهم وجلب الملابس لهم، الى سجن رومية او المحكمة العسكرية. الا أن المسافة الفاصلة بين يوم الاعتقال ولقاء الأهل «من أهوال جهنم»، بحسب ما يروي المعتقلون.
يقبع محمود الأسعد (أبو جعفر) وحيداً في زاوية وعلى رأسه قناع أسود، وفي يديه وقدميه قيود، وحين يروي لمن يلتقيه حكاية اعتقاله سيردد «مثل غوانتانامو»، يتعرض للضرب، يدفعونه دفعاً الى الاعتراف بالانتماء الى تنظيم «القاعدة»، وحين يسمع شتيمة لدينه يحاول الرد، ينتفض ويعصي أمر المحقق العسكري، يتلقى رد فعل المحققين، يتعرض للضرب على الرأس، ويعذب بأساليب شتى، ويعلّق لمدة 15 يوماً على البلانكو. يكشف محمود الاسعد عن كتفيه وظهره ليري زواره آثار التعذيب، يتهم بأنه خبير متفجرات في المجموعة التي اعتقلت بناءً على اعتقال بسام حمود وملاحقة نبيل رحيم. وهو سيروي لمن يزوره أنه كان يتوضأ مقيد اليدين والقدمين وأنه كان يغتسل عارياً تحت أعين السجانين.

قبل اعتقال الأسعد، وهو في بداية العقد الرابع، كانت للرجل حياة كاملة، على رغم بؤسها. هو صاحب بسطة لبيع عصير الليمون، يديرها الآن شقيقه الأصغر، فيما يقضي أخوه الأكبر وقته متنقلاً بين منزل أخيه حيث يساعد عائلته الصغيرة على أسباب الحياة، ومكتب محام اختاره مسيحياً من منطقة قريبة. تزوج منذ سنة ونصف سنة، ووضعت زوجته مولودها الأول قبل اربعة اشهر. وهو من ضمن مجموعة شبان يلتقون للصلاة في المسجد نفسه الذي اعتقل مؤذنه، او بحسب رواية اخرى طلب مؤذنه للتحقيق ففر من دون أن يترك أثراً. ويعود الخلط الى ظهور (او عدم ظهور) الأشخاص في قاعات المقابلات لدى لقاء الأهل.
يتحدث إمام مسجد حمزة الذي «فقد» مؤذنه عن الاعتقالات قبل أن تعلن في الصحف، فيتلقى اتصالاً من مرجعية دينية تشير عليه بعدم التحدث عن الموضوع «لكونه يحرج مرجعيتنا السياسية»، يصمت إمام المسجد عن الكلام المباح لتصدر الصحف بعناوين كبيرة عن «القاعدة» وشبكاتها، فيعجب احد الشبان من اتهام شقيقه بالإثراء وهو لا يملك سيارة، ويقول آخر إن سيارة شقيقه المعتقل تساوي 1500 دولار، بينما يسألنا شقيق أحد المعتقلين كيف يمكن ان يكون شقيقه خبير متفجرات وهو أمّيّ لا يعرف القراءة والكتابة؟
قبل اعتقالهم كان الشبان من «مجموعة محمود أسعد» يلتقون يومياً مرات عدة للصلاة ولتلقي دروس دينية. بعد بضعة دروس التزم الشبان، وبات يُنظر اليهم كمتفقيهن في الدين. هم الذين تلقوا علوماً بدائية ومعرفة بسيطة بالقراءة في منطقة يندر فيها ان يتابع شخص تعليمه فوق مستوى الابتدائي، ولا يشذ ابو جعفر (أسعد) عن هذه الحال، فهو أُمي، تلقى علومه من القرآن بمحض جهده الشخصي، وهو الآن من الشبان السلفيين الذي يتدربون بين حين وآخر على فنون القتال (كيك بوكسينغ).

يقوّم الشيخ بلال شعبان المجموعة بالقول إن نبيل رحيم وبسام حمود من «الشبان الأنقياء»، واذا كانت بقية المجموعة انتخبت «المرجعية السنية» بحماسة الانتماء الى الطائفة فإن حمود ورحيم بقيا على موقفهما البعيد عن الحريرية و«المستقبل» في طرابلس.
ورغم اعتبار «حركة التوحيد» من حلفاء حزب الله «الشيعي»، ورغم التشدد المذهبي الذي بات يطبع أغلب الشبان السنة في طرابلس، والسلفيين من ضمنهم، الا ان كثيرين من أهالي المعتقلين لجأوا الى الحركة وغيرها للمساعدة في إطلاق أبنائهم، وتكفل أسامة شعبان بالوكالة، في منطقة لا تتوافر فيها في المنزل الواحد كلفة توكيل محامي لدى كاتب العدل، ويقول اسامة شعبان إن المعتقلين حالياً 11 وهناك شخصان فاران، الا أنه لا يمكن تأكيد العدد ببساطة لأن إجراءات تتخذها مخابرات الجيش قبل تحويل المعتقلين امام قاضي التحقيق جان فهد، قد تعوق معرفة العدد الكامل للمعتقلين.
يتفق كل من عرف حمود ورحيم، كالشيخ هاشم منقارة الذي يتحدث بهدوئه المعهود، على أن الشابين من العقلاء، وهما على موقفهما الخاص وقناعاتهما العميقة، الا أنهما وخصوصاً بسام حمود، «غير انفعاليين» ويصعب أن يذهبا مذهب «القاعدة» في قتل المدنيين. يشير منقارة الى «تضخيم إعلامي» في وصف ما يحصل بأنه «عمل منظم لشبكة تابعة للقاعدة». ويحمّل بعض الجهات في دول معينة مسؤولية دعم هذه المجموعات مالياً وتقنياً.
في مركزه في منطقة ابو سمرا يتحدث الشيخ داعي الإسلام الشهال، ابن مؤسس التيار السلفي في لبنان، عن اساليب التعذيب التي علم بها، «المنع من النوم، ضرب على الرأس والجسم والأرجل وغيرها من أساليب التعذيب الشنيعة» يقول قبل أن يضيف، وبصعوبة تنسحب منه الكلمات «السنة هم مكسر العصا في لبنان، كل الطوائف تتكتل وتتدرب على السلاح من الشمال الى الجنوب، إلا أن الأمر محظور على أهل السنة». ويحذّر من تراكم الظلم الذي قد يؤدي الى ما حصل في الضنية التي «لم تكن إلا ردّ فعل على الظلم».
أئمة أحد المساجد في قلب طرابلس يجلس في مكتبه، وبعد أن يلوم الاعلام، يقول إنه حاول التدخل بعدما زاره اهالي المعتقلين. ويضيف الشيخ السلفي مستنداً الى خبرته الطويلة في هذا المجال إن «مخابرات الجيش ستقول لنا إنهم اعترفوا فكيف سنقوم بدعمهم؟ وستقول إنه عثر على بندقية هنا او هناك لتثبيت تورط الشبان. بينما في واقع الحال فإن أكبر خلية للقاعدة في لبنان هي حزب الله نفسه»! ويشرح بأن «حزب الله» يصرح بامتلاكه 30 الف صاروخ «ويصرخ بالموت لأميركا ولإسرائيل»، معتبراً ان مثل هذا الطرح «يقوّي شخصاً مثل سمير جعجع، وهو اخطر طرح على لبنان»، ويسأل: «لماذا لا يتم التعرض لحزب الله بينما يعتقل هؤلاء الصيصان؟»
ويشرح الشيخ محمد خضر السلفي الذي يدعو الى الحوار بين الإسلاميين بمختلف فئاتهم أوضاع السلفيين، «الذين يعيشون اليوم في لا مركزية»، مضيفاً إن هذه المجموعة قد لا تكون مرتبطة بأحد، ولها أفكارها الخاصة. ويوضح: «هناك شبان يفكرون بأسلوب مشابه للمقاومة العراقية او الشيشانية او حتى لنمط تفكير القاعدة، ويعدّون ذلك أسلوباً للتغيير، ومن يفكر بهذه الطريقة لا تنقصه الا جهة تمول أعماله، فيما الأجهزة الأمنية لا تنقض على هؤلاء رغم أنها تراقبهم كل الوقت، الا بعد وقوع المحظور»، لافتاً الى أن «مشكلة هؤلاء الشبان الفعلية هي القهر والفقر والبطالة والاستبعاد من الحياة، وغياب مشروع واضح حتى لخدمة أهدافهم النبيلة. بينما اللجوء الى الأجهزة الأمنية اللبنانية وقبلها السورية، تجربة غير مشجعة في هذه المنطقة وخاصة أن الأجهزة تعتمد الفبركة».
العديد ممن تلتقيهم من ضمن التيار السلفي الجهادي او السلفي المناصر، يرون أن قناعة تكونت لدى الشبان من امثال مجموعة بسام حمود ونبيل رحيم بأن المشكلة في لبنان تأتي من النفوذ الشيعي، وأن مخابرات الجيش اللبناني والجيش نفسه يؤيد هذا النفوذ السياسي لـ«حزب الله»، وهو ما يصرح به شبان مراهقون لم تكتمل بعد لحاهم في احياء طرابلس الأفقر حالاً. كما يعتقد الشبان الملتزمون دينيا أن قوات اليونيفيل في لبنان ستمنع من يريد قتال اسرائيل منهم من التوجه الى قلب المعركة المنتظرة ضد العدو الاسرائيلي، «حيث من واجب كل مسلم الجهاد في سبيل تحرير القدس. عدا عن كون اليونيفيل نفسها جيوش اجنبية في لبنان، لن يستقيم وضع المسلمين في لبنان الا بعد جلائها».

ارتبط محمود اسعد بمجموعة الشبان، وعلى رأسها كان بسام حمود المقاتل السابق في صفوف التوحيد، والذي تخلى عن الحركة وفر من ملاحقة الجيش السوري لأعوام طويلة، وكان موضع متابعة الأجهزة الأمنية اللبنانية لفترة طويلة. فيما كان نبيل رحيم يعدّ من القادة المحليين للمجموعة الملتزمة دينياً، وكان ثمة جو معاد للشيعة قد بدأ ينضج. «حين يجدون بندقية هنا تداهم كل المخابرات منازلنا وتنتهك حرماتنا، ولكن من يصرح بأن لديه 30 الف صاروخ لا يشكل اي مصدر للملاحقة القانونية» يقول أحد الشبان في الحي وهو يروي قصة مجموعة بسام حمود. بينما يقول أحد أهالي المعتقلين «إن كانوا مذنبين فليقتصّوا منهم ولكن لماذا التعذيب؟»
كان ابو جعفر (محمود اسعد) ينزف من قدميه الموثقتين، ورغم ذلك كان يتوضأ ويصلي علما بأن الدم النازف يبطل الوضوء. لم يكن يرى الضوء في وزارة الدفاع، الا انه من الصعب إقناعه بأنه متطرف ومرتبط بتنظيم «القاعدة»، فيما هو يقوم بما لا يزال يعتقده السبيل الوحيد لتغيير حال ملّ منها، ورأى أخاه الأكبر وأباه وعائلته وكل منطقته وحتى كل الشمال يعانيه: الحياة في الذل، الحياة خارج الحياة، وهو حين يلتقي زواره في سجنه يشد من أزرهم.
ما يقوم به ابو جعفر من ذهاب الى الصلاة ضمن مجموعة وتلقيه تعاليم دينية سلفية هو ما يقوم به كل ابناء المنطقة تقريباًَ، يجتمعون في حلقات من الاصدقاء ويشتركون في الصلاة وتلقي الدروس الدينية، والانتماء الى ما يبرر لهم تعب الدنيا ويصور لهم طرق الخلاص، إن لم يكن في هذه الحياة الدنيا، ففي جنات ستجري من تحتها الانهار، ولو اقتضى ذلك الانتحار نسفاً بأعداء حقيقيين او متوقعين.
ليس نبيل رحيم وحده من فر من قبضة مخابرات الجيش، بل ثمة مجموعات اخرى تخاف من الانتشار العسكري الذي يغطي طرابلس، شيء ما يجري في شمال لبنان والمعتقلون ينظرون الى يوم التحرر للعودة الى «سبيل الله».

 

فداء عيتاني

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...