(الدرس انتهى لموا الكراريس):تاريخ المجازرالإسرائيلية الذي يعيدنفسه

13-01-2010

(الدرس انتهى لموا الكراريس):تاريخ المجازرالإسرائيلية الذي يعيدنفسه

يحتل الفيلم الوثائقي اليوم، دوراً بارزاً في تشكيل صورة الكثير من الأحداث التاريخية حتى بعد مرور زمن طويل على حدوثها... ويعمل بما يمتلكه من إمكانات فنية وموضوعية ديناميكية على وضع الكثير من الأحداث في سياقها الدلالي، بما يجعل منها وسيلة لتشكيل رؤية، وأداة لتعميق حالة وعي، وإثراء الوجدان العام.
وربما كان خير تعبير على كل تلك القيم والأهداف فيلم (الدرس انتهى... لموا الكراريس) الذي عرضته قناة 'الجزيرة' أخيراً... وهو فكرة وسيناريو للكاتب والصحافي المصري محمد الحربي، ومن إعداد: زينب عبد الرزاق، وإخراج مها شهبه.
ينطلق الفيلم من مجزرة (مدرسة بحر البقر) في محافظة الشرقية، التي دمرتها إسرائيل بطائرات الفانتوم الأمريكية يوم الثامن من نيسان (إبريل) عام 1970، أثناء ما عرف بحرب الاستنزاف التي شنتها مصر ضد إسرائيل على شكل عمليات كانت تهدف إلى محو عار هزيمة حزيران 1967.
قتلت إسرائيل في تلك المجزرة (31) طفلا، وجرحت (26)، وقد كان الحدث في حينه مروعاً... إذ لم يحدث أن استهدفت مدرسة في عمليات حربية على هذا النحو الإجرامي المدمر... وقد أثار ذلك في حينه الرأي العام العربي، لكونه حدثاً غير مسبوق، لكن الفيلم لا يتوقف عند تلك المجزرة فقط، بل يسعى للمقارنة بينها وبين مجزرة مماثلة ارتكبتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة، حين دمرت في السادس من كانون الثاني (يناير) عام 2009 مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة غوث اللاجئين في جباليا، فقتلت (43) شهيداً، جلهم من الأطفال!

رؤية تأملية تمد الجسور!

يسير الفيلم في مسار تأملي وتحليلي عميق، يتفحص فيه جوهر التشابه بين المجزرتين اللتين تفصل بينهما تسع وثلاثون سنة... سواء على صعيد حجم التدمير، أو على صعيد فكرة انتهاك براءة الطفولة، أو على صعيد ردود فعل أهالي الضحايا، أو على صعيد الوضع القانوني لكلتا المجزرتين، والدعم الأمريكي المباشر وغير المباشر الذي قدم ويقدم لإسرائيل من أجل تسهيل ارتكاب مثل تلك المجازر، أو حمايتها من المساءلة والعقاب!
ثمة سعي حثيث للقول بأن تاريخ المجازر الإسرائيلية يعيد نفسه... وأن تاريخ التخاذل العربي في المطالبة بدم الضحايا يعيد نفسه أيضاً... وأن تاريخ الصمت الدولي يكاد يعيد نفسه، رغم أن الوضع قد تغير قليلا في الحرب على غزة 2009 ... لكن ما لم يتغير قيد أنملة في كل تلك المقارنات الظاهرة والخفية التي يعقدها الفيلم بلا أي تعليق... هو أن الاستعداد الإسرائيلي لارتكاب المجازر حتى بين صفوف الأطفال مازال هو... هو... لم يتغير ولم يتبدل؛ وكأن شهوة القتل والتدمير في هذا الكيان مازالت بالقوة الدافعة نفسها... لم تغيرها اتفاقات سلام، ولا حديث عن مفاوضات، ولا قيام سلطة ذاتية في الأرض المحتلة، ولا أي اتفاقات أو عهود أبرمت أو نكث بها! وهكذا تنحو المعالجة الفنية والفكرية في الفيلم، إلى مد الجسور بين مجزرتين، باعدت بينهما السنون والظروف والجغرافيا، لكنهما اجتمعتا على مصدر العدوان، وعلى بشاعة القتل والتدمير... ولهذا نجد أن الشهادة التي يسجلها صناع الفيلم لوالد أحد شهداء مجزرة مدرسة بحر البقر، تغطى بلقطات مما حدث في مجزرة مدرسة الفاخورة في غزة... فيبدو الوصف المشهدي للجريمة متطابقاً إلى حد مذهل ومؤلم... تبدو لغة الخوف واحدة... ولغة الغدر في استهداف مدنيين في مواقع مدنية واحدة... ولغة الغدر والمباغتة في تنفيذ الجريمة واحدة أيضاً.
وينظم الفيلم زيارة لمجموعة من الناجين من مجزرة بحر البقر ممن صاروا اليوم في العقد الرابع من العمر... إلى مجموعة من الأطفال المصابين في مجزرة مدرسة الفاخورة بغزة عام 2009، من الذين كانوا يعالجون في مستشفى فلسطين بالقاهرة... فيبدو لقاء ضحايا الأمس باليوم عنواناً لزمن الجريمة الدائري الذي يكرر نفسه، والذي يسعى الفيلم للتأكيد على عناصر تشابهه كما أسلفنا، كي نرى أي ذاكرة عربية غارقة في النسيان... وغافلة عن ربط وقائع الماضي بالحاضر من أجل حماية المستقبل!

يوم دراسي طويل!

يقوم الشكل الفني لسيناريو فيلم (الدرس انتهى.. لموا الكراريس) على استلهام بسيط وموح، لتقسيمات اليوم الدراسي... فيقسم مادته على حصص دراسية، تحمل كل حصة فيها عنوان الفكرة التي تتم معالجتها: فالحصة الأولى هي استهلال هجائي للحدث: (ق ت ل) والحصة الثانية مواصلة له (ض ر ب) والحصة الثالثة (د ع م) وتتناول أشكال الدعم الأمريكي لإسرائيل، وكيف يتكرر ذلك الدعم دائماً وأبداً مع كل مجزرة، بالالتزام اللا إنساني نفسه!
ولا ينسى كاتب السيناريو أن يخصص في استلهامه لشكل اليوم الدراسة، حيزاً لـ (الفسحة) التي يخصصها للحديث عن أغنية شهيرة لصلاح جاهين كتبها بعد مجزرة مدرسة بحر البقر عام 1970 بعنوان (الدرس انتهى.. لمو الكراريس) ونشرها في مربع الكاريكاتير المخصص له في جريدة 'الأهرام'... فضلا عن إشارته الافتتاحية لفيلم (العمر لحظة) الذي أنتجته ولعبت بطولته الفنانة المصرية ماجدة الصباحي، وتطرق لأحداث مجزرة مدرسة بحر البقر!
وفي فسحته الدرامية والغنائية تلك... يناقش الفيلم أسباب غياب التعبير الغنائي أو الشعري عن مجرزة مدرسة الفاخورة في غزة عام 2009 قياساً بما قدم عن مجزرة بحر البقر... ويبدو الجواب الذي يقدمه بهاء جاهين جديراً بالتأمل، فالصور هنا التي كانت تنقل لحظة بلحظة وعلى مدار اليوم عبر البث الفضائي المفتوح، تبدو أكثر بشاعة، وأكثر ترويعاً وصدمة بما يتجاوز أي إبداع شعري يمكن أن تعبر عنها... فهي تعبر عن ذاتها بذاتها إلى درجة تتجاوز أية بلاغة شعرية... ناهيك برأينا- عن بلاغة حالة العجز العربي المحبط، وعن الانقسام العربي في التفرج على الضحايا أو توجيه اللوم لهم أحياناً في ظرف بعيد جداً عن آمال المقاومة والسعي لاستعادة الكرامة التي كانت تشيعها حرب الاستنزاف!

لغة الإحساس التراجيدي!

قدمت مخرجة الفيلم مها شهبه، صورة مشحونة بالحس التراجيدي في تأمل تفاصيل المجازر... أرادت منذ البداية أن تستعيد تاريخاً، وأن تعقد مقارنة مع تاريخ لحظي آخر، بإيقاع تأملي... يستنبط إحساس الزمان والمكان وألم الضحايا... سواء تحولت كراريسهم وملابسهم المدماة إلى أشلاء في متحف، أو تحولوا إلى روايات على ألسنة أهاليهم المسكونين بحرج فقد الأبناء وغيابهم، أو صاروا نتف ذكريات في أحاديث ناجين من المذبحة بعد سنوات تطول أو تقصر... لتلتقي مع آخرين يعيشون (الذكرى- الكابوس) ذاته، بأسلحة أكثر تطوراً، وأشد فتكاً وترويعاً... وأعتقد أن المخرجة قد وفقت في إيصال كل هذه الأحاسيس بلغة شديدة البساطة، لكنها قادرة بالإيقاع المضبوط، والخلفية الموسيقية والغنائية، والقطع المونتاجي المتوازي... أن توصل كل هذه الأفكار بشحنتها التعبيرية، وليس بقدرتها التوصيلية فحسب! وقد سعت المخرجة لاستثمار أغنية صلاح جاهين (الدرس انتهى.. لموا الكراريس) وتحويلها إلى لازمة بصرية تتكرر من خلال مشهد الطلاب الذين يلمون الكراريس أثناء خروجهم من الفصل... وإن كنت أتمنى لو صور هذا المشهد بطريقة جمالية وتعبيرية أقوى!

درس بدروس مستفادة!

لا يكتفي الفيلم بتحليل أوجه الشبه والتطابق بين مجزرتي مدرسة بحر البقر في مصر ومدرسة الفاخورة في غزة... بل ينتهي إلى جانب هذا التحليل البارع، إلى إذكاء روح المقاومة على الصعد كافة... وهو يصور لنا في النهاية أحد الناجين من مجزرة بحر البقر (أحمد الدميري) وهو يتوجه إلى أحد المحامين المختصين بالقانون الدولي، ليرفع قضية ضد إسرائيل، على اعتبار أن جرائم الحرب ضد المدنيين من هذا النوع، لا تسقط في التقادم كما يوضح الدكتور عبد الله الأشعل.
وهكذا يؤكد الفيلم على أنه يجب ألا ننسى... وأنه يجب ألا نتهاون في طلب الثأر لدم الضحايا والشهداء، وألا نركن إلى اعتبار أن إسرائيل دولة فوق القانون... وبالتالي علينا أن نسكت ونسلم بحق إسرائيل في ارتكاب المجازر، وقدرنا في الصمت والاستسلام. لا... ثمة إمكانية للمقاومة هنا أيضاً... وثمة دروس مستفادة من كل المجازر، ينبغي أن تبقى حية في الذاكرة والوجدان... كي لا ينتهي الدرس دون أن نعي أيا من معانيه!
إن فيلم (الدرس انتهى... لموا الكراريس) عمل وثائقي مشغول برؤية متماسكة تعبر عن فكر وتوجهات صناعها، وبلغة فنية منسجمة مع ما أرادوا إيصاله بلا زيادة ولا نقصان... وهو جهد مثمر يضاف إلى رصيدهم السابق في صناعة أفلام وثائقية تبقى في الذاكرة طويلا.

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...