الأصوليّة السلفيّة في تونس بين الاحتجاج في الفضاء والاحتجاج على الفضاء

02-12-2012

الأصوليّة السلفيّة في تونس بين الاحتجاج في الفضاء والاحتجاج على الفضاء

 للأصوليّة حضور كبير في المدوّنة الفكريّة المعاصرة، فقد شغلت اهتمام المفكّرين العرب على اختلاف طبقاتهم. فأكثر أصحابها وأطالوا واصطلحوا على متصوّراتها واستخلصوا آلياتها فاستقصَوا بذلك نواميسها وجرّدوا أحوالها وصفاتها في فترات مخصوصة برزت فيها قوى "الصّحوة الإسلاميّة" وسادت البلاد وشغلت العباد.

والحقّ أنّ هذا المنجز الفكري قد واكب هذا "الحدث الإسلامي" إنْ على مستوى معاصرتهم له أو كذلك على مستوى الوعي الآني به. فراحوا ينمّطونه حتّى استوى مرجعيات دقيقةً في فقه الظّاهرة وعلما بكلام أصحابها وشيعتها. لكن ما انفكّت مستجدّات واقع ما بعد الثّورة في العالم العربي وفي مقدّمتها تونس تعرض علينا أشكالا جديدة من "الصّحوة" أو هو زمن صحوة الصّحوة الإسلاميّة الأولى. وهو ما يستدعي تحيين قراءاتنا لهذه الظّاهرة أنْ كانت محفوظة في لوح المدوّنات الفكريّة والنقديّة.

لا يعنينا أن نخصّص مقالنا لاستقصاء الظّاهرة وأسباب تشكّلها بل غاية ما يعنينا أن نبحث في راهنيّتها، وعن أسباب "الحياة" فيها وفي أكثر هيأتها تأخّرا. من أجل ذلك كتبنا على أنفسنا أن نعرض وجهة نظر "بانوراميّة" في بروز الحركات الأصوليّة السلفيّة في تونس معتمدين في ذلك قراءة وقائعيّة لما استجدّ في البلاد التّونسية من أحداث ترتبط بهذا التيّار. وأزمعنا توظيف مقولة الفضاء خيطا ناظما لكلامنا محاولين، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، الوقوف على الظّاهرة الأصوليّة وممارساتها في فضاء الاجتماع التّونسي.

لا ريْب أنّ هذه الحركات الأصوليّة (سنؤجّل تعريفها إلى أجل مسمّى في مقالنا هذا) قد برزت في فترات بلغت فيها الأقطار العربيّة حالة من الرّكود والتخلّف على مختلف الأصعدة. فقد تردّت الحالة الاقتصاديّة واستفحل جوْر السّلطان، فكانت "السلفيّةُ النظاميّة للدّولة الحديثة" وتمايزت التصوّرات الاجتماعيّة حدّ التّضارب. وما نكبة سنة سبع وستّين وتسعمائة وألف إلاّ أمارة دالّة على هذه الوضعيّة المتماشية مع أشراط الواقع التّاريخي والمعرفي عند المجموعة العربيّة.

لم تختلف هذه الوضعيّة كثيرا في زمننا الحاضر ولم تبرح هذه المجموعة العربيّة مكانها من حيث علاقتها بالزّمن، زمن الحداثة السّياسيّة والثقافيّة والتكنولوجية والدّينيّة وأقصى ما أفضى إليه واقعها الحضاري معاصرة هذه الحداثة دون الارتماء في مغامرتها والإطاحة، أخيرا، بـ"الرجعيّات الحاكمة" أنْ ثارت على أنظمتها فما استمسك أربابها.

لم يستتبع هذا التحوّل الآني تحولات زمانيّة قادرة على ردم الهوّة القائمة بين الثّقافة العربيّة وشروط التّغيير والتقدّم والتطوّر والتّحديث. فغشيت أصوات الأصوليين فضاء الرّاهن العربي محتجّة داخل هذا الفضاء، محتجّة عليه ذاته. وليست تونس سوى أنموذجا دالاّ على ذلك/مميّز لهذه الأصوليّة، حركاتِها وتصوّراتِها.

يُفهم الاحتجاج حسب "لسان العرب" على أنّه اتّخاذ الحجج الدّامغة لإفحام شخص إذ" احتجّ بالشّيء، اتّخذه حجّة".

والحقّ أنّه متى ولّينا وجهنا شطر لسان العرب نقف على معان ثوان تساعدنا على سلوك "محجّات" (مسالك) عديدة. فـ"حاججته أُحاجُّه حجاجا ومحاجّة حتّى حججته أي غلبته بالحجج ".و" الحجّة البرهان… وما دوفع به الخصم… والتّحاجّ التّخاصم… وقال ابن شميل الحجّ أن تُفلق الهامّة فتُنظر هل فيها عظم أو دم… والحُجُجُ الطرق المحفّرة".

ما يمكن أن يُستفاد من مادة (ح،ج،ج) في لسان العرب أنّ الاحتجاج (وهي كلمة محدَثَة لهذا الجذر ومتعلّقاته) دالّ على:

اعتماد الحجّة لقرع حجج الآخرين، اعتماد الخصومة لإفحام الخصم، العنف أو " فلق الهامة" أي شجّ الرّأس.

ألا ترى أنّ هذه المعاني تدور على معنى واحد هو العنف في تجلّياته الماديّة والاعتباريّة؟ هل يؤدّي ذلك إلى إنتاج المعرفة في فضاء الثّقافة العربيّة مثلما كان عليه الأمر قديما أم هو علّة الانزياح عن السّبيل المستوية "الحقّ" إلى أخرى "محفّرة"؟

يساعدنا هذا المدخل المعجمي على تمثّل احتجاجات الأصوليّة السلفيّة في تونس من حيث محدّداتها وتجلّياتها.

العقل النّظري - العملي للأصوليين في تونس منشدّ إلى ثنائيّة جامعة هي الاحتجاج في الفضاء والاحتجاج على الفضاء وهو صادر عنها أساسا. نضرب على ذلك مثل فضاء المسجد وهو "الفضاء الرّسمي" لهذا العقل.

مثّل المسجد مستقرّ هذه الحركات ومركز عملها بُعيْد الثّورة. ولئن كان فضاء معزولا، تقريبا، من النّاحية الإعلاميّة عن بقيّة الفضاءات الاحتجاجيّة (الشارع، السّاحات العامّة…) نظرا لقيمته الاعتباريّة في المخيال الجمعي التّونسي، فانّ "أيّام" أتباعه من الأصوليين لم يعتزل بعضَها أو أغلبها مستعملو الوسائط الحديثة الذّين طفقوا يرصدون عوالم المسجد إمّا رغبة في تحيين الفضاء آنيا (بعد أن كان مؤسّسة محرّمة استخباريّا وبوليسيّا) أو نكاية في هذا الفريق أو ذاك أو لولع التّونسي بتناقل الأحداث ومتابعتها.

كشفت هذه التّسجيلات المرئيّة والمسموعة أو المرويّات المأثورة عن مريدي المساجد صولات الأصوليين السّلفيين داخلها نحو الطّعن في هذا الشّيخ -الإمام أو ذاك لعلّة تمثيله للمؤسّسة الدينيّة النظاميّة الرسميّة (أئمّة حزب التجمّع المنحلّ). وقد وصل بهم الأمر إلى ضرب بعض هؤلاء الأئمّة -الموظّفين وحطّ بعضهم الآخر من علِ (من على المنبر). فتراوح الاحتجاج بين التّلاسن (معنى من معاني التّخاصم في لسان العرب) و"فلق هامة الرّأس".

هو احتجاج داخل الفضاء المقدّس (المسجد) على فضاء "الإسلام النّظامي" أي الممارسات التعبّدية التّي خطّها النّظام السّابق وحكّم سيوف وزارة الشّؤون الدينيّة فيها (مع ما في هذا اللّفظ -الشؤون الدينيّة- من استخفاف بالمنظومة الدينيّة وطرائق مأسستها المطلوبة في منظومة أشمل هي منظومة الدّولة).

وإذن تمّت ممارسة العنف المادّي والرّمزي داخل فضاء المقدّس احتجاجا على "إسلام مدنّس" من عمل السلطان وحاشيته ضمن سياسة عمادها "تجفيف المنابع" و"محاربة الإرهاب والتطرّف". إنّه احتجاج كذلك على الإسلام المعتدل السنّي المالكي الذّي يبدو أنّ الأصوليين يغايرونه بأشكال مختلفة: فقهيّة وقوليّة واعتقاديّة. ربّما لأنه يتضارب مع مشروعهم المجتمعي و- أو السّياسي بالمقارنة مع مذاهب أخرى. (في هذا السياق نرى أنّ خطب الجمعة التّي يقيمها الأصوليون السّلفيون ترتبط بموضوعات مُحدَثة بعد أن كانت حكرا على مجال الفرائض والعبادات والتّكافل الاجتماعي والدّعوة للسّلطان والدّعاء له).

لقد تمازج المقدّس والمدنّس داخل فضاء المسجد بل في "مخاييل" النّاس الذّين تعوّدوا على احترام فضائهم المقدّس وايلائه الاهتمام الأكبر مقارنة ببقيّة الفضاءات (بنيته المركزيّة في المدن والأحياء خير دليل على ذلك). فهل للمقدّس قداسة تُحترم فعلا أم أنّ المسجد، عندهم، لا يعدو أن يكون، في الحقيقة، سوى مجال لاستثمار رأس مال رمزي - قيمي يرتبط به من حيث هو مكان لتجمّع أشتات المسلمين أو كذلك لأنّه الفضاء الذّي يتماشى مع طبيعة المشاريع المطروحة في تتوّجها الظّاهر بتيجان الدّين؟

إنّ أمثلة ممارسة العنف لا تكاد تُحصر ولولا ضيق المجال لتوسّعنا فيها لكنّنا نذكر بعضها على سبيل "الاحتجاج لوجهة نظرنا احتجاجا على تدنيس "الفضاء المسجدي" نحو مقاطعة الصّلاة عند تقدّم الإمام نحو المحراب أو عند اعتلاء الخطيب لمنبر المسجد أو إثارة البلبلة في الصّفوف عوض رصّها أو إنزال الخطيب بالقوّة من على المنبر وقذفه بما فيه وبما ليس فيه (النّفاق والكفر أساسا).

لم يقتصر احتجاج الأصوليين السّلفيين على مجال الصلوات بل احتجّوا كذلك على الدّروس الدعويّة التّي آثر بعض الأئمّة القيام بها بعد أن خالوا أنّ المسجد قد تحرّر من سطوة السّلطان وعيونه المبثوثة داخل هذا الفضاء. فكان تحرّرَ الإبل من مضاربها ومغادرتها إيّاها وهي تظنّ حقّا أنّها قد تحرّرت منها فإذا بها تتقاطر وقد عقلها أصحابها بالعِقال حتّى لا تعدل عن سواء السّبيل، وإذا تحرّرها ضرب من ضروب التوسّع في "الاعتقال" (أمثولة الدواب هذه محبّبة عند الأصوليين السّلفيين لأنّ اعتماد الدّواب شاهد على أصالة أصحابها وأصوليّتهم؟ )

لقد ثار الأصوليون السّلفيون على هذه الدّروس ومريديها ولم يرضَوْا عنهم حتّى "بايعوهم" بيعة الرّضوان (الرّضا بوجودهم وبفتحهم المساجد) وعاهدوهم على إخلاء عرصاته لهم ليتّخذ كلٌّ ركنا داخله يجالسه فيه من ابتغى التوبة النّصوح، توبة عقائديّة- سياسيّة. وقد آلت الأوضاع إلى ذلك في الوقت الحالي رغم بعض الصّراعات والتّجاذبات من حين إلى آخر.

أدّى ذلك كلّه إلى نشأة ظاهرة "التّحلُّق/لسان العرب" داخل فضاءات المسجد وتطوير الدّروس والحلقات مع "ليّ متواصل لأعناقها"، إذ يُلاحظ أنّ الخطاب الذّي تحتكم إليه هذه الدّروس التّوجيهيّة قد أُضفيت عليها هالة من الخَطابَة السّاحرة التّي لم يتعوّدها أفق انتظار المسلم التّونسي وقد كانت الخطب المنبريّة قبل ذلك خطبا يبابا لا حياة فيها سوى كليشيهات يردّدها خطباء المساجد النّظاميّة بعد أن تُدوّن في أقبية وزارة الدّاخليّة.

والحقّ أنّ هذا التحوّل الخِطابي/الخَطَابي قد تماشى مع طبيعة الموضوعات المقترحة التّي يقوم أغلبها على مفاهيم طارئة على "الاسلام التّونسي" وفيها انفتاح على مسائل سياسيّة نحو الحكم والحاكميّة والجهاد والتّكفير تلميحا وتصريحا. ولا ننكر في المقابل التّركيز على الموضوعات الدينيّة والأحكام الشرعيّة بأساليب وعظيّة إرشاديّة بلاغيّة ألهبت شعور التونسي المسلم وكان يأخذها عن شاشات "الإسلام الفضائي" (نسبة إلى القنوات الفضائيّة الإسلامية).

تحوّل فضاء المسجد عن وظيفته الأصليّة وراح ينهض بوظائف أخرى تعبويّة وإيديولوجيّة وسياسيّة برزت خاصّة إثناء إعداد انتخابات 23 أكتوبر. وقد استُعمل فيها العنف في أكثر أشكاله بؤسا إذ تمّ تكفير العمليّة الانتخابيّة أو الدّعوة ضمنيّا وعلنيّا لبعض الأحزاب وتكفير أحزاب أخرى بل ذهب بعض "الدّعاة" إلى تحريم التّصويت وحرّض آخرون على التّصويت لحزب معيّن ورُبط ذلك كلّه بالاعتقاد وبإسلام المرء.

من عجيب الوقائع أن صار لفضاء المسجد إحداثيّات جغرافيّة وفِرَقيّة فيُنسب هذا المسجد إلى هذه الفرقة أو تلك أو غلب هذا الفريق الفريق الآخر فاعتصم بحبل انتمائه الحركي. هذا التمشّي الأسمائي يمكن أن يفيدنا في فهم ظاهرة الأصوليين السّلفيين. فكلٌّ يدّعي أنّه على "نهج السّلف الصالح" و"نهج الأمّة الإسلامية" وأنّ بيده الحلّ والرّبط في شؤون المسلمين وفي دارهم أمّا الآخر فهو الباطل عينه الذّي لا رادّ له سوى "حوْقلة" حانقة أو ضرب للرّؤوس والأعناق رمزيّا… إنّه العنف المقدّس القائم على نفي الآخر وفرض تصوّر إليه تُردّ الجواهر والأعراض.

لقد تناهى إلى أسماع التّونسيين في مناطق مختلفة أنّ معركة – واقعة – غزوة - سَريّة وقعت في أرض المسجد فسيطر عليه جماعة كذا أو جماعة كذا. وهنا بالذّات نقف على ما يثيره هذا التمشّي الأسمائي من إشكالات. فوسْم الجماعات بهذه التّسميات يتّخذ طابعا تعريفيّا تحديديّا (تقتضي التّسميات بحثا مطوّلا وحفرا شاقاّ لفهم هذه الحركات وخطاباتها مثل سلفيّة علميّة، سلفيّة جهاديّة، أنصار الشريعة، حزب التّحرير، الوهابيّة، الأحباش وموقع حركة النّهضة منها).

يحيلنا ذلك مجدّدا على مفهوم الاحتجاج، لكنّه احتجاج داخل الفضاء على الفضاء وعلى المقاربات المرتبطة به وقد اسُتثمر استثمارا رمزيّا إنتاجيّا حوّله إلى "بؤرة" ترميز نسقي يختلف مع غيره من الأنساق التّرميزيّة وإن كان مؤتلفا معها من حيث أصوليّة الخطاب (هل نحن أمام أصوليّة واحدة أم أصوليات تتصارع فتزداد عددا) وأصالة الخَطابة (عادة ما يُستعمل داخل الفضاء اللّسان العربي الممزوج بـ"لهجة" مشرقيّة تظهر خاصّة على مستوى تفخيم الحروف وينطق بها لسان تونسيّ وهو أمر يحتاج إلى دربة ومِراس ولا يخلو من خلفيّات إيديولوجية ومذهبيّة واحتجاجيّة;احتجاج على اللّهجة التّونسيّة بلهجة ارتقت بحكم التّنميط إلى مرتبة اللّغة الرّسميّة في الخطاب السّلفي الأصولي، نسوق رأينا هذا باحتراز شديد وقد يكون مِهاد بحث طريف).

وإذن نذهب إلى القول إنّ هذا الاحتجاج الدّاخلي الذّي اتّخذ أشكال عنف خطير للغاية (وصل بهم الأمر إلى الاقتتال داخل المسجد) يجعل فضاء المسجد فضاء منقسما على ذاته، بيْد أنّه في انقسامه هذا يحتجّ على سياسة النّمذجة التّي سادت الفترة البورقيبيّة والفترة النوفمبريّة. فقد ساس هذان النّظامان النّاس على تصوّر نمطي واحد (قيل انّه معتدل)، متوحّد صاحبه فيه مع ذاته الكاريزماتيّة -الزّعامتيّة أو القمعيّة- البوليسيّة (لا ننسى أنّ فضاءات التعبّد في تونس كانت خاضعة إلى رقابة أمنيّة مشدّدة)، لم يتح للعامّة والخاصّة، على السّواء، التّعبير عن مقارباتهم للإسلام وللإسلام السّياسي في فضاءات تُخصّص لذلك. وفضاء المسجد نفسه لم يكن سوى "معبد" لإقامة الصّلاة ليتمّ فور الانتهاء من إقامتها تغليقه.


هذا التّنميط "القمعي" لفضاء المسجد صادر الحراك الثقافي والفكري المرتبط بالإسلام والإسلام السّياسي الذّي حُوصر(أي الحراك) في فضاء الجامعة واقتصر على النّخبة ولم ينفتح على الذّات التّونسيّة وعلى وعيها الجمعي. فانبرت غير قادرة، بعد الثّورة، على تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمام هذه الأصوليات التّي اكتسحت الفضاءات وعلى تنزيلها في منازلها التّاريخيّة والسّياسيّة. غدا المسجد "دار هجرة" هجر فيها أصحابها دار الجهالة/الجاهليّة، وأخذوا في مجالسة "العلماء الأصوليين" لنهل المعرفة "الشرعيّة".

انّه اعتزال للجماعة الاجتماعيّة (ليته يشابه اعتزال الحسن البصريّ للجماعة على الأقلّ) واحتجاج على مقولاتها ونِحلتها.

لا مريّة أنّ هذا الاحتجاج داخل الفضاء الإسلامي هو احتجاج "باتّخاذ حجّة" على مجتمع المعاصرة الذّي ما انفكّ يستثمر منجزات الحداثة الغربيّة تكنولوجيّا ومعرفيّا وقيميّا.

قد يكون هذا الاعتزال "الثّقافي" البنية السّطحيّة للمسألة، أمّا بنيتها العميقة فتستغرق مناويل أخرى لعلّ أهمّها المنوال الاجتماعي الاقتصادي، ذاك الذّي همّش العباد، شبابهم وصادر طموحاتهم. فاعتزلوا واقعهم، واقع الإقصاء والتّهميش، اعتزالا "شعبيّا" يخرجهم من دائرة "الحشّاشين" (ويلاحظ أن عددا كبيرا من المنتمين إلى هذه الحركات المحدَثة قد كانوا من شطّار بعض الأحياء الشعبيّة وعيّاريها ومنهم شخصيّات كاريزماتيّة لها حضورها المتوهّج داخل مناطقها وقد برزت في قومها وفي فضاءات التّهميش و"قيمها").

إنّها فضاءات جديدة تنحت كياناتهم المحتجّة على التّهميش. فكان اعتزالهم هذا فرصة لتشكيل بلاغتهم، بلاغة المهمّشين والمقموعين. فيحتكمون إلى سُنن في الخطاب وفي الفعل الاجتماعي مائزة لهم ولرفضهم لوضعهم الاجتماعي وللجوْر في المنازل حتّى أنّ سننهم الشعبيّة قد حافظوا عليها كلّها مع العمل المتواصل على أسلمتها وتأصيلها في الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ… إنّهم روافض اجتماعيون متأصّلون في رفضهم.

لقد تجلّى هذا الرّفض خاصّة في انفتاح هذه المجموعات الأصوليّة السلفيّة على الفضاء الرّئيس - فضاء المدن، تلك التّي لفظتهم بسلوكاتها وبـ"برجوازيّتها". فكان أنْ تجاوزت فضاء المسجد المقدّس إلى فضاء المدينة المدنّس على سبيل التوسّع (تنظيم الفضاء المديني وَفق أحكام الشّريعة ومقتضيات الشّرع).

إنّ الاحتجاج على هذا الفضاء المدنّس قد انطلق من فضاء المسجد حيث وقعت التّعبئة، تعبئة الأنصار والمريدين، ودفعهم إلى فضاء المجتمع من خلال استعراض القوّة وإعدادها على النّحو المستطاع (بنود، أعلام، مكبّرات صوت، مظاهرات "جمعيّة"…) لغاية ترسيم نسق استعاري عماده استعارة "المقدّس الحركي الأصولي" إلى "المدنّس المديني" رفضا لطرائق تنظيمه ولرأسماله القيمي-المالي-الجاهلي ذاك الذّي استعاض عن قيم الشّريعة وأحكامها (الرّأسمال الرّمزي الدّيني) بأخرى وضعيّة.

إنّه احتجاج على فضاء التعدّديّة الحياتيّة والقطاعيّة والتّجاريّة والسّياحيّة وأشراط التمدّن والتطوّر والتقدّم التّي جرى عليها فضاء المدينة التّونسيّة وعلى لزوميّات "المعاصرة" وقد اخترقت بُنى المجتمع التّونسي وعنّفت مناخاته السّيميائيّة الكلاسيكيّة وإن فقدت هذه المعاصرة "الحداثيّة" طرافتها نتيجة محاولة تنميطها سياسيا واجتماعيّا بل فكريّا. فاستحالت حداثتنا معاصَرَةً لأشكال الحداثة لا لفقهها ومقاصدها التّي غدت محلّ مراجعة مستمرّة في موطنها الغربيّ الأصيل; نقصد الاحتجاج ما بعد الحداثي على الفضاء الحداثي، هو احتجاج إنتاجي من الناحية الابيستيميّة، خلافا لاحتجاجات الأصوليين عندنا القائمة على المفارقة. فهم أنفسهم يعتمدون، في احتجاجاتهم، منجزات الحداثة الغربيّة "الكافرة" نحو السيّارات التّي تأسلمت بنودها وأعلامها وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى الوسائط الحديثة التّي استُثمرت في قلب الأحياء ذات الكثافة السكّانيّة استثمارا أصوليّا؟ فإذا بنا أمام عروض قائمة على خلفيّات سينوغرافيّة تحتجّ على الحداثة وعلى حدثانها. فتوسّعت دائرة الاحتجاج وامتدّت إلى فضاءات المدن والأحياء .اُنظر مثلا إلى "غزوة المنقالة" التّي دارت أحداثها في قلب العاصمة حيث احتشدت جموع الأصوليين على اختلاف مرجعيّاتهم وطافوا بالسّاعة – البرج طواف إفاضة.

ثمّ عمدوا إلى تسلّقها بكلّ مهارة أمام أنظار العالم. أليس هذا المشهد "الكرنفالي" تصعيدا لرؤية ترفض الحداثة التّي تعبّر في أقصاها عن تأصّل في الزّمن وفي قانون التطوّر خلافا للمدّ الأصولي الذّي يجعل ساعة الزّمن "المنقالة التّونسيّة" وقفا على زمن مرجعيّ قد ولّى وعفاه زمن الحداثة؟ أوَليس بلوغهم قمّة السّاعة -البرج وإعلائهم لبنودهم الحركيّة دليلا على رغبتهم في تجسيد القاعدة الفقهيّة الأصولية "قياس الغائب على الشّاهد"، قياس الزّمن المرجعي المؤسطر على الزّمن الآني المُحقّر؟

أليست بطولاتهم في ساحات الجامعات (خاصّة كليّات الآداب والعلوم الإنسانية) تكريسا لموقف رافض لفضاء الجامعة باعتبارها فضاء تقديس المعارف والوعي النّقدي الذّي يتصدّى زمانيّا لكلّ محاولات التأصيل الطوباوية دينيّة كانت أو إيديولوجية؟ ألا ينمّ ذلك عن خوفهم المتواصل من تاء التّأنيث (امرأة كانت أو جامعة) تلك التّي قضّت مضاجعهم فراحوا يطمسون معالمها باعتبارها رمز فتنة و"شرّا لا بدّ منه" أو لأنها كشفت "عوراتهم الذهنيّة" وأجنداتهم المدنّسة عبر التّفكير النّقدي التّنويري؟ إنّه تعنيف ذكوري رمزي وسعي دؤوب إلى تذكير الفضاءات باسم المقدّس.

يطول الحديث عن هذه العوالم الأصولية ومنطق احتجاجاتها وما يحفّ بها من مفارقات على مستوى الذهنيّة أو إجراءات تنظيمها للفضاء. لكن يهمّنا أن نحتجّ بدورنا على الفضاءات التّي يتشكّل فيها المصطلح والفهوم المرتبطة به.

يعبّر مصطلح الأصوليّة في مخاييلنا الفكريّة عن الحركات الإسلامية التّي "تجتهد" في أسطرة التّراث الدّيني-المذهبي وتحميله بقراءات سياسيّة -إيديولوجية والعمل على فرضها باعتبارها قيما كليّة فائضة على حدود الزّمان والمكان وهي قيم أصيلة (تنبع من الكتاب والسنّة والإجماع أو هكذا قيل) ينبغي أن تنسحب على حركة التّاريخ. فتُرجع جزئيات الحياة إلى كليّات الأصول في مرحلة التأسيس.

يبدو هذا التّعريف الجزئي للأصوليّة قائما على الاختزال، لكنّه اختزال إجرائي ليس الهدف منه البحث في مراحل تشكّل المصطلح ورحيله إلى فضاءات لغويّة- ثقافيّة متمايزة من حيث ميكانيزماتها الأسمائيّة والذهنيّة بقدر ما نسعى من ورائه إلى الاحتجاج على محاولات ليّ عنقه عند من يسمّون أنفسهم بالأصوليين أو من غيرهم من "المناهضين" للأصوليين.

أمّا بالنّسبة إلى الأصوليين الذّين نعنيهم فقد خرجوا عن المصطلح. فهم، من هذه النّاحية، خوارج تجاوزوا نظريّا ومعرفيّا وسلوكيّا الأصوليّة باعتبارها ترتدّ إلى فضاء علمي/عرفاني. فالأصوليون هم المتخصّصون قديما في علم أصول الفقه وأصول الدّين وأصول الحديث. وهي معارف إنتاجيّة أسهم استواؤها في ثباتها (أصل ثابت) في مدوّنات ضخمة لا قِبل بأصوليي اليوم بها وبأنماطها وأنساقها سوى الاجترار أو عرضها في فضاءات خَطابيّة متكلّسة. فتُقتطع من سياقاتها وتحمّل بشحنات إيديولوجية سياسيّة، من أجل ذلك لا نجد أثرا لمصادر الأصوليين القدامى في فضاء الأصوليين المُحدَثين/ المحدِثين، يقتصر الأمر عند عامّتهم على "كتيّبات صفراء" مستعارة من فضاءات مشرقيّة معاصرة احتجّت على المعرفة باحتجاجها لمشروع إسلامي سياسيّ.

كذا الأمر بالنّسبة إلى البعض من غير الأصوليين ممّن يعتبرون أنفسهم حداثيين وعلمانيين فقد احتجّوا على الأصوليين من منطلق احتجاجهم على الأصوليّة حسب الفهوم التّي ارتبطت بها في فضاءات غير معرفيّة. فالأصولية مصطلح نهل اصطلاحيّته من فضاء مغاير هو فضاء الغرب (Fondamentalisme ) الذّي عنى به أصحابه العودة إلى الأصول المسيحيّة والمحافظة عليها والتمسّك بها، فنجد داخل الفضاء الغربي أصوليّة مسيحيّة أرثوذكسيّة وأخرى يهوديّة صهيونيّة.

وإذن الأصوليّة مقولة عامّة لا تُقصر على دين دون آخر بل إنّ أغلب الأديان تفرز في لحظات معيّنة من تاريخها "أصوليّتها" أي تمسّكها المتطرّف بمعتقداتها ومتصوّراتها البشريّة المرتبطة بها مع إمكانيّة تحويل هذه الأصوليّة الاعتقاديّة إلى مشروع سياسي. فتتعدّى الأديانَ إلى مختلف المذاهب الفكريّة والإيديولوجيّة والسّياسية والعرقيّة والعلميّة مثل الأصوليّة الوضعيّة العِلمانيّة والأصوليّة العَلمانيّة والأصوليّة الصّهيونيّة والأصوليّة القوميّة والأصوليّة الماركسيّة والأصوليّة اللّيبراليّة. وهي أصوليات/فضاءات احتجاج على سيرورة الكون ورغبة محمومة في التمكّن من ناصيته وفهم تطوّراته في إطار نماذج نكوصيّة تعتدّ بالذات وتنكر على الآخر حقّه في الوجود.

الأصوليّة أصوليات ومن الإجحاف قصرها على طرف دون آخر أو على ثقافة دون سواها والمساهمة في تأصيلها عبر تبنّي فهم أصولي لها يجعلها تستأصل (أي يثبت أصلها/لسان العرب).

ينبغي أن نَأصَل الأصوليّة أي أن " نقتلها علما فنعرف أصلها/لسان العرب" حتّى لا نقع في شراك أصوليّة تحتجّ على الأصوليّة بأصوليّة أكثر تطرّفا كأن نتبنّى فهما غربيّا إعلاميا سياسيّا إيديولوجيّا تسويقيّا للأصولية على أنّها الإرهاب مع ما يعنيه هذا المصطلح من أجندات جيو- إستراتيجية شرّعت احتلال دول وتدميرها.

هذا النّقد الاصطلاحي- الثّقافي للأصولية يرتبط بـ"عنف معرفي- نقدي" يُحتجّ به على أصحابه بحثا عن مردوديّة علميّة فيه. لكنّه لا يرقى بحال من الأحوال إلى مرتبة العنف الأصولي في شكله الحَركيّ السّائد عند جماعات الأصوليين وهو عنف لا يقبل الخصومة والاحتجاج المعرفي وغير قادر على تأصيل كياننا في وضع علمي سليم. إضافة إلى تهديده المباشر للسّلم الاجتماعي وقواعد التّعايش المدني.

  وحده هذا الفهم المعرفي- الابيستيمولوجي للأصوليّة كفيل بإيجاد بدائل حقيقيّة لهذه الأصوليّة العنيفة وللبُنى الفضائيّة المتعلّقة بها (فضاء الدّين وفضاء المدينة). فنحتجّ على منطق الفعل وردّ الفعل (على الشّاكلة البافلوفيّة) وهو منطق لا يرسّم المعرفة ولا شروط إنتاج أنظمتها بقدر ما يجعل تعبيراتنا الفضائيّة (داخل الفضاءات) مجرّد تعبيرات ذهنيّة، رمزيّة، تخييليّة، نكوصيّة، أسطوريّة، استعاريّة أصــولـــيّـــة وهي كالأصَلَة (حيّة صغيرة تكون في الرّمال لونها كلون الرّئة ولها رجل واحدة تقف عليها تثب إلى الإنسان ولا تصيب شئيا إلاّ وهلك/لسان العرب) أو أشدّ ضررا.

أسامة بوفريخة

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...