أيام هادئة في كليشي

23-02-2011

أيام هادئة في كليشي

ها أنا ذا أكتب، الليل يهبط والناسُ ذاهبون لتناول وجبة العشاء. كان يوماً غائماً، كأغلب أيام باريس. أثناء تسكعي في الجوار لأنشِّط أفكاري، لم يسعني إلا أن أفكِّر في التناقض الهائل بين المدينتين (نيويورك وباريس). إنها الساعة نفسها، والجو العام نفسه، ومع ذلك حتى كلمة غائم، التي تُشاللوحة من أعمال الرسام السوري بسيم الريس الذي قام يوم عيد ميلاده باجتراح مشروع إبداعي جميل ومجنون تقدمة للحب. أطلق المشروع على صفحته على الفايسبوك ومفاده بأنه سيرسم لوحة لكل من يسأله ذلك، ويطلق على اللوحة اسم صاحبها، هذه اللوحة من اللوحات الجميلة الكثيرة التي رسمها وأطلق عليها أسماء أصحاب طالبيها، ويا له من فرح أن يحظى الانسان بهكذا لوحات.كِّلُ الرابط بينهما، تكاد لا تشـبه في شيء ذلك اللون الرمادي القادر، بالنسبة إلى الأُذن الفرنسية، على إثارةِ عالمٍ من الفِكر والشعور. في الماضي، حين كنتُ أجوبُ شوارع باريس، أدرسُ اللوحات المرسومة بالألوان المائية المعروضة في الواجهات، كنتُ أعي الغياب الفريد لما يُعرّف برمادي باين. أذكُرُ هذا لأنَّ باريس، كما يعلمُ الجميع، مدينة رمادية بتفوُّق. أذكرُ هذا لأنَّ الرسامين الأميركيين، في عالم الرسم بالألوان المائية، يستخدمون هذا اللون الرمادي الذي يُعَدُّ حسب الطلب بإفراط وبهَوَس. في فرنسا تبدو تدرُّجات اللون الرمادي غير محدودة. ؛ هنا يضيعُ أثر اللون الرمادي نفسه.

     كنتُ أفكِّرُ في هذا العالم الهائل من اللون الرمادي الذي عرفته في باريس لأنني في مثل هذه السـاعة كنت عادةً أتمشَّى باتجاه البولفارات. أشعرُ برغبة في أن أعودَ إلى المنزل وأكتب : وهذا هو النقيض المباشر لعادتي الطبيعية. هناك ينتهي يومي، وأنطلقُ غريزياً لأندمج مع الحشد. هنا الحشدُ، الخالي من أي لون، من أي فرق مهما صَغُر، من أي اختلاف، يعيدني إلى نفسي، يُعيدني إلى غرفتي، لأفتِّش في مُخيّلتي عن عناصر حياة فُقِدَتْ الآن وإذا ما مُزِجَتْ وهُضِمَت قد تُنتِجُ من جديد التدرُّجات الرقيقة للَّون الرمادي الضرورية جداً لخلق حياةٍ متناغمة وراسخة. يكفي أن أُلقي نظرة إلى كنيسة القلب المقدس من أي نقطة على طول شارع لافيت في يومٍ كهذا، في سـاعة كهذه، لتشيع في نفسي النشوة. كانت تترك أثرها عليَّ وأنا جائع ولا مكان لديّ لأنام فيه. هنا، حتى وإن كنت أحملُ ألف دولار في جيبي، لا أعرفُ مشـهداً آخر يمكن أن يُثيرَ فيَّ مثل هذا الشعور بالنشوة.

     في يومٍ غائمٍ في مدينة باريس غالباً ما أجدني أسير في اتجاه سـاحة كليشي في مونمارتر. ومن كليشي إلى أوبرفييّه تنتشرُ سلسلةٌ طويلةٌ من المقاهي، والمطاعم، والمسارح، ودور السينما، ومحلات بيع الخردوات، والفنادق والمواخير. إنه بمثابة شارع برودواي باريس الذي يُماثله ذلك الامتداد الصغير ما بين الشارعَين الثاني والأربعين والثالث والخمسين. شارع برودواي يضجُّ بالحركة، مُبهرٌ ويُسببُ الدوار، ولا تجد فيه مكاناً للجلوس. مونمارتر يشيعُ فيه جو البطء والخمول، واللامبالاة، وهو بصورةٍ ما رثٌ ويبدو بالياً، وليس فاتناً بقدر ما هو مُغويّ، ولا يومض بل يتوهَّجُ بلهبٍ مكبوت. أما برودواي فمملوءٌ بالإثارة، وأحياناً يكون سحرياً، ولكن بدون نار، أو حرارة – إنه عرضٌ بخيوط الإسبستوس المُضاءة بسـطوع، جنة وكالات الدعاية. مونمارتر مُرهَق، شاحب، مُهمَل، فاسد، وجشع، وسـوقي بكل وضوح. وإن كان لابد من وصفه فهو مُنفِر بدل أن يكون جذَّاباً، لكنه مُنفر بصورة ماكرة، كالإثم نفسه. وهناك حانات صغيرة تعجُّ تقريباً حصراً بالعاهرات، والقوَّادين، والسفَّاحين والمقامرين، والتي تنجحُ أخيراً، حتى وإنْ مررتَ بها ألف مرة، في أن تبتلعكَ وتجعل منك ضحيتها. وهناك فنادقُ في الشوارع الجانبية التي تتفرَّعُ عن الشارع الرئيسي هي من شِدَّة قبح المنظر حتى أن الرعشة تمسُّكَ لمجرد التفكير في ولوجها، ومع ذلك لا مناص من أن تُمضي ليلةً، وربما أسبوعاً أو شهراً، في أحدها. بل إنك قد تتعلَّقَ بشدة بالمكان بحيث تجد ذات يوم أنَّ حياتك كلها قد تغيَّرت وأنَّ ما كنتَ تعتبره قذراً، وحقيراً، وبائساً، قد أصبح ساحراً، ورقيقاً، وجميلاً. هذا السحر الماكر لمونمارتر يعود، في غالبيته، في اعتقادي، إلى تجارة الجنس السافرة. فالجنس ليس رومانسياً، خاصة حين يُمارَسُ كتجارة، لكنه ينشر شذاً، لاذعاً ويُثير حنيناً، أشدّ فتنةً وغوايةً من الدرب الأبيض المرح الأشد تألقاً في إضاءته. في الواقع، من الجليّ بشكلٍ كافٍ أنَّ الحياة الجنسية تزدهرُ بصورةٍ افضل في الإضاءة المُضبّة، المُعتمة : إنها تتآلفُ مع الإضاءة الموزَّعة وليس مع سطوع ضوء النيون.

    في إحدى زوايا ساحة كليشي مقهى وبلر، التي كانت طوال فترة طويلة من الزمن المثوى المفضَّل لدي. جلستُ هناك في الداخل وفي الخارج وفي كل وقت من النهار وفي الأحوال الجوية كافة. أعرفه ككتاب مقروء ؛ وجوه النُدُل، والمُديرون، والمحاسبين، والعاهرات، والزبائن المواظبين، وحتى الخدم في المرحاض، محفورةٌ في ذاكرتي وكأنها رسومٌ في كتابٍ أقرأه في كل يوم. أذكر اليوم الأول الذي ولجتُ فيه مقهى وبلر، في عام 1928، مع زوجتي ، أذكرُ الصدمة التي تلقيتُها عندما شاهدتُ عاهرةً تنهار ميتة من فرط السُكر على إحدى الطاولات الصغيرة الموضوعة على المسـطبة ولم يهرع أحدٌ إلى مساعدتها. ذُهِلتُ وارتعبتُ أمام اللامبالاة الرزينة للفرنسيين ؛ ولا أزال، على الرغم من كل مزاياهم التي عرفتها عنهم منذ أن عرفتهم. " لا بأس، إنها مجرد عاهرة … كانت سكرى "  لا يزالُ صدى هذه الكلمات يتردَّدُ في أذني. وحتى اليوم ما زالت تثيرُ الرعشةَ في جسمي. لكن هذا الموقف هو سِمةٌ فرنسيةٌ محض، وإذا لم تتعلَّم تقبُّلها فلن تكون إقامتكَ في فرنسا ممتعة.

    في الأيام الغائمة، حين الصقيع يسود كل مكان ما عدا المقاهي الكبرى، كنتُ أتطلَّعُ باستمتاعٍ إلى تمضيةِ ساعةٍ أو اثنتين في مقهى وبلر قبل تناول وجبة العشاء. كان الوهجُ الورديّ الذي ينتشرُ في المكان ينبثقُ من تكتُّلٍ للعاهرات يتجمَّعن عادة بالقرب من المدخل. وبينما هنَّ يتوزَّعن بين الزبائن بالتدريج، يصبحُ المكان ليس فقط دافئاً ووردياً بل يفوحُ بالعطر. كنَّ يرفرفن متنقِّلات تحت الإضاءة المعتمة كيراعات معطَّرة. وأولئك اللواتي لا يسعدهنَّ الحظ بالعثور على زبون يخرجُن بخطى متمهِّلة إلى الشارع، وعادة يعُدن بعد ذلك بقليل ويتخذن أماكنهنَّ القديمة. وأخريات يترنحن داخلات، يبدين نضرات ومستعدات لأداء العمل المسائي. وفي الركن حيث يجتمعن عادةً يحدثُ ما يشبه عملية مقايضة، في سوق الجنس، التي لها فترات ازدهارها وركودها ككل عمليات المقايضة. واليوم الماطر عادةً هو يومٌ جيد، كما بدا لي. وفي اليوم الماطر هناك شيئان يمكنك أن تفعلهما، كما يُقال، والعاهرات لا يُبدِّدن وقتهنَّ أبداً في لعب الورق.

    بعد ظهر يومٍ ماطرٍ لاحظتُ وجود وافدةٍ جديدةٍ إلى مقهى وبلر. كنت قد خرجتُ لأتسوَّق، وذراعاي مثقلتين بالكتب وأسطوانات الفونوغراف. ويبدو أني كنت قد تلقَّيتُ نقوداً مُحوَّلةً من أميركا في ذلك اليوم لأنه كان مازال يتبقى معي بضع مئات من الفرنكات في جيبي، على الرغم من كل ما اشتريت. جلستُ بالقرب من مكان حدوث المقايضة، يحيطُ بي سربٌ من العاهرات الجياع، الملتهبات بالشهوة اللواتي لم أجد أي صعوبة تُذكَر في التملُّص منهنّ لأنَّ عينيّ كانتا مُثبَّتتين على تلك ذات الجمال الأخَّاذ المتوقفة بعيداً في الزاوية النائية من المقهى. خمَّنتُ أنها امرأة شابة وجذابة تواعدتْ مع حبيبها ولعلَّها جاءت قبل الموعد المحدَّد. الـ aperitif ( شراب فاتح للشهية ) الذي طلبته لم تكن قد لمسته. كانت تُلقي على الرجال الذين يمرّون بمائدتها نظرةً شاملة، ثابتة، لكنَّ ذلك لم يدلّ على أي شيء – إنَّ المرأة الفرنسية لا تشيحُ ببصرها كما تفعلُ الإنكليزية أو الأميركية. إنها تتلفَّتُ حولها بهدوء، وتُقيّم، ولكن بدون إبداء جهدٍ واضح يُلفِتُ الانتباه. كانت حذرةً ووقوراً، متزنةً ومنضبطة تماماً. كانت تنظر. أنا أيضاً كنتُ أنتظر. كنت فضولياً لأعـرف مَنْ الذي تنتظره. وبعد مرور نصف ساعة من الزمن، تلاقت أثناءها عيوننا مراتٍ عِدَّة وجعلتُها تُثبِّت نظرها عليّ، قرَّرتُ أنها في انتظار أي شخصٍ يتقدَّم إليها بالطريقة المناسبة. وفي الحالة العادية يكفي القيام  بإيماءة بالرأس أو باليد لكي تترك الفتاة مائدتها وتنضمَ إليك – إذا كانت من هذا النوع. وحتى ذلك الحين لم أكن متأكداً تماماً بعد. يمكنني القول إنها بدت لي راقية، وأنيقة، وودوداً أكثر مما ينبغي.
___________________________

اللوحة من أعمال الرسام السوري بسيم الريس الذي قام يوم عيد ميلاده باجتراح مشروع إبداعي جميل ومجنون تقدمة للحب. أطلق المشروع على صفحته على الفايسبوك ومفاده بأنه سيرسم لوحة لكل من يسأله ذلك، ويطلق على اللوحة اسم صاحبها، هذه اللوحة من اللوحات الجميلة الكثيرة التي رسمها وأطلق عليها أسماء أصحاب طالبيها، ويا له من فرح أن يحظى الانسان بهكذا لوحات.


أليف هنري ميللر/ ترجمة: أسامة منزلجي

المصدر: بأوكسجين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...