أدونيس يمايز بين ثقافة الداخل وثقافة الخارج

15-11-2007

أدونيس يمايز بين ثقافة الداخل وثقافة الخارج

أ – فتوى في «ثقافة الفتوى»

(تحية الى حلمي سالم

والى جميع الأصدقاء في مصر)

- 1 –

ما المعنى الثقافي الذي تُعمّمه «ثقافة الفتوى»، اليوم؟

إنه المعنى الذي يَنهضُ على المَنْع والعقاب. ينهض، بعبارةٍ ثانية، على «فَنّ» حَجْب الحقيقة.

هكذا تقول هذه «الفتوى» عن نفسها إنها تعبيرٌ عن ثقافة مجتمعٍ يعيش فيه أفرادهُ جميعاً متشابهين في أفكارهم وآرائهم، كأنهم نسخٌ بعضهم عن بعض، أو «أشكالٌ» مُتطابِقة، متآلفة، تحت راية «الوحدة» وهي، هنا، السُّلطة القائمة.

وهي، في ذلك، تقول: «الفرادة» في الثقافة العربية الإسلامية غير ممكنة.

لكن، ما قيمة ثقافةٍ تقوم على حَجْب الحقيقة، وعلى إلغاء الفرادات؟

ألا تبدو «الفتوى» في هذا المنظور كأنّها حاجزٌ مَنيعٌ في وجه الاستبصار الفكري؟ ألا تبدو كأنها تحول دون الاستقصاء والتساؤل والبحث؟

إن كان للثقافة العربية الإسلامية، اليوم، دورٌ، وأهميةٌ، ومكانةٌ في تاريخ الحضارة البشرية، فليس ذلك عائداً الى «أفق الفتوى»، وإنما هو عائدٌ، أساساً، وقبل كل شيءٍ، الى أفق الانخراط في الحياة ومداراتها: المجهول، الغيب، الجسد، الجنس، القلب، الرغبة، الشوق، اللذة، الهيام، المتعة، الشقاء، السعادة، الغبطة: الى العلوّ بلغة الكتابة والثقافة الى مراتب التجارب الكبرى، والانخطافات العالية، لا الروحية وحدها، بل المادية كذلك، والى الإفصاح عن هذا كلّه، بحرية عاليةٍ، ولغةٍ عالية.

- 2 –

الحق أن من ينظر الى المدار المعرفيّ الذي تتحرّك فيه «الفتاوى» التي يطلقها أصحابها باسم «الشرع الإلهي»، لا بُدّ من أن يصاب بالذهول. لسببين على الأقل:

الأول، للصورة التي تنعكس في هذه الفتاوى عن هذا الشرع. وهي صورة تجعل من الإسلام «اختزالاً مُعجمياً» للمُحرَّم والمحلَّل،

والثاني، للصورة التي تعكسها عن مستوى المعرفة، أو الهَمّ الثقافي الإنساني عند أصحابها.

- 3 –

إن في هذه «الفتاوى» ما يؤكد أن مستوى «النص» تابعٌ لمستوى قراءته: يكبر إذا قرأه عقلٌ كبير، ويصغر عندما يقرؤه عقلٌ صغير. وتبعاً لذلك يكبر التاريخ الذي يؤسس له هذا النص، أو يصغر.

- 4 –

ماذا يمكن أن يُنتظَر من «أهل الفتوى» في هذا الزمن الإسلاموي الصعب، إنسانياً وحضارياً، والذي تتكئ فيه الشعوب العربية، بخاصة، والمسلمة بعامة، على «الكُفّار» إياهم، في معظم شؤونها؟

والجواب، بالنسبة إليّ: يُنتظَرُ منهم أن يُفْتوا لارتقاء المسلمين الى مستوى هؤلاء، إنسانياً وحضارياً – في الإبداع والمعرفة، في العدالة والقانون، في الحريات وحقوق الإنسان، في المؤسسات العلمية والسياسية والديموقراطية، في الفنون والآداب، وفي العمل على المشاركة الخلاّقة في بناء عالَمٍ أكثرَ عدالةً وأغنى إنسانيّةً، وأوسعَ انفتاحاً.

- أن يفتوا لإقامة مراكز البحوث العلميّة الخاصة، والمعرفية العامة،

- أن يفتوا بضرورة التقدّم، والابتكار، والاختراع،

- أن يفتوا بضرورة القضاء كلياً على الأمّية والفقر والجهل والبطالة،

- أن يفتوا بتحقيق العدالة والمساواة،

- أن يفتوا بعدم تبديد ثروات الشعب، أو نَهبها، أو سرقتها، او اغتصابها،

- أن يفتوا بإلغاء الطغيان، لأيّ سبب وبأية حجة،

- أن يفتوا بالقضاء على الفساد، وعلى أسبابه،

- أن يفتوا باحترام الإنسان – بكونه القيمة الأولى والعليا: لا يُهانُ، لا يُكَفَّر، لا يُعامَلُ كأنّه مُجرّدُ شيءٍ أو مجرّد أداة،

- أن يفتوا، لا كيف يأكل الفرد ويشرب وينام... إلخ، بل كيف يُبنى المستقبل، وتُصَانُ الحقوق والحريات، وكيف تُجابَهُ القضايا الكبرى التي تفتح للعرب والمسلمين أبواب التقدم في جميع الميادين.

ب – «الفراغ»

تفرغ الثقافة العربية، شيئاً فشيئاً، من فِكريّتها. «الفنون»، البصرية والسمعية، تغزوها. تدعم هذا الغزو وتنشره على نطاقٍ واسع، التقنية وأدواتُها، وبخاصة في جوانبها الالكترونية. المهرجانات الموسيقية، والغنائية تكاد أن تحول كثيراً من المدن العربية الى مسارح تعجّ بالناس. تضاف الى ذلك «أعيادُ» الألعاب الرياضية، و «أعراسُها». المدينة تتحوّل الى «ملعب» – يحل شيئاً فشيئاً محلَّ الجامعة، والمُتحَف، والمسرح، ومَركز البحث العلمي. والجمهور كلّه في حالة نشوةٍ لملء ذلك «الملعب». وأحياناً يُنْفِق أكثر بكثير مما يكلّف الكتاب القارئَ الذي لا يشبع من القراءة. وتقف وسائل الإعلام، بمختلف أنواعها، الى جانب هذا الغَزو. يكفي أن تُقارنَ المساحات التي تُخصص لأشكال هذا الغزو وأبطاله، بالمساحات التي تُخصص للفكر أو للرسم أو للشعر أو للرواية، لكي يعرف الأهمية التي توليها هذه الوسائل لهذا الغزو، وكيف يتراجع الاهتمام بالثقافة «العالمة» التي يمثلها الكتاب.

إنها «ثقافة الحاجة»، نفسياً وجسدياً، هي التي تهيمن على العرب. هذه «الحاجة» هي التي تكتب تاريخ الجمهور العربي، اليوم. ولست أدعو الى محاربة هذه الحاجة. على العكس، أدعو الى تهذيبها وتثقيفها.

ولئن سمينا الثقافة التي تمليها هذه الحاجة بثقافة الاستمتاع (لهواً، ولعباً، وتسليةً... الخ)، فإن علينا أن نُعنى بثقافة الوجود، أو بما كان ميشيل فوكو يُسمّيه بـ «فنون الوجود». فهذه فنونٌ تكوينية. والمسألة فيها ليســــت أن نعرف المسموحَ والمنوع، دينياً أو اجتــــماعياً أو سياسياً، بل المسألة فيها أن نعرفَ كــيف يكوّن الفرد ذاته استناداً الى مبادئ وقواعد يتبناها. هذه «التقنية» الأخرى في بناء الذات، التي أسس لها الفلاسفة الرواقيون القُدامى، تجعل الفرد يتخطى ذاته، ويغيّر طرائق تفكيره، ومضـــمون فكره، ويرى رؤية جديدة للفلسفة بوصفها تنسّكاً واختباراً للنفس يُخرجها من تمركزها نحو الآخر.

إنها خروجٌ من ثقافة «الأنا» الى ثقافة «الذات - الآخر».

غير أن ذلك يفرض علينا أن نُعيد تحديد معنى الثقافة. وهو ما يلزمنا بأن نخرج في آن من الحدود التي ترسمها في هذا المجال «تقنية» «الفنون البصرية والسمعية والرياضية» الراهنة، و «تقنية» التقاليد الماضوية.

هل إعادة هذا التحديد ستلزمنا كذلك بأن نميّز بين ثقافة «الجمهور»، وثقافة «النخبة»؟ ثقافة «الفراغ» وثقافة «المِلْء»؟ كلا.

الثقافة مُهمة. وهي مهمةُ كلّ فَرْدٍ سواء عُدَّ، اجتماعياً، من الجمهور أو من النخبة، من «العامة» أو من «الخاصة» وفقاً للمصطلحين القديمين عند الباحثين العرب. مهمة يقدر كل فرد أن يُنجزها، من دون استثناء.

ثقافة الذات – الآخر تنهض، إذاً، على الممارسة الحية، وعلى تحـــويل الفــرد لذاته بذاته، وعلى إرساء علاقاته مع الآخر.

وكلّ هنا يبتكر ثقافة «خاصة» تتكون من الثقافة العامة. هكذا لا تجيء الثقافة من فوق اكتساباً، وإنما تجيء من تحتُ – ابتكاراً. ومعنى ذلك أنّ الثـــقافة تكمن في بناء الذات والمجابهة الحوارية الدائمة مع الآخرين، والتخلي عن القناعات المذهبية، وعن مختلف الدوغمائيات.

وليســت هذه المهمة بين تلك التي تُنجز، وتنتهي. وإنما هي مهمة متحركة. إنها بين المهمات التي لا تعرف حداً تقف عنده.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...