أدونيس: سورية وابتكار المستقبل

23-02-2012

أدونيس: سورية وابتكار المستقبل

-1-

«لم تعد هناك إلا وسيلة واحدة للتنبؤ بالمستقبل، هي أن نبتكره»، هذا ما قاله قبيل موته ستيف جوبس (Steve Jobs) الذي يتحدر من أب سوري.

صوت مفرد وخلاق ونبوئي، وأشعر أنه يخاطب السوري خصوصاً، فيما يخاطب الإنسان بعامة.

لكن، كيف تستطيع أن تبتكر المستقبل بلادٌ لا تكون سيدةَ نفسِها ومصيرها وقرارها؟ بلادٌ تعيش وتعمل وتفكر، نظاماً ومعارضة، في تبعية شبه كاملة؟ بلاد تقبل أن تكون مجرد أداة، وشكل، ورقم، مجردَ صورة، مجردَ خرائط جغرافية؟ بلاد تعجز عن إقامة سلطتها، نظاماً ومعارضة، إلا على العنف والقتل؟ بلاد ترقد فوق مستنقع ضخم من الفساد، والتعفن، والتفكك؟ بلاد لم تُحدث أيَّ قطيعة أخلاقية أو عملية مع الطغيان بمختلف أشكاله ومستوياته، حيث بقي الفرد البشري فيها موضوعَ امتهان وازدراء، حتى اليوم يهان وينتهك، في حقوقه وحرياته وفي... إنسانيته. وفي هذا كله، يتساوى النظام وقسم كبير من المعارضة.

بدءاً من البدايات، قبل الخلافة الأموية وفي أثنائها وبعدها، قبل الخلافة العباسية وفي أثنائها وبعدها، قبل الخلافة العثمانية وفي أثنائها وبعدها، قبل الخلافة البعثية في بغداد ودمشق وفي اثنائها وبعدها في مختلف البلدان العربية...

تاريخ طويل، غير إنساني، ومهين.

ولا يمكن فهم الأوضاع الدامية الفاجعة في سورية اليوم فهماً صحيحاً إلا إذا نُظر إليها في سياق هذا التاريخ، فالمسألة في العمق تتخطى السلطة الى بنية المجتمع: وهي لذلك مسألة ثقافية قبل أن تكون سياسية. إنها ثقافة نفي الآخر المختلف، ثقافة «الإكراه»، والكراهية، ثقافة الإبادة الذاتية.



-2 -

لا قيمة لأي سلطة إذا لم تكن أساساً خروجاً من هذا السياق الطغياني الإكراهي، سياق الإبادة الذاتية.

وهناك عرب، شبان وشابات، خرجوا عقلياً ونفسياً من هذا السياق. عرب كثيرون، هم الذين كانوا محركي «الربيع العربي» وقادته الأول. هؤلاء هم «مادة» المـستقبل، وهم الذين سيبتكرونه.

لم يعودوا يرون حلولاً لمشكلاتهم في الرؤية الماضوية للإنسان والعالم. لم يعودوا يؤمنون بأن التقدم البشري «يسرق»، على طريقة «بروموثيوس». إنهم يعتقدون، على العكس، أن التقدم «صناعة» تتحقق بأفكارهم وأعمالهم وإرادتهم.

-3-

حضور هؤلاء الشبان والشابات في قلب المجتمع العربي، جدير بأن يذكِّرنا جميعاً بحضور آخر مناوئ: «الإرهاب»، أن يذكرنا كذلك بالزعم القائل «إن الغرب يحارب الإرهاب»، وبضرورة التدقيق في هذا الزعم.

الغرب (الولايات المتحدة خصوصاً) يحارب الإرهاب في «الصورة»، غير أنه يسالمه في «المعنى». يضرب هنا بعض الصور، وهنالك يرسخ المعنى. مادته الأولى والوحيدة تقريباً، هي «الإسلام والمسلمون». ميدان واسع مستحدث يتيح للغرب أن يختبر، وأن يمارس فيه تجارب متنوعة، وخططاً عديدة، ورؤى مستقبلية متنوعة، بدءاً من «ترويض» ديار الإسلام الكبيرة، العنيدة، الغنية، بخلق التصدعات والانشقاقات في ما بينهم، يقتتلون، يتآكلون من داخل، تتفتت ثرواتهم في سبيل كل شيء إلا التنمية والتقدم وتوفير الحياة الكريمة لكل مسلم. ويتفتتون.

في أثناء ذلك، يعمل هذا الغرب على ترسيخ مصالحه العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فيما يعمل على إفشال أي نهوض إسلامي حقيقي، وعلى إبقاء العالم الإسلامي، العربي على الأخص، في تبعية كاملة، وامتداداً للقرون الوسطى: عالماً يسكنه أبناء ديانات ومذاهب، لا أبناء أوطان وحضارات.

-4-

هل يحق لي، باسم الشبان والشابات العرب، أن أحلم بدور آخر للعرب في العالم يكون دوراً قيادياً؟ أن يبدأوا فيفكروا لا في قتل هذا المُعارض، أو شِراء ذاك، في إماتة هذا النظام، أو إحياء آخر، أن يذهبوا الى ما هو أبعد وأعلى وأعظم: الانهماك في بلدانهم، بوصفِ كلٍّ منها مجتمعاً واحداً لا يتجزأ، في حرياتها وحقوقها، في سعادتِها وتقدمها.

وأذكِّر هنا بهذا الواقع المريع المريب:

يشكل سكان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية (85) خمسة وثمانين بالمئة من سكان العالم، ويشكل مستعبِدوهم الرأسماليون ما تبقى: (15) خمسة عشر بالمئة من هؤلاء السكان.

كيف لا يفكر العرب، انطلاقاً من تاريخهم وموقعهم الجغرافي وثرواتهم المادية والبشرية، أن يكون لهم هنا دور من يشارك في تحرير البشرية لا من يخضع ويعيش تابِعاً لأولئك الذين يخنقون العالم؟

كلا، لم تعطِ السلطة في تاريخها كلِّه أيَّ مجد لصاحبها. على العكس، السلطة تعلو بعلو صاحبها. الإنسان هو الذي يعطي للسلطة مجدها ومعناها، ولا يُعرَف الإنسان بالسلطة، وإنما السلطة هي التي تُعرف بالإنسان.

حقاً، يبتكر الإنسان المستقبل أو لا يكون إلا قشة في يد الريح.

حاشية:

يبدأ الشبان والشابات العرب هذا الابتكار فيما يناضلون يومياً، وفي جميع المجالات، لتحقيق أهداف ثلاثة:

1. الديموقراطية، من أجل إنهاء النظام العسكري الأمني.

2. العدالة والمساواة والتحرر من مقتضيات الليبرالية الاقتصادية، التي لا تؤدي إلا إلى أن يزداد الفقير فقراً، والغني غِنًى، ولا تؤدي بالتالي إلا إلى زيادة الفقر والبطالة.

3. التحرر من التبعية للهيمنة الخارجية، التي تتمثل خصوصاً في الولايات المتحدة، والتي ليست غالباً إلا تأسيساً للاستعباد باسم التحرر. وليست في الواقع إذاً، إلا هيمنة إمبريـالية، مهما كانت «الأزيـاء» التي تتزيّا بها.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...