أدونيس: (حلف «القيظين» ضدّ الإنسان: قيظ الصناعة وقيظ الطبيعة)

09-09-2016

أدونيس: (حلف «القيظين» ضدّ الإنسان: قيظ الصناعة وقيظ الطبيعة)

(«على هامش التلوّث العالمي

و«اتّفاقيّة باريس للمناخ»)

 

«آه، أيّتها الطبيعة. وأنت أيّتها الصناعة، ما أكثر الجرائم

التي يرتكبها الإنسان باسميكما».

هذا ما يمكن أن يرفعه شعاراً بشرُ اليوم، شرقاً وغرباً،

ويحاربوا باسمه هذا الحلف القاتل:

«حلف القيظين»!

إلى أن يحين ذلك، سأكتفي بأن أعرض للقارىء الصّديق، اختباراً واستبصاراً ، ذلك القيظ الذي يطاردُني، شخصيّاً.

*

مدّت يد المخيّلة دفتراً في هجير شمس لا يقدر حتّى الورق أن يمدّ يده لكي يصافحها.

أحرّك يدي اليُمنى، تبدو لي في مرآة الحرارة كأنّها يدي اليسرى.

كيف أخرج من هذه المرآة ؟ لكن هل أنا فيها حقّاً ؟

تأخذني المرآة في اتجاهٍ. يأخذني جسمي في اتجاهٍ آخر. أنشطر وأتجزّأ.

أين جزئي الأكبر - في بيت الشّمس؟ في بيت الظلّ؟

ظنوني تتنقَّل حرةً في جسمي من عضوٍ إلى آخر. من غيمة فكرٍ إلى غيمةٍ أخرى. أحاول أن أتحدّث معها. لا تريد، كما يبدو، أن تُصغي إليّ، أنا المنبوذ المقيّد،

هي خارج القيد، مع أنّها تتحرّك في داخلي. كأنّ الفضاء يسقط على رأسه.

أتأخّر عن اللحاق به. أهو الحظّ؟

لا تقدر الشمس الآن أن تمدّ يدها لكي تصافحني.

مدّت يد المخيّلة دفتراً -

أبيض. كأنّها تسألني:

- متى تستأنف أجنحة الأفق طيَرانها؟

إنّه القيظُ يزحف إلى غرفة عملي. قيظٌ لم يقنع بأقلّ من أن يكون، هو الآخر، غزواً:

تحويلُ الورق، المكدَّس المتناثر إلى ما يشبه شرائح رقيقة من الزّجاج تتفتّت حتى باللمس،

تعطيل المروحة،

تفخيخ الماء.

وذلك في خطةٍ محكمةٍ تصبح فيها الغرفةُ فرناً يحرسه انتحاريّون يعتزّ بهم الطقسُ - خصوصاً في جزئه الذي يُؤْثِِر الإقامة تحت الأرض.

قلت للغرفة: صحيحٌ أنّ البحر بعيدٌ عنك. لكنك عاليةٌ، ولو كنتِ في بلدٍ عربيّ لقيل عنك: إنّك تجاورين السّماء، ما خطبُك إذاً؟ وما يكون دورك؟ أين الهواء الذي تعدين به؟

نافذةٌ لا ينفذ منها غير اللّهب! تبت يدا أبي لهَب. أم أنّ فيك شيطاناً؟

الهواء نفسه الذي تأتين به الآن ليس إلاّ جسماً سائلاً للحرارة ذاتِها.

 

«اكتبْ وصيّتَك»: همسَت الشمسُ في أذن الهواء، كما لو أنّها تهمس في أذني.

شيءٌ غامض ثقيل يتدلّى فوق الرّئتين.

النهار يشتعل بين اليديْن والكتِفين، الأذنين والعينين.

وسمعتُ الدقائق تصرخ في تظاهرة حاشدة: سنوقف حوارنا مع الطّقس، ومع علم الأنواء.

إنه الفضاء كمثل لوحةٍ ضخمةٍ تتفسّخ وتحترق في نار حطب غامض يخرج من جوف غابة غامضة تخرج من حبال تاريخٍ غامض.

وماذا يجدي، في هذا كلّه، البوركيني الذي يشعل الآن في الغرب، الفرنسيّ هذه المرّة، «لهَباً» آخر؟ اللهب الذي لا يزيده البحر نفسه إلاّ اشتعالاً.

*

الحرارةُ عاليةٌ على الشّواطىء الفرنسيّة، الرّطوبةُ هي كذلك عالية.

بينهما ينغرِس «البوركيني» - ينمو ويعلو، كمثل أشجارٍ غريبةٍ في بساتينَ أليفةٍ، على شواطىء تضيق بها. هل الشواطىء هي أيضاً ضدّ الحريّة، وضدّ الشّمس، وضدّ الموج؟

وما علاقة «البوركيني» بالعلمنة ؟

«البوركيني» ثوبٌ. وهناك عقول ورؤوس ضدّ العلْمنة، لا على الشواطىء، وحدها، بل أيضاً في الشوارع والمدارس والجامعات. فلماذا نعاقب «البوركيني» ونحتفي بتلك الرّؤوس والعقول، ونحني أمامها رؤوسنا وعقولنا؟

*

إنّه عصرُ «اللاشيء» يواصِل احتفاءه بالأشياء كلّها. في أفق واحد على طريق واحدة يشقّها حلف القيْظَين . لكن لكلّ خطواته الخاصّة التي يؤالِف في ما بينها الاختلاف ذاته، تكتيكيّاً أو استراتيجيّاً، وفقاً للحالة.

هوذا، للمرّة الأولى، أثر فادِح لخطواتٍ لم تُهيّأ لكي تترك أثراً.

إذاً، هكذا يعطي الإنسانُ كلامَه إلى أحلامه، وحياتَه إلى أوهامه،

معيداً لجرح الوجود سيرته الأولى.

إذاً، هكذا هاجر ذلك الشجرُ الذي كان يفتح أغصانه

لجميع الطّيور التي تهبط مرهقةً من فضاء الهجرة.

*

نعم، كما تقول: ليس في هذا اللاشيء

غير النضال في سبيل الإنسان وحقوقه، طِبقاً لمزاعمه. نضالٌ يجمع الناس كالسنابل،

أعني يفرّقهم أيضاً، كالسنابل، ويسير أمامهم ولا يروْنه.

كلّما تعب هذا اللاشيء، قطع رأس طفل ورسمه بأسنانه

على خرقة سوداء.

خرقة تقول إنّها عصر داخل العصر.

*

أسمعُ الآن وقعَ خطواتٍ لكلماتٍ راجلةٍ تركض شبه مجنونةٍ

بين جدران غامضة،

هُوَذا أرى إليها تتهاوى مخنوقةً بين يدي خالقها.

ـ «من خالقها؟»،

سؤالٌ لا تكفّ هذه الجدران عن طرحه.

*

هذا اللاشيء يحبّ العَيْشَ في الحرارةِ التي تُسمى قيظاً،

مع أنّه لا يتحدث إلاّ عن الحدائق التي يصرّ على وصفِها

بأنّها غنّاء.

والمطرُ نادر. الجميع يقولون، همساً:

«عندما تُمطِر السّماء

نكون قد يبِسْنا.

ويكون الانقلابُ الفصْليّ في بلادنا قد اكتمل هو أيضاً.

القلَمُ سيفٌ،

والحِبْرُ دمٌ،

والعمَلُ وَخْزٌ كوْنيٌّ

والرّمادُ الحَصاد « .

*

كان ذلك الصّديق شارداً يفكِّر في غير ما قرأه قارىء هذه المقالة.

قال لي:

«أُصاب بالبرداء، أنا الجالس على ذروة القَيظ،

عندما أقرأ ما كتَبَه الشاعر الألمانيّ ريلكه، عن الملائكة. عن أجنحتها، خصوصاً.

أين كان يسكن، إذاً ؟ وكيف كان يفكّر؟

وقال لي: إنّهم أبطالٌ نذَروا

أنفسَهم للخلود، في ما وراء «حلف القيظين»،

فضاؤهم هو اللاشيء نفسه، حيث تسبح رؤوسهم في قواربَ

لها أشكال الأجسام الأنثوية. وما أكثر الأجنحة الغريبة التي بعثت

لكي ترفْرف فوق هذه الرؤوس، في أشكال غريبة من الأسلحة،

ولكي تسهر عليها تحت سماء تبدو

كأنّها مجرّد ظلٍّ لشجرةٍ فرعها مجرد اسْم لظلّ

خفي لا يراد له أن يبوحَ باسمه».

*

«حلف القيظين» - التلوّث الكوني، البوركيني، قتل الأطفال، سبي النّساء، تدمير المدن، محو التاريخ وآثاره... «نعم، لا تطاق الحياة، ولا تطاق الثّقافة في هذا العـــالم الـــذي يتـــحوّل فيه البشر إلى طرائد للصّيد - ذبــحاً، وقــتلاً، في لهو كامل - لهو القدمين، ولهو اليدين، ولهو الرّأس.

«حلف القيظين»: برَدٌ ورملٌ

يسقطان معاً فوق رأسي،

من غيم الوقت.

جري وراءك، يا ريح الوقت، هذه الورقة اليابسة

أدونيس

المصدر:الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...