أدونيس: (ثلاثة شوارع / ثلاث مدن)

27-03-2015

أدونيس: (ثلاثة شوارع / ثلاث مدن)

- 1 -

I . الشارع الأوّل

فاجأني في هذا الشارع، في تلك المدينة (مدينة للجميع وليست لأحد، وفقاً لعبارة نيتشه) أنّ الدالَّ فيه، كما يقول علماء اللغة، يغيّر مدلولَه باستمرار: يتأرجح يمنةً ويسرَةً، هبوطاً وصعوداً. موجٌ بين الموج والموج، حيناً. رملٌ بين الرّمل والرّمل، حيناً آخر.
تساءلتُ في ذات نفسي: هل هذه ظاهرةٌ مفردةٌ، أم أنّها ممكنةُ الحدوث في بعض الحالات؟ وكيف يفسّرها علماء اللغة؟

ولعلّي أخطأتُ لأنّني لم أطرح هذه المسألة على أحدٍ من قبل.

الصّوَرُ في الشارع كثيرةٌ، أكثر ممّا كنت أظنّ.

قلت لصديقة تُعنى بفنّ الصّورة:

- هل الصّورة أقلّ حضوراً من الأصل؟ وأقلّ يقينيّة؟ أو أضعف تأثيراً وفاعليّة؟

هذا، كما يبدو، ليس أمراً بدَهيّاً. وما على الذين يشكّون إلا أن يسيروا في الشوارع، ويتأمّلوا.

قالَت:

- أنت تشيرُ إلى «مسكوتٍ عنه» في ثقافة الصّورة. وعندي، شخصيّاً، أسئلةٌ في هذا الصّدَد.

منها، مثلاً، كيف تـرى السّــماءُ نفسها، إلاّ إذا «صُوِّرَت»؟

وكيف يؤمن الإنسانُ بما لا يُرى، إلاّ عبرَ ما يُرى؟

وهما سؤالان يطرحان سؤالاً أكثر تعقيداً:

ألَنْ يكون رفضُ صورةِ العالم رفضاً لمعنى العالم؟

لكن قلْ لي: لماذا نحن العرب اليوم، لا نزال كمثل غيرنا من البشر القدماء، نثور على الإنسان - الصورة، باسم «المصَوِّر»، ونثور على الأرض - المادّة، باسم السّماء - الأثير، ونثور على الوجود المَرئيّ باسم الغيب اللامَرْئيّ ؟

ألا نبدو هنا كأنّنا نعيش في حربٍ متواصلةٍ مع الحياة والواقع، وفي صلحٍ متواصلٍ مع الموت والتوهّم؟

ثمّ تابعَت قائلةً:

انظر إلى هذه اللافتة، إلى يسارك، ألا تبدو كأنّها تقول، بالصّورة إيّاها :

«الدِّرهَمُ كمثل الدّولار. يمكن وصفه بأنّه وحلٌ معدنيّ (أو ورقيّ) مُتجَمِّد. غير أنّه، في التداول، يعود إلى أصله: وحلاً.

وحلٌ في النّشأة، وحلٌ في المصير.

والإنسانُ بينهما:

الوجودُ - الوَحْل !»

وانظرْ إلى ما يقابلها، إلى يمينك. كأنها تقول:

«اشْتَرِ»، تصرخ السّوق.

«ادفعْ» يصرخ الدّائن.

«هذا كنزٌ معرفيّ» يصرخ السياسيُّ التّاجر.

ثمّ يتابع صراخه:

«حاربوا، حاربوا. وإلاّ توقَّفَتْ مصانعُ الأسلحة، وازدادت البطالة، وقلّ المال.»

كان القمرُ هلالاً.

- أنت كذلك، أيّها القمرُ الأبيض، لستَ أبيض إلاّ توهُّماً.

- 2 -

II الشّارع الثاني

تغلب على هذا الشارع (مدينة ليست للجميع وهي لذلك ليست لأحد)

ثقافةُ اللافتات.

لافتة 1: «هل أنتَ واثِقٌ أنّ عينَك التي ترى الوردةَ هي نفسُها التي ترى الشّوكة؟»

لافتة 2: بعضُهم يحبّ أن يشمّ العطرَ بدولاب سيّارة، وليس بحاسّة الشمّ».

لافتة 3: لا تنشرْ شراعَك بين يدي الموج، عندما تكون في قاربٍ في البحرِ وحيداً، أو برفقة صديقتك. انشرْهُ بين يدَي غيمةٍ عابرة.»

لافتة 4: «ذهَبَ وحقّق ما فكّر فيه وخطّطَ له.

ذهبَ وأعادَ النّظر كلّيّاً في مشروعاته وأفكاره.

ذهبَ ولم يَعُدْ».

لافتة 5: لا بدّ من أن تنخفضَ أسعارُ البشر إن شئنا أن ترتفع أسعارُ البقر أو الدّولار واليورو.»

لافتة 6: «الرّغبةُ هنا فراشة،

لكنّها فراشةٌ مفترسة.»

*

يمكن أن تصف أيّ مطعمٍ في هذا الشارع بأنّه خيمةٌ، أو هَوْدَجٌ . يمكن أن تعرّج ليلى عليه في أيّة لحظة باحثةً عن قيسها، راكبةً على آلةٍ وتريّةٍ لها شكل الفرَس.

يمكن أن تنحني على أذنك هامسةً: انظرْ إلى يمينك. إنّه بيتٌ لنرسيس الذي يكاد أن يموت من البرد في سريره الذي يكاد أن يحترق في لَهَب الرّغبة.

*

يمكن أن تحظى بشاعرٍ مشرَّدٍ كتب لتوِّه في دفتر يوميّاته:

«تخرج من البحر أمواجٌ في شكل مآذنَ وأجراس. على الشّاطئ تختلط أجنحةُ الطّيور بأرجل الكواكب».


III . الشّارع الثالث

في هذا الشارع (المدينة الثالثة) التقيتُ بصديق قديمٍ لم أرَه منذ مدّة طويلة. كان مُرهَقاً، وأحسَسْتُ أنّه يحبّ أن يتكلّم. أتَحْتُ له أن يقول ما يشاء كما يشاء.


- «عندما نتأمّل عميقاً في الإنسان يبدو لنا أنّه أليف الفصيلة النباتيّة المُعَرِّشة التي لا تعيش بذاتها، وإنّما تعيش بغيرها، وهي هنا تحديداً: نبتةُ اللّبْلاب.

الإنسان - يلِدُه إنسان، ويكبُرُ في ظلِّ إنسان، ويعلِّمه إنسان، ولا يحيا ولا يوجد إلاّ مع آخرين. الآخرون هم الذين يصنعون «ذاتَه».

والفرقُ في هذا بين إنسانٍ وإنسانٍ، بلدٍ وبلَدٍ، هو فرقٌ في الدّرجة لا في النّوع.

هكذا يمكن القول إنّ الإنسانَ «اشتقاقٌ «:

من المادّة (الجسمُ... إلخ)،

من السّلالةِ (النُّطفة، الهويّة...إلخ).

من التاريخ (اللغة، الذاكرة ...إلخ) .

أصلُ الإنسان في «غيره». وهو «مصنوعٌ « بغيره.

كأنّ الإنسانَ «صناعةٌ» لا يمكن «تخيّلها»، لكثرة ما هي غريبةٌ، طويلةٌ، معَقَّدَة.

والسّؤالُ هو:

كيف يمكن القول عن شيءٍ لا يمكن تخيُّلُه أنّه موجود؟

العقلانيّة؟ نعم. إنّها دكّانٌ مفتوحٌ على مصراعيه. كأنّه «سَقفٌ مرفوعٌ». دكّانٌ يوحّد بين الغرب ومشرقه، أو بين الشرق وغربه.

مسرحٌ يمثِّل فيه الفهدُ دورَ الغزال، والغزال دورَ الهُدْهُد، والهُدْهُد دورَ السّائح.


الفكرُ والفنّ يستضيئان بشمس هذه العقلانيّة. لهذا نفهم كيف أنّهما قاصِران مُعَوَّقان.

شمسٌ تسحق البصر وهي نفسُها عمياء.

لا شيءَ يرى أيَّ شيء.»


IV . مقاطع من رسالة إلى صديقة، حول المدن الثلاث:

«... نعم، ربّما يكونُ كلُّ عربيّ، كما تقولين، يعدُّ نفسَه قائداً. وله جيشُه الخاصّ به. لكن، ما الأسباب التي تجعله يجهل جهلاً كاملاً كيف يكون قائداً؟

من بعيدٍ أرى إلى خطوات العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين تتأرجح متثاقلةً في سيرها على طريق العرب. كيف كانت إذاً، وأين هي الآن خطواتُ القرن السابع؟

وأكاد أن أسمع من يتساءل: متى يتمّ القضاء على الانسان العربي؟

خصوصاً أنّ ليلى أقسمَت أنّها لن تتزوّج إلاّ قيساً، ولو عاشت في كوخ. ولو لم يكن في الكوخ إلاّ رغيفٌ واحد، وكوزٌ واحد من الماء. ربّما لهذا، تضامناً معها، يتغيّرُ المناخ. تُغادِر الشمسُ مكانها. يهرب القمر إلى كهفٍ بعيد وغير مرئيّ في هذا المجهول الكونيّ. ربّما لهذا، أقسَمَت الغيومُ أن تسيرَ عاريةً في الفضاء.

ربما لهذا أيضاً يقول الحبُّ غضباً ويأساً: عِش حيثُ لا جذورَ لك.

... هكذا أجلس الآن فوق الرّمل على شاطئٍ صغيرٍ ينتمي إلى البحر المتوسِّط، جدِّنا.

ها هي الشمسُ تجلس إلى يميني. لم يتكلّم أحدُنا مع الآخر.

نهضْتُ من مكاني. بقيَت الشمسُ جالسة. أتراها تنتظرني؟

... لكن قولي لي أيّتها الصديقة الغالية، لماذا أشعر كلّ لحظةٍ، أنّني ولِدْتُ من هنيهة؟ أعندَك جوابٌ، أنتِ أيتها الغيمةُ العابرة التي تحكُّ خاصرة الفضاء؟

(...)

بين الواقع والحلم جسْرٌ من الصّوَر. جسرٌ تعبرُ عليه اللغة. يهتزّ، يتأرجَحُ كأنّه يوشك أن يتدحرجَ في الهاوية.

أتلك هي لحظةُ الشِّعر؟

البحر - الصّحراء: يلتقيان منفصِلَين.

الصّحراءُ شذراتُ رملٍ. البحرُ شذراتُ أمواج.

للكتابة هنا وهناك اسمٌ هو الزّمَن: رملٌ يلبس عباءةَ الموج.

البحرُ نقطةُ حبرٍ في أدواته.

والكونُ كلُّه عينٌ اسمها الحلم.»

*

V . مقاطع من رسالة جوابيّة:

(...)

تقدّمْ تَراجَعْ. كُنِ النِّظامَ والفوضى في إيقاعٍ واحدٍ. كُنِ اللّعبَ والجدّ، وارقصْ.

ارقص أيُّها الكائن المنفصِل - المُتَّصِل/البحر - الموجُ، الصّحراء - الرّمل.

لحظةٌ عربيّةٌ: لا تموتُ فيها الفريسةُ وحدَها،

وإنّما يموتُ المفترِسُ أيضاً.

لحظةٌ ممّا قبل التّاريخ.

لحظةٌ ممّا بعد التاريخ. ( ... ).»

*

صوتٌ من خارج المدن

هوَذا أنظر من بعيدٍ: حَمضُ التّاريخ فائضٌ، والأيّامُ تبتلع أبناءها. يبدو البحرُ المتوسِّط كمثل تمثالٍ ضخمٍ لحوتٍ ليس يونسُ إلاّ حرفاً صغيراً في كتاب أمعائه. وتبدو السياسةُ فيه، كمثل نِمالٍ إلكترونيّة، تعيش في خلاياه. غير أنّها تبدو حوله كمثل بيتٍ ضيِّقٍ وبائسٍ يتقاسم فيه الأبناء تراث الآباء وثرواتهم. لكن، لم تَعُد المرأةُ قطافاً، صارت صيداً: كُن إذاً صيّاداً. دمُ الأنوثة: تلك هي مأدُبةُ الذّكورة.

إنّها السّماء تحرس الجميع.

الإنسان؟

جِسمٌ وظلُّه، أو ظلٌّ وجسمُه؟

انظرْ حولك، أينما كنت في هذه المدن الثّلاث، وسوف ترى أنّ الشّخصَ فيها، قائماً أو قاعداً أو متحرِّكاً، إنّما هو اثنان في هيكلٍ واحد:

«الجسم» الذي يُمسِك بيد المادّة،

و «الروحُ» التي تُمسك بقدم السّماء.

أهلاً بالضّيف. تفضّلْ وافْتَتِحِ المائدة:

نارٌ على الفُرات،

تُذيب أسنانَ الذّهب في فم الشّمس.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...