«مارتن إيدن» رواية جاك لندن.. الحيـاة وحدهـا تؤلـم

29-08-2011

«مارتن إيدن» رواية جاك لندن.. الحيـاة وحدهـا تؤلـم

مارتن إيدن سـفـّاح الحي الذي أرعب الشرطة لسنوات، وهو عامل المغسلة الذي كان يعمل كالآلة شاعراً أن الكدح يحوّله لبهيمة، وهو البحار الذي رمى نفسه في عالم الخطر والمغامرة كي لا يموت من الجوع لأنه ينتمي لأدنى طبقة من الفقراء، وهو الذي صار أعظم كاتب في أميركا...جاك لندن
مارتن إيدن هو كل ما سبق، ومن الصفحات الأولى للرواية يأسرنا جاك لندن، نتحوّل تماماً لأسرى لا يمكننا ترك الرواية التي تخطف الأنفاس، لأنها ملحمة إنسانية ولأنها تفجّر أعمق الأسئلة الوجودية والفلسفية بطريقة غير مباشرة... من هو الإنسان؟ ما هذا المخلوق اللانهائي الطاقات؟! وكيف يمكن للانحطاط والشر والقذارة أن ينتج عنه إبداع بأروع تجلياته الجمالية والفكرية...
تحوّل مارتن إيدن إلى إنسان من لحم ودم وأنا أقرأ الرواية لتي حملت اسمه (صدرت عن دار نينوى)، شاب فقير أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، يفتقر للحب لأنه يتيم وهو طفل. لكن قلقه المعّذب أخذ يتضح ويتبلور حين وضعه قدره في مواجهة أسرة برجوازية مثقفة، تهتم بالأدب والموسيقى والفن. أحس مارتن إيدن بروعة وعظمة هؤلاء الأشخاص وتلك الحياة، وانبهر بكلامهم، إنه بالكاد يعرف أن يصوغ عبارات مضحكة ركيكة، ولا يعرف كيف يعبّر عن نفسه، وجن بحب روث، الفتاة الجامعية، باهرة الجمال والرقيقة التي تكبر مارتن إيدن بثلاث سنوات.
روث شعرت بميل نحو مارتن إيدن، أحست هذا الرجل ملتهباً كبركان، ينفث قوة ونشاطاً وصحة، رغم أنها اشمأزت من خشونته وفظاظة كلماته، لكنه بلبلها وللحظات ومضت بخيالها عشرات الصور الفاحشة تصورها معه ملتهبة بالشهوة نحوه، لكنها أبت بينها وبين نفسها أن تعترف أن صعلوكاً مثله يمكن أن يحرّك فيها أي شعور...
ساعدته روث وبدأت معركة الجهل مع المعرفة، بدأ السفاح والبحار وعامل المغسلة ينزع جلده القديم، ويتجه بكل جموح روحه إلى التعلـّم، مدفوعاً بحب جامح لروث، مؤمناً أن الحب هو أجمل ما في الحياة، لقد شعر بينه وبين نفسه أنه حان الوقت ليتعلم التحدث عن الأشياء التي تحدث في داخله، ولا يعرفها، لكنها تقلقه وتخيّم على أفقه، كان بطبيعته قوي التفكير والإحساس، وكان يملك تلك الروح الإبداعية الفذة التي ستتسلم زمام قيادة شخصيته وتعيد صياغتها وخلقها...
لقد رأى مارتن إيدن وهو يقذف نفسه إلى عالم الكتاب، رأى بما يشبه الرؤية، الآفاق اللا نهائية للمعرفة، وكان يعي وهو يكدح ست عشرة ساعة في المغسلة يغسل كل يوم أطناناً من الثياب في ظروف عمل سيئة تدفع للجنون، رأى وهو يعمل كالآلة تلك الشرارة الإبداعية في داخله، وقرر أن عليه أن يعبّر ويكتب عما سمّاه – انحطاط الكدح - لقد آمن أن بإمكانه أن يسيطر على الحياة بالكتابة، ولم تتوقع روث أن هذا البحّار الجلف الجاهل يملك أفكاراً أذهلتها وأشعرتها أنه يملك بذور الحقيقة التي هددت بخلع كل قناعاتها البرجوازية الراسخة.
كان مارتن إيدن قد تلمس طريقه ككاتب، واستسلم لهوى تحقيق الذات، كان يؤمن بنفسه، لكنه كان وحيداً في إيمانه بذاته، فلم يؤمن به أحد، حتى روث كانت تلحّ عليه أن يجد وظيفة يعتاش منها، وحين كان يقرأ لها كتاباته من شعر وقصة ورواية، كانت تلزم الصمت وهي تشعر بخيبة أمل، أو تقول له بأنها تفضل أن يترك الكتابة ويجد مهنة، فالزواج يتطلب مالاً وعليه أن يشعر بالمسؤولية تجاهها...
لكن لا شيء في العالم قادر على إطفاء شعلة الإبداع حين تتوهج، وبدأت معاناة مارتن من رفض العديد من الجرائد والمجلات أعماله، يرفضون من دون أن يوضحوا له السبب، فانكبّ على دراسة نوعية القصص التي تحب الجرائد نشرها، فاكتشف الخلطة التالية: وجد أن أقاصيص الجرائد لا يجب أن تكون مأساوية، وألا تحتوي على جمال لغوي أو رقة فكرة، ولا رهافة عاطفية حقيقية، أدهشته الكمية الهائلة من المادة المطبوعة الميتة التي لا ضوء فيها ولا حياة ولا روح.
لم يؤمن به أحد، واضطرت روث أن تتخلى عنه خاصة بعد أن صار له فكره الخاص الإبداعي فكان يتحدى أفكار الطبقة البرجوازية التي يلتقي بشخصياتها المثقفة الملمّعة في بيت حبيبته... لقد سماهم بالمتعلمين الجهلة، ماذا فعلوا بتعليمهم، لقد درسوا كل الكتب التي قرأها هو، لكن لم يستفيدوا منها أبداً، كل ثقافتهم وكتبهم وتبجحهم مجرد مظاهر...

وحده ضد العالم
وحين انتقد مارتن إيدن أشهر مطربة أوبرا في ذلك الزمن، جنت روث وقالت له كان عليك أن تشعر كما شعر الناس، من أنت لتكون وحدك على صواب، وكل العالم المثقف على خطأ؟
محبطاً ومهزوماً وجائعاً ووحيداً، تخلّت عنه روث، ولفظته البرجوازية المثقفة خارجها، والفقراء الذين يعيشون انحطاط الكدح في سبيل ألا يموتوا من الجوع، هم طبقته الحقيقية...
ورغم أن بعض المجلات نشرت بعضاً من أعماله، إلا أنه ظل نكرة وجائعاً، كانوا يدفعون له بضعة دولارات، ليأكل ويشتري طوابع، ويعيد الكرة إلا ما لا نهاية... لم ينهزم ولم ييأس، كان شيء كامن يدفعه لمواصلة الكتابة، ليست القصة بحد ذاتها بل دافع كوني عظيم أوحى له بهذه الحبكات وهذه القصص، كان يشعر أن ما يكتبه شيء كبير جداً، لقد نجح في الإمساك بأشياء كريهة وعَصَر منها الحياة.
لم يستطع أحد مما حوله أن يواكبه في أفكاره الإبداعية، أن تكون كاتباً عظيماً يجب أن تتحدى المستحيل، أن تؤمن أنك ستصل بالتأكيد إلى الناس من خلال تحدي المستحيل ومن خلال معجزة، كان مارتن إيدن يؤمن أن العظماء الذين تركوا بصماتهم في عالم الفن والأدب هم الذين تمكنت أعمالهم من حرق هؤلاء الذين عارضوهم...
يتحول مارتن إيدن إلى كاتب مشهور ويذيع صيته بقوة بعد أن تنبه له أحد أهم النقاد في عالم الأدب، وكتب مقالاً عن قصيدة رائعة كانت إحدى المجلات قد نشرتها لمارتن إيدن، وأشاد الناقد بعبقرية هذا الذي اسمه مارتن.
وبعد أن صار مارتن إيدن كاتباً مشهوراً بدأت البرجوازية تتودد إليه، حتى أن خطيبته التي تخلت عنه ارتمت عند قدميه تستعطفه ليعود إليها، لكنه قال لها: أنا أنا لم أتغير، لقد كنتِ ترفضينني وتعتبرين كتابتي فاشلة وغير إبداعية، والآن حين تهافتت عليها الجرائد صارت بنظرك كتابات مهمة وإبداعية.

المعايير
ما المعايير الدقيقة والموضوعية للإبداع؟! وهل الاعتراف هو الغاية؟! هل يحتاج المبدع إلى اعتراف الناس كي يتأكد أنه مبدع؟ وحين كان مارتن إيدن فقيراً ونكرة، لكنه يبدع أعمالاً رائعة، ولم يعترف به الناس، هل كان عليه أن يشكك في إبداعه وينهزم، أم يستمر متحدياً المستحيل كما فعل؟
أسئلة تتفجر من صفحات الرواية، لكن للأسف، يبدو أن الوصول هو النهاية، لم يستطع مارتن إيدن تحمل كل تلك الشهرة والنجومية، كان يشعر وهو يعيش في قلب الترف، وآلاف الدولارات تتدفق عليه من كل صوب، بأن الصفات الإبداعية بدأت تمّحي منه، لم يعد شيء يثيره ولا يسعده، ورفض النساء وأدار ظهره للطبقة البرجوازية، وقرر القيام برحلة بحرية عسى البحر يفتح شهيته للحياة... لكن حتى الرحلة البحرية لم تنتشله من حالة الموت الروحي الذي أحسه، كان يُعامل كملك من قبل طاقم السفينة، لكنه ألقى نفسه في البحر، وشعر بألم فظيع حين هاجمته أسماك مفترسة وبدأت تعضّ جسده، الألم الذي أحسه هو ألم الحياة، الحياة وحدها تؤلم، فالموت لا يؤلم، وعى بكل ذرة من جسده ألم الحياة، أجبر نفسه أن يغوص إلى القاع لتغرق رئتاه بالماء... كان يريد أن يجرب إحساسات عنيفة صاخبة، إحساسات حية.
في قاع البحر يختار مارتن إيدن نهاية لحياته، تاركاً أعماله التي وصلت أخيراً إلى الناس لأنه تحدى المستحيل.

هيفاء بيطار

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...