«بيت من حجر» لأنتوني شديد.. الهوية المدمّرة

04-06-2013

«بيت من حجر» لأنتوني شديد.. الهوية المدمّرة

حين قرأت السطر الذي أنبأ بوفاة الكاتب أنتوني شديد، تذكّرته فوراً. تذكرت أن التلفزة عرضت إلى صورته على شاشاتها في خبر موجز ينعيه مكتفياً بتعريفه: «مراسل نيويورك تايمز. ولعل هذا المراسل اللبناني الأصل، اللبناني جداً كما يقول كتابه «بيت من حجر» الصادر حديثاً عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» قد ترك لنا أحد أهم الكتب المثيرة، المكتوبة بأسلوب جميل، قصة منزل دمّرته المعارك وقصة مراسل حرب، أو لنقل مراسل حروب. أنتوني شديد في هذه المذكرات المؤثرة والمدوّية، يرسم (حائز جائزة بوليتزر) فسيفساء تدمج ما بين الماضي والحاضر، كيف أعاد بناء منزل العائلة في مرجعيون، ليكون الشيء الوحيد الذي يذكّره بأصوله وبوطنه الأم، لبنان. من خلال هذا المنزل، يسرد شديد رحلة تهجير عائلته من لبنان وإعادة توطين أفرادها في أميركا. انطلاقاً من المنزل والعائلة، وانطلاقاً من مرجعيون التي تبعد (10 كم/ عن سوريا و(10 كم) عن فلسطين المحتلة. يوثق الكاتب جميع التغيّرات التي طرأت على الشرق الأوسط، ولا سيما لبنان وفلسطين وسوريا والأردن والعراق، و«بيت من حجر» هو فعلاً تأمل لا ينسى عن الحرب والمنفى والولادة من جديد واللهفة الجامحة للمنزل: «تذكّرت بيتنا في مرجعيون، عندما واجهت منزلاً على تلة انسحبت عظمته امام الإهانة. إنه الفراغ والقحل واليأس نقيض الإبداع والمخيلة».
يقول أنتوني في مقدمة كتابه بأن البيت يترجم حرفياً بالمنزل، بيد أن دلالاته تذهب إلى أبعد من الغرف والجدران، فتستجمع الحنين المتمحور حول العائلة والمسكن. والبيت في الشرق الأوسط مقدس. تسقط الأمبراطوريات، وتنقلب الأمم، وقد تتحرك الحدود أو يُعاد ترسيمها، وقد تتلاشى الولاءات القديمة أو تتغير من دون سابق إنذار، إلا أن البيت سواء كان بناء أو تربة مألوفة، يبقى في النهاية الهوية التي لا تزول. يكتب أنتوني عن منزل جده إسبر، عن واحد من تلك البيوت التي نسميها مهجورة أي متروكة ومهملة ومستوحدة. وتحكي البيوت المهملة ـ الضعيفة، المتهاوية، المسكونة ـ عن عزّ مرجعيون الضائع. حكاية البلدة كتبت في هذه الأماكن، وهي تاريخ رحيل. ناس البيت بقوا يخطرون في بال الكاتب في كل يوم، ويمكن للمرء ان يسمع في تلك الغرف الخربة أصوات الأشباح وأسف من لا يزالون يتعرفون إليهم.
حضر شديد ووثق معركة قانا، كما غطى الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006 في تموز، ثم لا ننسى انه مراسل حرب شهد تلك الأميركية التي شنت على العراق، وعلى ليبيا، حتى موته مؤخراً في الحرب السورية. هذا الكتاب بدأ العام 2006 فكرة عابرة، ثم تحول بفضل مؤازرة الأصدقاء والعائلة إلى تشكيل شهادة يقدمها لعشيرته المتوسعة في مدينة أوكلاهوما التي يراهن أنها ستبقى معاً حتى لو تفرقت.
ما يُسحر في الكتاب، هو اللغة الأدبية الطرية والراقية التي كتب بها، والشاعرية في مطارح كثيرة، كذلك النبرة الحزينة التي تغلّف السرد وتحاكي الكاتب الذي يستنهض ماضياً لن يعود: «لن يسهل على الزمن أن يمحو هذه الأمور الثقافية. هل سبق وقلت لك إن بيتنا في مرجعيون أقدم من أميركا؟ أربعمئة سنة. قد أبدو سخيفاً، لكنني فخور به. أطلب المساعدة وساعد. القيم الإنسانية وليس قيم المال والتكنولوجيا والآلة. ولهذه الأمور مغزاها، ولهذه الثقافة أهميتها لنا».
المراسل اللبناني الأميركي الذي قضى مؤخراً في أثناء تغطيته الحرب السورية، خلّف لنا هذا الكتاب القيّم، المكتوب بأناقة الإنكليزية وأبهتها، وعبر مترجم لا يقل أناقة في لغته هو انطوان باسيل ما يطرح تساؤلاً عن مصادر هذه العربية، وضلوعه المتمكّن منها.

عناية جابر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...