«الـربـيـع الـعـربـي» لـيـس ثـورة

27-02-2013

«الـربـيـع الـعـربـي» لـيـس ثـورة

كما كل زمن ايديولوجي عربي، ليبرالي او قومي او اشتراكي، لما دعي بـ«الربيع العربي» خطابه ومقولاته ومصطلحاته الايديولوجية الملتبسة والمثيرة للجدل بدءاً من مصطلح «الثورة» بالذات. فهل الانتفاضات العربية هي ثورات كما رأى اليها البعض ام انها حراك شعبي ما دون ثوري اقرب الى التمرد والعصيان والحرب الاهلية، مآله اسقاط مستبد للاتيان بآخر لا يختلف عنه في التوجهات والتطلعات والعقل السلطوي؟ هل هي تقطع مع الماضي لتؤسس عالماً جديداً بكل الوجوه والاعتبارات ام انها ارتداد الى الماضي اياه واعادة انتاج مقولاته واعرافه المفوتة؟
كذلك هي مقولة «الشعب يريد اسقاط النظام» التي تحيل بدورها الى التباسات كبرى. فهل «الشعب» في العالم العربي كل واحد متجانس بلغ حالة الاندماج الوطني الكامل حيث تتقدم المواطنية على كل الانتماءات الاخرى ما قبل الوطنية، وهل هو حقيقة يريد اسقاط النظام، وهل عنده تصوّر محدد للنظام الذي يريد بناءه على اشلاء النظام الآفل، وما الشكل السياسي او الاجتماعي للنظام المنشود وما خلفيته القومية او الطبقية؟
الواقع ان الشعب في العالم العربي لا يزال جماعات متنابذة او متعايشة في افضل الحالات، متواجدة في بلدان، هوياتها غير محسومة او قيد الدرس، ولم تستطع بعد ان تخرج من انتماءاتها ما قبل الوطنية، الطائفية او المذهبية او الآثنية. وهذه ليست في مجموعها ضد الانظمة القائمة، ولا تصور لديها لنظام بديل اكثر حداثة، بل ان شرائح واسعة منها تقف في صف الانظمة وتحتمي بها وترى في البدائل خطراً عليها. اليس في ما يحدث في العراق وليبيا ومصر وسوريا تأكيداً لذلك؟ الم يكد مرشح حزب مبارك احمد شفيق يعود الى رأس السلطة في انتخابات الرئاسة المصرية؟ وهل شكل نظام مرسي تغييراً فعلياً ام اعادة انتاج للعقل الاستبدادي اياه بايديولوجية دينية تؤسس لتشريع الاستبداد وادامته؟ وهل يواجه الاسد في سوريا حركات الاحتجاج عارياً من تأييد شرائح شعبية واسعة تؤيده وتربط مصيرها بمصيره؟
هذه الاسئلة الاشكالية تبين مدى اللبس والارتباك في مقولة «الشعب يريد اسقاط النظام» الاكثر شيوعاً وتداولاً في خطاب الانتفاضات العربية. وليس اقل منها لبساً وارتباكاً القول بعفوية الانتفاضات واندلاعها خلواً من اية خلفية نظرية، فالجماهير التي نزلت الى الميادين وان بدا تحركها مفاجئاً وعفوياً، انما تحركت بدوافع، معلنة او مضمرة، طائفية او طبقية وذات بعد تاريخي لا يزال يطرح هوية الامة ووفاقها مع الحداثة.
من هنا نرى ان تركيز خطاب الانتفاضات العربية على مقولة «المفاجأة» يجافي حقيقة التطور الاجتماعي والسياسي والتاريخي الذي مهّد للحراك الشعبي العربي ويشكل ارتكاساً الى رؤية ميتافيزيقية ترى الى الاحداث التاريخية، كما الحدث الديني، بوصفها اشراقاً مباشراً لا اسس له في الواقع ولا مقدمات تنبئ بقدومه. قد يحدث التطور تدريجاً وقد يحدث على شكل قفزات «تختصر في احشائها عشرين عاماً» وتشكل ما يمكن وصفه بـ«العشية الثورية» على ما رأى ماركس، لكن لا حراك تاريخياً ينطلق من فراغ في رأينا. ولو راجعنا الواقع السياسي في بلدان الانتفاضات العربية لرأينا انها كانت حبلى بكل ما يمهد لها، اضرابات واعتصامات وحركات احتجاجية متلاحقة، في موازاة تصاعد متزايد لنفوذ الاسلاميين في الحركات النقابية والاجتماعية والسياسية.
اما القول ان حركات الربيع العربي كانت بلا نظريات، فمقولة لا تصمد امام العقل النقدي كما امام الوقائع التاريخية للانتفاضات العربية ومآلاتها المأزومة. ثمة فكر وثقافة تاريخيان وقفا وراء هذه الحركات ينهلان، وإن باشكال مختلفة، من الاسلام رؤيتهما للكون والمجتمع والانسان كما للنظام والسلطة. فسرعان ما تحولت انتفاضات تونس ومصر وسوريا باتجاه منحى اسلامي تمثّل في التشريعات الدستورية الجديدة في مصر وانقلابها على التشريعات الليبرالية المعروفة منذ اوائل القرن الماضي، وفي بروز التوجه السلفي المتشدد في تونس، من تهديد للفتيات بسبب لباسهن الى الاعتداء على فنانين ومعارض ثقافية ودور سينما ومؤسسات تلفزيونية، واستخدام العنف لمنع بيع الخمر. كما تمثل في سوريا في الدعوة الى دولة اسلامية وتهديد الاقلية المسيحية والتشكيك في انتمائها الوطني.
على هذا نرى انه لا بد من نظرية ليبرالية تتقدم على اي حراك ديموقراطي وتلهمه كي لا يفرغ من معناه ويتحول اضفاءً للمشروعية على الاستبداد بحجة الديموقراطية. فالغرب مهد الديموقراطية الحديثة كان ليبرالياً قبل ان يصبح ديموقراطياً، وقد اتجه من الليبرالية الى الديموقراطية وليس العكس. لكن هذا لا ينفي ان ثمة تفاعلاً جدلياًُ بين الواقع والنظرية، وانهما غير ثابتين وفي حالة تشكل دائم، الا انه في كل الحالات لا معنى لديموقراطية لا تقوم على خلفية ليبرالية.
هذه الملاحظات على هامش بعض مقولات الانتفاضات العربية نطرحها في مواجهة الفوضى الايديولوجية والالتباس المفهومي اللذين يطغيان الآن على الساحة الفكرية كما على الساحة السياسية العربية، اذ اننا نرى ان مستقبل الحراك الديموقراطي في العالم العربي منوط برؤية فكرية حاسمة تتحرر من اسمال الماضي لتتجه بوعي وثقة حازمين الى المستقبل المرتجى.

كرم الحلو

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...