«الشريط الأخير» نص بيكيت من إخراج أسامة غنم في دمشق

تقوم مونودراما «الشريط الأخير»، نص صموئيل بيكيت، على ثنائية مألوفة في المونودراما كأسلوب مسرحي، هي ثنائية الماضي والحاضر، لكنها هذه المرة تتلاقى مع الثنائية نفسها التي تشكل أمراً أساسياً في مسرح العبث، حيث الزمن موضوعه الأثير. وهنا، في «الشريط الأخير»، يقوم العرض كله على استعادة الماضي، حيث رجل عجوز سبعينيّ يستمع وحيداً إلى شريط ذكريات قديم سجّله قبل ثلاثين عاماً بصوته، ويذكر فيه أيضاً أنه استمع للتو إلى شريط ذكريات آخر سجل قبل حوالى عشر سنوات، كما لو أن لا عمل للرجل سوى «كتابة» مذكراته صوتياً، لكن المفارقة تكمن في أنه كلما فتح المرء صفحة في دفتر المذكرات وجد عبارات كأن لسان حالها يقول «لا شيء يذكر»، إذ لطالما راح كراب، وهذا هو اسم العجوز، يردد أشياء من قبيل «انتهيت للتو من الاستماع لذلك الوغد، الغبي الذي كنت أخال أنني هو قبل ثلاثين عاماً، يصعب علي أن أصدق أنني كنت غبياً إلى هذا الحدّ».
إن المؤثر في هذا العرض، من إخراج أسامة غنم في تجربة هي الأولى له في الإخراج، هو هذه الصورة لرجل عجوز يستمع إلى الماضي، وهذه بذاتها مولّدة لصور أدبية وشعرية، كما لو كنا أمام صورة لشجرة في مهب الريح، فلا دراما واضحة، سوى دراما وحشة الكائن أمام الزمن، الكائن الذي يستعجل الموت «مع كل هذه العتمة حولي أشعر أنني أقل إحساساً بالوحدة»، و«اتضح لي أخيراً أن الظلام الذي بذلت قصارى جهدي طوال حياتي لإقصائه، هو في الواقع أفضل»، إلى أن يصل إلى القول «كل شيء على هذا الكوكب جيفة».
العرض إذاً ليس سوى هذا الهذر الأبدي للذكريات، حسب تعبير ميلان كونديرا، فكيف يحتمل المرء هذا الهذر لخمسين دقيقة، من دون معادل مسرحي معتنى به، بل إنه ينبغي القول أي فداحة حين يستشعر المرء الملل في خمسين دقيقة.
معلوم أن «الشريط الأخير» مكتوبة كدراما إذاعية، ولذلك نجد أن الصوت حاضر كفعل مسرحي في العرض. بدا العرض كله أقرب إلى شريط صوتي، والحق أنه يحسب له أن يدفع الجمهور إلى الإنصات إلى أدق الاصوات وأخفضها؛ صوت نزع قشرة الموز، طقطقة المفاتيح، انتزاع فلينة القارورة، انسكاب الماء، اصطدام الزجاجة بالكأس، وفي النهاية شريط الذكريات نفسه المسجل منذ زمن، ومن ثم تعليقات كراب على الشريط (أداه محمد آل رشي). الأجدر بالطبع أن تتحول الأشياء المسموعة إلى مرئية، وما من مسوغ أن تبقى أصواتاً. فالفرجة المسرحية هي الغائب الأبرز، حيث الاتكاء أساسا على عمل الممثل، وهو كان قد قدم أداء رائعاً في عرض سابق هو «المهاجران» من إخراج سامر عمران، وحينها كان المخرج أسامة غنم يعمل دراماتورج هناك، ولكن ذلك النجاح ليس ضمانة أكيدة لنجاح دائم، فالممثل هنا، وهو ينبغي أن يكون في عمر السبعين تقريباً، بدا شاباً للغاية، ولا اعتلال واضحاً في جسده يشير إلى سأم من الحياة، دعونا نتذكر العرض الذي قدمه هارولد بنتر ممثلاً في «الشريط الأخير» قبيل وفاته بوقت قصير، وبعد تسلمه جائزة نوبل، حين قدّم الشخصيةَ مُقعَداً على كرسيّ، حاملاً في جسده ذلك المرض اللئيم، حين بدا أن بينتر نفسه يستعجل الرحيل.
لكن حتى على مستوى الصوت، لم يكن الفارق واضحاً بين صوت شاب لم يبلغ الأربعين في الشريط، والرجل السبعيني الذي على الخشبة. لا الصوت ولا الملامح ولا حركة الجسد توحي بجسد سبعيني يائس. أما ما بقي من الفرجة، فهو قليل، فالخشبة مكان كتيم، إذ لا إيحاءات بأمكنة خارجها، أو حتى إيحاءات بانعدامها، هنالك فقط طاولة ذات تصميم قديم على الخشبة، وضعت فوقها أشرطة وجهاز تسجيل. وفي مرات قليلة كان يخرج الممثل بضع خطوات إلى الكواليس، إلى ما يوحي بأنه حمامه أو مطبخه.
يظل التساؤل حول أمر الملل في عرض مسرحي قصير إشارة ما تتعلق بمستوى العرض، ولا نحسب أن صموئيل بيكيت قد يكون مملاً في هذه عجالة عرض قصير.

راشد عيسى

المصدر: السفير