دمشق مازالت تحب الحياة
رغم كل الدمار وشبح الموت الذي يخيم على البلاد، لازالت دمشق تنبض بالحياة. صحيح انه نبض ضعيف في بعض الأوقات، ومثقل بالهموم في أوقات أخرى، لكنه يبدو كافيا، في ظل المخاطر التي يعيشها سكان الفيحاء، فهم مشاريع ضحايا لتفجيرات أو قذائف عشوائية، وهم أيضا مشاريع خطف وابتزاز، ومع ذلك فإن شيئاً ما يدفع الناس لمواصلة عملهم والطلاب لتقديم امتحاناتهم، ولو كان هذا على وقع القذائف والاشتباكات في محيط العاصمة، ما يحول مداخل الشام إلى ساحة اشتباكات.
إنه سباق الموت والحياة، في مدينة فشلت كل محاولات إركاعها وتحويلها إلى أرض محروقة، باختصار: هنا دمشق.
صراع الموت والحياة
لم تصل المعارك الى معظم أحياء العاصمة، ولكن أصوات القصف والاشتباكات وهستيريا السيارات المفخخة وقذائف الهاون كانت كفيلة بنقل أجواء الحرب إلى داخل المدينة، فيما تكفلت العمليات العسكرية بنقلها إلى أحياء أخرى، مثل مخيم اليرموك والحجر الأسود أو برزة وجوبر عند المدخل الشرقي للعاصمة.
واصبح الدخول إلى الشام محكوما بسلسلة من الحواجز، التي تتطلب تفتيش السيارات والأوراق الثبوتية، ويزداد التدقيق إذا كان القادم إلى دمشق هو من منطقة «متمردة» على السلطة. وهذه الحواجز تمتد إلى قلب العاصمة، وتقسمها إلى مربعات يسهل معها السيطرة الأمنية، وخاصة قرب المقار الحكومية والعسكرية، حيث باتت غالبية الطرق حولها مغلقة، من دون أن يمنع هذا وقوع تفجيرات دموية، خاصة في حي المزرعة والمزة وساحة المرجة.
لكن الحياة مازالت تسير بإيقاع اقرب إلى الطبيعي، فحتى هذه المناطق التي شهدت تفجيرات سرعان ما استعادت نبضها اليومي، فتفتح المؤسسات الحكومية والخاصة أبوابها يومياً، ومازال مقهى الروضة قرب مجلس الشعب يضج بأحاديث رواده، شأنه شأن حارات المدينة القديمة التي لم تسلم من التقطيع بالحواجز، فيما تستمر الحركة داخل الأسواق رغم الانهيار المستمر لليرة السورية والغلاء الذي أصاب معظم السلع الأساسية، ويتجه طلاب الشهادة الثانوية وكذلك الجامعيون يومياً لأداء الامتحانات النهائية، مع خوف من ضربة تشبه تلك التي تلقتها كلية هندسة العمارة في دمشق قبل أشهر.
لكن هذا الوضع لا ينسحب بالضرورة على أبناء أحياء أخرى تعيش على وقع المعارك، حيث اضطر بعض التلامذة لإلغاء امتحاناتهم والتزموا مع أهاليهم بيوتهم، فيما شد آخرون الرحال إلى منطقة أخرى أكثر أمنا، هذا إن تم السماح لهم بالخروج، فبعض المناطق لا تهدأ فيها عمليات القصف والقنص والضربات، غير آبهة بوجود المدنيين.
يؤكد الدمشقيون أن الحياة باتت صعبة جداً في المدينة، لكن هذا لا يعني أن الموت قد تسرب إلى عاصمة الأمويين، رغم كل ما يحدث من حولهم. هكذا يعتبر معاذ (24 سنة ـ طالب جامعي) أن الوضع في الشام سيء، ولا يريد التكيف معه كي لا يعتاد عليه، بقوله: أصبح الطريق من منزلي في حي دمر إلى البرامكة يستغرق في أفضل الأحوال ساعة ونصف الساعة، بعد أن كان لا يستغرق أكثر من ربع ساعة، وفي بعض الأحيان اضطر للبقاء في منطقة قريبة من الجامعة في حالات الامتحانات التي يصر على أدائها رغم «سيمفونية التخوين» التي يقرأها ويسمعها بشكل مستمر.
ويضيف «وجدت أن بقائي في البيت لن يفيد بأي شيء، وفي ظل الأزمة التي طال أمدها لابد من إنهاء المرحلة الجامعية والحصول على الشهادة. أعرف أني مشروع لرصاصة قناص أو قذيفة أو حتى اختطاف، لكني مصر على خوض هذا التحدي».
اما ندى (38 سنة ـ موظفة) فتعتبر أن الحياة في دمشق تبقى أفضل بكثير من مدن أخرى، بل من ريف العاصمة نفسه، لكن المشكلة تكمن في استمرار هذا الوضع المأساوي على حد تعبيرها. وتقول «نصحو وننام يومياً على أصوات القذائف والمعارك، وبات من المألوف ألا يحضر الزملاء في العمل في بعض الأيام، إن حصل إشكال امني في منطقتهم. أنا شخصياً حسمت قراري: لن أغادر دمشق وسأبقى فيها، ولكني قلقة من نشوء جيل جديد لن تمحى الحرب بسهولة من مخيلته، كما قلقة من التدهور الاقتصادي الحاد، وان كنت أنا وبعض الناس قادرين على تدبر أمورنا، فما الذي يفعله أصحاب الدخل المحدود؟».
ويقول عمران (42 سنة ـ صيدلي) إن فكرته عن الشام وأهلها قد تغيرت منذ وصوله إليها قبل سنة، فبينما كان يبدي استياء من الحياة الطبيعية، و«لا مبالاة» الناس حيال ما يجري حولهم، يشير إلى أن الواقع على الأرض مختلف كلياً عما يقال في الإعلام وعما يشيعه البعض. ويوضح «لا بد أن تبقى الحياة عادية كي تتمكن دمشق من احتضان ملايين النازحين على أرضها، ولا بد أن تستمر الحياة كي يعيش أهل الشام والوافدون إليها معاً، معلقاً بسخرية «الفايسبوك لا يطعم الخبز».
وإذ يصر الكثير على البقاء في دمشق، فإنهم يستبعدون، في الوقت ذاته، حدوث اختراق عسكري يفضي إلى دخول المسلحين إلى قلب العاصمة، ما لم تصل معجزة سماوية على حد تعبير يوسف (33 سنة )، الذي يشير إلى أنباء عديدة تحدثت عن وصول المسلحين إلى قلب ساحة العباسيين، وهو ما بدا اقرب للخيال، لتستمر الحياة عادية في المنطقة، رغم أن العام الماضي شهد وصول بعضهم إلى قلب حي الميدان وكفرسوسة والتضامن، لكن المنطقة شهدت، منذ ذلك الوقت، تحصينا امنياً شديدا، يجعل الدخول في غاية الصعوبة من دون أن يعني ذلك وفق قول علي (46 سنة) أن أمراً مستجدا قد يحصل، وقد تحصل عملية تفجير جديدة، خاصة وأن غالبية التفجيرات استهدفت مواقع تعتبر محمية بشكل كبير.
في كل الأحوال، مازال الدمشقيون يعيشون إيقاع حياتهم اليومي مصممين على كسر شوكة من يحاول خنق زهرة الياسمين، ومنع حمائم الجامع الأموي من الطيران كما كل يوم.
طارق العبد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد