ارنست همنغواي: أنتَ على خطأ

02-08-2010

ارنست همنغواي: أنتَ على خطأ

قد يكون صحيحاً أن قرار منع مصارعة الثيران، الذي أُقرّ أخيرا في كاتالونيا (يصير نافذاً بدءا من سنة 2012)، سياسي أكثر منه على صلة بقضية الدفاع عن حقوق الحيوان، على ما يشاع في الأروقة الاسبانية، لكنه في كل حال قرار يبعث على الابتهاج ويستحق أيما احتفاء. اذ اني لم افهم يوماً تشبث أبناء ثرفانتس بهذا التقليد الوطني المتوحش، القائم على طقوس التنكيل والعنف. لم أفهم يوماً تدافع عشرات الألوف من "البشر" إلى متابعة عرض على هذا القدر من الدموية، وموجات التهليل والتصفيق العارمة التي تتعالى من حلبات الموت كلما اخترق سهم "البيكادور" جسد الثور النبيل، وتراخت قواه لحظةً تلو لحظة بفعل النزف الناجم عن الطعن.
لستُ نباتية بالتأكيد، وليس فعل قتل الحيوان في ذاته ما يبعث فيَّ الاشمئزاز أمام تلك الممارسة السادية. بل هو التعذيب الممنهج، الظالم، المعيب، المهين. بل كون هذا التعذيب مصدر متعة وتلذذ لمشاهديه. إنه عطش الغريزة السفلى إلى الدماء. إنه عدم تكافؤ القوى بين كائن محاصَر من الجهات جميعها، وذاهب إلى حتفه لا محالة، وجمع من "المجرمين" المتأنقين الذين يرون انفسهم، ويراهم مشجعوهم، ابطالاً.
ويسمّونها رياضة! حسبي أن الرياضة شهامة وفروسية وعدل وتفوّق. فأين الشهامة والفروسية والعدل والتفوّق في الاستقواء بالرماح على حيوان عظيم، وأعزل سوى من رغبته الشرسة، وحقّه، في الحياة؟
كتب كثيرون عن جمالية هذا الطقس، وشاعريته وأسطوريته وتقنياته و"فلسفته"، ليس اقلّهم الروائي الأميركي ارنست همنغواي. بل غالباً ما يُستخدم الأخير حجّة دفاع كلما تجرأ أحدهم وانتقد هذه الممارسة المشينة. ولكن، من قال إن همنغواي الآمر الناهي في هذه المسألة؟ من قال إن تراجيديا الالم والاحتضار تستحق الاشادة والتمجيد؟ من قال إن تحوّل الناس جماعات تحكمها القسوة والدناءة واللاتعاطف مع الأضعف، أمر جدير بالاعجاب؟ 
عود على بدء: قد يكون قرار منع مصارعة الثيران في كاتالونيا سياسي فعلاً: تعبير عن توق أهل برشلونة (الواضح والمضمَر على السواء) إلى الانفصال عن إسبانيا، وانتقام حيال انسحاق هويتهم الخاصة أمام الهوية "الوطنية" الكبرى. فبرشلونة تريد أن تعتز بغاودي وميرو ودالي، وبلغتها وتقاليدها الخاصة، لا بعناصر "دخيلة" عليها، أتتها من العاصمة ومن جنوب البلاد. لا بل يشاع أنه عندما كانت إسبانيا تلعب مباراتها النهائية والحاسمة في كأس العالم، كان الكثير من الكاتالونيين يتمنّون أن تخسر، لأن غالبية أعضاء فريقها من لاعبي "فريق برشلونة"، لكنّ فضل الفوز سيعود لإسبانيا لا لمدينتهم. وهذا ما حصل فعلاً.
ولكن، ما لنا ولهذا الجدال الداخلي. لا تهمّنا الدوافع والأسباب. فنحن نريد أن نأكل العنب لا أن نقتل الناطور. وجميل أن نعرف أنه سوف تُترك الثيران بسلام عمّا قريب. عقبال "مستضعفينا".
كلمة اخيرة: ارنست همنغواي، "اسمحلنا فيا"، فأنتَ على خطأ.

 

جمانة حداد 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...