مفهوم الموت في مسرح العبث: بيكيت وجينيه أنموذجاً

16-03-2010

مفهوم الموت في مسرح العبث: بيكيت وجينيه أنموذجاً

عند بداية عصر الفلسفة والعلم الحديثين، وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور مفاهيم وقيم جديدة شملت أوجه الحياة المختلفة، بدأ المسرح يساير جميع هذه التغيرات التي أثرت كثيراً في أحداثه وطريقة طرحه للأفكار وبنائه العام وشخصياته وعناصره المختلفة، حيث ظهرت مجموعة تجارب مسرحية على صعيد الكتابة والإخراج سميت في مرحلة لاحقة «المسرح الطليعي» أو «مسرح العبث أو اللا معقول» ومن أهم رواد هذا التيار جان جينيه، آرثر آداموف، يوجين يونسكو، صموئيل بيكت، جورج شحادة  وغيرهم، حيث اجتمعت الأفكار والشخصيات التي قدمها هؤلاء الكتاب على إلغاء جميع التصورات المسبقة، وجعل شخصية الفرد هو البطل كائناً ما كان في هذا المجتمع، ويمكن أن يحمل بيده الحل لإسعاد البشرية أو إرضائها أو تدميرها. وقدمت الغالبية العظمى من نصوص المسرح العبث الإنسان بشكل لا منطقي، عبثت به الحياة ورمته إلى الدرك الأسفل منها دون أن يدري أو يوقن إلى أين سيؤول مصيره، وأصبحت حياة الإنسان تختصر بولادته وموته دون إرادته أو اختياره. يبقى الموت الذي لا يستطيع الإنسان السيطرة عليه أو تجنبه هو الهاجس الأكبر الذي سيطر على مجمل نصوص مسرح العبث، فمن النادر أن يمر القارئ على أحدها دون أن للموت فعلاً أو فكرة حضوراً فيها بشكل أو بآخر، وإن حاولت بعض شخصيات مسرح العبث الحصول عليه، فإنها لا تدركه باختيارها لأنه ليس خاضعاً لإرادتها بل هو بإرادة قوى أخرى تجهلها. لذلك يبدو البشر في مسرح العبث وكأنهم لا يعلمون لماذا يعشيون ولماذا يموتون، مما يجعلهم يتحولن إلى حالة الانتظار أو يقترفون الموت دون أن إدراكهم خلاصهم المنشود.
صموئيل بيكت: الانتظار لا الموت
في أحدى الليالي الباريسية من عام 1933، وبينما كان صاموئيل بيكيت «1906-1989» يسير وحيدصمويل بيكيتاً، اقترب منه شحاذ مستجدياً بطريق الصدفة، لكن بيكيت رفض طلبه، فطعنه الشحاذ بسكينه وكاد صاحب «نهاية اللعبة» أن تنتهي حياته بشكل عبثي تماماً. نجا بيكيت بأعجوبة ويقال أن صديقه الكاتب جميس جويس كان يعتني به في المستشفى، وأثناء التحقيق لم يوجه بيكيت أي اتهام للشحاذ الذي حاول قتله، إنما اكتفى بسؤاله عن سبب طعنه ومحاولة قتله، فأجاب الشحاذ بجملة واحدة: «لا أعرف يا سيدي». لم يكن الشحاذ الوحيد الذي لا يعرف، إنما البشرية كلها لم تكن تعرف في ذلك الوقت، حيث كان يعاني العالم كله من أزمة على جميع الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتي أسفرت لاحقاً عن الحرب العالمية الثانية. لكن بيكيت توقف طويلاً عند محاولة قتله هذه، وربما نجد لها حضوراً متفاوتاً في أغلب أعماله المسرحية والأدبية التي كتبها بعدها، فالملاحظ في مجمل مسرحياته أن الشخصيات التي يضعها تطلب الموت أو الخلاص من هذا العالم، لكن بالوقت نفسه لا نجد أي منها يدرك غايته في نهاية المطاف.
يرسم بيكيت شخصياته بشكل مختلف تماماً عن زملائه من كتاب مسرح العبث، حيث يعمل على ضخ أفكاره ومعتقداته فيها، كما أنه لا يطرح موضوعاً محبوكاً بطريقة كلاسيكية، لكنه يقدم دائماً أفكاراً مبعثرة يوزعها على شخوصه، لذا فإن الشخصيات عند بيكيت هي أفكار تتحرك على الخشبة، وهذا يمثل واقع القرن العشرين حيث تعيش المجتمعات خواء روحياً وتمزقاً وعبثية. ونتيجة لكل هذا نجد فكرة الموت حاضرة في مجمل مسرحياته «في انتظار غودو- الأيام السعيدة- نهاية اللعبة وغيرها».
في مسرحية «في انتظار غودو» يحاول كل من إستراغون وفلاديمير الانتحار شنقاً في المشهد قبل الأخير من المسرحية:
إستراغون: لماذا لا نشنق أنفسنا؟
فلاديمير: لماذا؟
إستراغون: أليس معك حبل؟
فلاديمير: كلا.
إستراغون: إذن لن نستطيع.
فلاديمير: هيا بنا نمضي.
إستراغون: أنتظر هناك حزامي.
فلاديمير: إنه قصير.
إستراغون: يمكنك أن تتعلق بساقي.
فلاديمير: ومن يتعلق بساقي أنا؟
إستراغون: صحيح!
هذا الحوار يتكرر بأشكال متعددة ضمن المسرحية، لكنه يبقى يتمحور ويدور حول الفكرة نفسها: الشنق، أو الانتحار وتتطور فكرة الموت تدريجياً إلى أن يحاول كل من أستراغون وفلاديمير شنق نفسيهما، لكن بلا مبرر أو هدف يذكر، إنه فعل بلا فعل، يحاولان جهدهما لتحقيقه لكن دون أن يدركاه، وهو ما يجعل المسرحية بلا أفعال حقيقية، ولا حركة ولا تغيير، إنها مسرحية ساكنة تشبه سكون الحياة وموتنا الهادئ الذي لا يتغير معه شيء إن تحقق أو لم يتحقق.
بالانتقال إلى مسرحية «نهاية اللعبة»التي كتبها بيكيت بفصل واحد بعكس بقية نصوصه، يبدأ كلوف كلامه بالقول: «قد يكون الموت بلا شك.... الموت الذي ينخر الإنسان منذ ولادته، وقد يكون نوعاً آخر من الفناء» والمتابع لحوارات المسرحية يجد الموت عند بيكيت والذي يتكرر دائما في نصوصه ومسرحياته يختلف كل الاختلاف عن الموت الطبيعي، إنه يشبه اجتياز مرحلة ما، أو نهاية فترة من الترقب والانتظار، أو قفزة إلى العالم الآخر يتحرر فيه الإنسان من جميع القيود المشوهة التي تسوم شخوص بيكيت من العذاب الذي يفرضونه على أنفسهم.
نعود إلى بداية الحوار في مسرحية «نهاية اللعبة»: «انتهى كل شيء، أو سوف ينتهي كل شيء، أو قد ينتهي كل شيء» ومع نهاية المسرحية، تكون جميع شخصيات المسرحية قد تلفت وتآكلت وتعفنت، لكن دون أن تدرك أي منها الموت! نرى الأب هام في وسط المنصة- أو بمعنى رمزي في وسط العالم- وهو رجل كسيح وكفيف، يجلس على مقعد متحرك، فريسة لاحتضاره البطيء جداً، يلطخ منديله الذي يغطي وجهه ببقعة من الدم، وفي مقدمة الخشبة وعلى يسارها يقبع والداه المقعدان ناغ ونيل داخل صندوقين للقمامة، ويقف كلوف لكونه عاجزاً عن الجلوس، وتنشأ علاقة من نوع خاص بين هذه الشخصيات، تنطوي على رغبة غامضة في تعذيب كل واحد منها للآخر والاستمتاع بالتعذيب الجماعي! فلو أراد الوالد هام أن يستغني عن ولده لقضي عليه بالموت، ولو هجر كلوف البيت وتمرد على صفارة أبيه، لمات هام جوعاً. وفي كل حين يزيح كل من نيل وناغ غطاء صندوقهما طلباً للطعام، ولتبادل بعض الذكريات، أنه الموت الذي أراده بيكيت المبني على الانتظار وليس على مفارقة الحياة.
جان جينيه: الموت لا الانتظار
بعكس وجهة نظر بيكيت عن مفهوم الموت وطريقة تقديمه ومحاكاته ومناقشته في نصوصه المسرحية،  نجد المسرحي الفرنسي جان جينيه «1910-1986» يعشق الموت والمجرمين والخونة واللصوص، بل لا نجد نصاً مسرحاً واحداً مما كتبه يخلو من جريمة قتل بطريقة شعائرية تشبه طقوس تقديم الأضحية على المذبح.
وكما بدأنا الحديث عن وجهة نظر بيكيت عن الموت في مسرحه بحادثة تعرضه للقتل على يد أحد شحاذي مدينة باريس، ندخل إلى عوالم جينيه الشخصية باعتباره عاش  القتلة والمجرمين واللصوص، ولا ينفي جينيه نفسه انتمائه لعالم المنبوذين والسجناء بعد أن هجرته أمه وهو ما يزال رضيعاً، ليقضي بعدها طفولته وشبابه في الإصلاحيات مما حوله إلى ناقم على المجتمع والبشرية جمعاء التي نبذته منذ أن كان صغيراً حيث يقول في سيرته الشخصية التي سماها «يوميات لص» :«أنا أؤكد على هجراني العالم بالسرقة، وأن أضم إليها الجريمة أو أن أتعاطف معها وأضيفها إلى اللصوصية، وبالتالي قررت أن أتنكر لهذا العالم الذي أعرض عني» لذلك نجد أن جميع شخصياته المسرحية والأدبية، من الأشقياء والخاضعين تحت وطأة حكم مسبق، كما هي الحال مع الخطيئة البشرية، وكأنه كتب عليهم جميعاً أن يعيشوا دون الإشارة إلى براءتهم أو إجرامهم الفعلي.
نتعرف عن طريق شخصيات جينيه إلى الخدم والزنوج والمتشردين، الذي يعتبرهم صاحبهم يؤلفون فئات اجتماعية منغلقة على نفسها، إنما اندست في قلب المجتمع،  ولكل منها  عاداتها وطباعها ونظمها ومراتبها وشعائرها، ويتوق كل فرد منها إلى أعلى مراتب النذالة والخسة، وإلى نشوة أعظم قدراً في اقتراف الإثم حتى ينفرد بضرب العدالة والقوانين البشرية، وعلى هذه النحو يريد جينيه من شخصياته الشقية والمتمردة أن تطلب الثأر والتشفي، لذلك تتحول الجريمة والموت إلى الهدف الأسمى الذي تحاول تحقيقه، الغاية البعيدة التي تخطف أبصارها، وإن لم يملكون دافعاً لها.
أول ظهور للموت في كتابات جينيه كان في قصيدته الشهيرة « المحكوم بالأعدام» الذي يصف فيها مشاعر أحد زملائه في السجن قبل اللحظات الأخيرة التي تسبق تنفيذ حكم الإعدام به، والتي كانت السبب المباشر وراء خروجه من السجن. أما المسرحية الأولى التي كتبها جينيه والتي سماها «رقابة مشددة» فتدور الأحداث في زنزانة تقع في أحد السجون التي يعرفها المؤلف حق المعرفة. هنا يصور جينيه الشخصيات بأسلوب أميل إلى الواقعية، كما نجد بين شخصياتها تراتبية دقيقة تنظم العلاقات كما هو الحال في السجون تماماً، وبشكل يشبه إلى حد ما تراتبية الدين المسيحي، لا سيما وأن جينيه نفسه لا يخفي ولعه بالمقدسات عموماً، وهذه الطقوس يعتبرها جينيه من أرفع وأسمى أشكال الدراما الحديثة.
يتربع على رأس الهرم بين عتاة المجرمين في السجن، مجرم زنجي يدعى «كرة الثلج» ينظر له الجميع ويقدسونه وكأنه الآلهة، وهو مثلها تماماً لا يظهر أبداً، بينما ينتظر تنفيذ حكم الإعدام به بسبب اقترافه جريمة قتل متعمدة، يأتي في المرتبة الأدنى منه مباشرة «أخضر العينين» الذي ينتظر الموت أيضاً لأنه أقدم على القتل لكن بدون قصد، أو كما يسمى بلغة القانون دون سابق تصور وتصميم إنما بدافع سورة من سورات الغضب الجامح، مما تسبب بفقدانه فعلته هذه جانباً كبيراً من رونقها وبهائها! وفي المرتبة الثالثة يأتي موريس الشاذ جنسياً وهو شاب صغير سن لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، أما ليفران فيأتي في الدرك الأسفل في هرم عالم السجون لكونه سارق صغير ليس أكثر. لكنه لا يخفي طموحه في صعود السلم والتقرب من  أخضر العينين سيده وحظوته.
هنا نتعرف على بيئة مختلفة تماماً عن جميع ما هو سائد، مبنية على قيم معاكسة للدين والأخلاق والأعراف والتقاليد العامة. وضمن هذه الأجواء كان لابد للسارق الصغير ليفران أن يقتل أحد ما ليترقى على سلم التراتبية ضمن هذه المنظومة المعكوسة، فيقدم على خنق الفتى موريس الذي يظل يستفزه ويتحداه حتى اللحظات الأخيرة من حياته قائلاً: «لست من سلالتنا، ولن تكون منا» حدثت جريمة القتل إذاً بدافع الغيرة والحسد وبهدف التقرب من أخضر العينين الذي يرمز على المثل الأعلى أو القدوة،  وليتخلص من العزلة التي فرضت عليه من أقرانه المجرمين، وتشبهاً بمولاه ونبيه كرة الثلج، لكنه لم يحظى بأية مكانة تذكر لأن أخضر العينين الذي وصل بجريمته إلى الصفوة المختارة حتى غدا «صافياً صفاء الغضب الإلهي» كما يصف نفسه، لم يجد في فعلة ليفران هذه شيئاً يستحق عليه أن يرتقي إلى مصاف نخبة وعتاة المجرمين أو إلى ما سماه «العرق المختار» ولن يمت إليه بصلة، ويقول له: «أعلم أني لم أطلب منك شيئاً ولا يد لي في كل ما حدث، لقد وهبت الإثم عطاء خالصاً من الله أو من الشيطان، ولم أسعى أليه» يدرك ليفران بعدها أن العزلة هي قدره، شأنه في ذلك شأن جينيه نفسه، الذي بقي منبوذاً من قبل الجانبين طيلة حياته من المجتمع المتمدن بكافة أطيافه ومن عالم السجون والمنبوذين، أما الموت عند جينيه فإنه لا يتعدى محاولة للخلاص أو التمرد من جميع القيود التي يفرضها القانون أو الديانات المختلفة، لكنه ليس حلاً نهائياً أو جذرياً لصراع الفرد المتمرد مع المجتمع الذي يقيده ويحدد مصيره منذ لحظة ولادته كما هو الحال مع جينيه نفسه.
حاول كل من جينيه وبيكيت محاكاة إنسان القرن العشرين، وتقديمه على أنه إنسان ضائع لا يعلم ماذا يريد أو ماذا ينتظره، وإن حاول السعي وراء هدف معين فإنه لن يدركه مهما فعل، أما سبب الكامن وراء ذلك هو وجود قوى متعددة تفرض سيطرتها على الإنسان وتتحكم بقدره ومصيره، تتعدى القدرة الإلهية، هذه القوى تسيطر على الشعوب المختلفة وتتحكم في جميع نواحي حياة الإنسان المادية والاقتصادية والسياسية، ليتحول الفرد عندها إلى مجرد أداة أو آله لتنفيذ ما يؤمر به أو ما يحدد ويملى عليه، هنا يتحول الصراع بين الإنسان والآلهة والقدر أو القوى الغيبية، إلى صراع بين الإنسان والتسلط أو بينه وبين الآلهة بحكم التسلط ليس أكثر، هنا توقف كل من بيكيت وجينيه مطولاً عند هذه التغييرات كما هو الحال عند كتاب مسرح العبث عموماً، فإن كانت هناك قوة خفية تتسلط على إنسان القرن العشرين منذ ولادته وحتى مماته، دون أن يعرف ماهيتها أو شكلها، ويدرك أنه سيموت عبثاً في النهاية فما الفائدة من حياته وعذاباته إذاً؟ حاول بيكيت وجينيه الإجابة عن الأسئلة التي يواجهها الإنسان ما بين لحظة ولادته إلى أن يدركه الموت سواء كان باختياره أو فرض عليه، بيكيت وجد أن الانتظار والترقب والتأمل يشابه الموت تماماً، بينما جينيه قدم الموت بشكل يشبه القداس المعكوس الذي يتحول بيه الإنسان إلى قربان بشري يقدم على مذبح العدم العبث، وفي كلا الحالتين يبقى الموت هو الهاجس الأكبر الذي يقلق معظم الكتاب والمفكرين والشعراء على مر العصور.

 

أنس زرزر

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...