كريستا فولف مُنحت جائزة توماس مان لصدقها واستقامتها

05-11-2010

كريستا فولف مُنحت جائزة توماس مان لصدقها واستقامتها

بينما ما زال يعدها البعض حتى اليوم «كاتبة السلطة» في جمهورية ألمانيا الديموقراطية، يرى فيها البعض الآخر، كصاحب «الطبل الصفيح» غونتر غراس، قمة من قمم الأدب الألماني ناضجة لنيل جائزة نوبل. في احتفالية أقيمت يوم الأحد الماضي (24 تشرين الأول/ أكتوبر) في مسرح مدينة لوبيك، مُنحت الكاتبة الألمانية كريستا فولف (81 عاماً)كريستا فولف جائزة توماس مان الأدبية. إن كشف قرار لجنة التحكيم المسؤولة عن منح الجائزة أن الأصل والسياسة لا يلعبان دوراً، وإنما اللغة الألمانية التي كانت تمثل للأديب الألماني توماس مان سبباً يحول دون انقسام ألمانيا، كما قال عمدة مدينة لوبيك بيرند زاكسه خلال تسليمه الجائزة. أما فولف فقد وصفت في كلمة الشكر التي وجهتها للجنة التحكيم، بأي عمق أثرت فيها أعمال توماس مان: «إن روايته الدكتور فاوستوس تعد في مقدمة الكتب التي ساعدتني على سبر أغوار جوهر، أو بالأحرى لا جوهر، الفاشية الألمانية».
وجاء في بيان لجنة التحكيم إن الرواية كريستا فولف المنحدرة من جمهورية ألمانيا الديموقراطية السابقة «وضعت بصورة نقدية صراعات عصرها وآمال جيلها وأخطاءه موضع التساؤل في أعمالها وقصصها وصورتها بجدية أخلاقية وقدرة قصصية خلاقة. وأن أهم ما يميز أعمالها صدقها واستقامتها التي جلبت لها شهرتها بين قرائها».
ولدت الروائية الألمانية كريستا فولف في 18 آذار/ مارس 1929 في مدينة لاندسبيرغ، المسماة اليوم غورزوف فيلكوبولسكي والواقعة ضمن الحدود البولندية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي اضطرتها وعائلتها عام 1945 إلى الهروب أمام القوات السوفياتية المتقدمة إلى مدينة غميلين الواقعة في ولاية ميكلنبورغ فوربرومن الألمانية الشرقية. وفي عام 1949 التحقت بحزب الوحدة الاشتراكي الألماني، الذي حكم ألمانيا الشرقية، وبقيت في عضويته حتى عام 1989. وما ان أنهت بعد أربعة أعوام من التحاقها بهذا الحزب دراستها في الأدب الألماني في جامعتي يينا ولايبزيغ بعمل عن الأديب الألماني هانس فالادا، حتى بدأت تنقلت في العمل كمحررة في دور النشر وفي مجلة «الأدب الألماني الحديث». أنظمت إلى اتحاد أدباء جمهورية ألمانيا الديموقراطية عام 1955، لكنها طُردت منه في 1977 بعد أن اشتركت في التوقيع على الرسالة المفتوحة ضد إسقاط الجنسية عن الكاتب الألماني فولف بيرمان.
بين الولاء للنظام والاحتجاج
في التظاهرة التي انطلقت في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 في برلين الشرقية احتجاجاً على سياسة النظام الشيوعي ألقت فولف كلماتها الشهيرة «لغة التحول». لكنها كغيرها من الأدباء الشرقيين لم تكن تؤمن بحل جمهورية ألمانيا وانهيارها، بل بقيت على إيمانها بإمكانية إصلاح الاشتراكية لجعلها أكثر إنسانية تحت قيادة أخرى. وهي ترى اضمحلال معالم الدولة الشرقية ووجودها اشتركت في أواخر أيام الجمهورية المتداعية في حملة «من أجل بلدنا»، داعية مواطنيها إلى عدم «بيع ألمانيا الشرقية وقيمها المادية والأخلاقية».
في بدايات تسعينيات القرن الماضي تم الكشف عن أن كريستا فولف تعاونت للفترة من 1959 حتى 1962 مع وزارة أمن الدولة «شتازي» السيئة الصيت، وخلال هذه الفترة كتبت ثلاثة تقارير عن بعض الأشخاص. لكن هذه التقارير لم تكن إلا لتقدم صورة إيجابية عن هؤلاء الأشخاص، الأمر الذي دفع إلى الشك في «تحفظ فولف المفرط». لم يؤدّ هذا الأمر إلى جعلها وعائلتها تحت مراقبة مخبري الـ«شتازي»، حتى الأيام الأخيرة لألمانيا الشرقية فقط، بل كان الكشف عن هذه المعلومات مدعاة إلى جعلها عند البعض «كاتبة السلطة». ومما زاد تلك الحملة ضراوة على الكاتبة في وسائل الإعلام هو تزامن الكشف عن تعاونها هذا تقريباً مع نشر قصتها «ما يبقى» Was bleibt، الذي غذى في نهاية الأمر حتى نقد أعمالها الأدبية. وتتناول قصة «ما يبقى» الفترة التي أعقبت توقيع كريستا فولف على رسالة الاحتجاج على إسقاط الجنسية عن فولف بيرمان وتحولت فيها مراقبة عملاء جهاز شتازي من مراقبة سرية إلى علنية. عن هذه القصة قالت الكاتبة الألمانية في أحد اللقاءات إنها بدأت بتدوينها عام 1979، لكنها رغبت عن كتابتها لسنوات طويلة ولم تعد إلى ذلك إلا بعد سقوط الجدار الذي قسم ألمانيا إلى دولتين مختلفتين في كل شيء ولا يجمع حاضرهما سوى اللغة المشتركة والتنافس في ركاب حرب باردة طويلة. صدرت رواية «ما يبقى» عام 1990، الأمر الذي أدى إلى هجمة إعلامية شرسة على مصداقية كريستا فولف سياسياً ومكانتها أدبياً.
تدور القصة حول أحداث يوم واحد من حياة كاتبة من برلين الشرقية، تٌستباح حياتها المهنية ومنزلها لمراقبة عملاء شتازي العلنية. وتعرض القصة تبعات تلك المراقبة المكشوفة الصامتة، والمشاعر التي تختلج في نفس الكاتبة وتساؤلاتها الذاتية وجميع المتغيرات اليومية في حياتها. وإزاء هذا كله تبدو بطلة القصة في حوار ذاتي لا ينتهي وفي اختبار ذاتي دائم، تتشظى فيها نفسها أحياناً، فتخاطب نفسها مرة بصيغة «الأنا» ومرة بصيغة «أنت» وثالثة بالحديث على شخص غريب ثالث، تصرف ينجم عن الضغط الخارجي الدائم الناجم عن تلك المراقبة. إحدى شخصيات صيغة الأنا تظهر موقفاً موالياً دائماً للبلد الشرقي، وصيغة أخرى تحاول جاهدة البحث عن لغة جديدة، يمكنها أن تعبر بصدق وحيوية عن تجارب الكاتبة ومحنتها. تستعرض كريستا فولف في قصتها الوقائع اليومية المعتادة لمواطني البلد الشيوعي، حين كانت منازلهم في غيابهم عرضة لاستباحة رجال الأمن، الذي يتركون بشكل مقصود آثاراً واضحة تدل على وجودهم. ولا يجري الحديث داخل المنازل بحرية، إلا حين تُفصل أسلاك الهواتف. وحتى المكالمات الهاتفية تستحيل إلى سخرية، لا يتبادل فيها سوى الكلام التافه المترع بالشفرات السرية.
حين انقسمت السماء فوق برلين
بدأت فولف مشاورها الأدبي بـ«قصة موسكوفية» Moskauer Novelle عن علاقة حب بين طبيبة من برلين الشرقية ومترجم روسي. لكن العمل الذي جلب لها الشهرة في المشهد الأدبي لجمهورية ألمانيا الديموقراطية كان روايتها «السماء المقسمة» (1963) Der geteilte Himmel، الذي يتناول إشكالية تقسيم ألمانيا من خلال قصة حب مأساوية. الرواية تقدم طوباوية الهوية الشخصية لمعارضة إشكالية التقسيم تلك. السماء كـ«قبة رمزية من الأمل والحنين، من الحب والحزن» تفقد لاانتهاءها بسبب جدار برلين. تدور أحداث الرواية عن ريتا زايدل ذات التسعة عشر ربيعاً وصديقها مانفريد هيرفورت قبيل عيد يوحنا المعمدان. ريتا ومانفريد شخصان مختلفان من حيث الجوهر، فهي منحدرة من الريف ومترعة بالحماسة، وهو عقلاني نشأ في المدينة. يلتقي الاثنان في مهرجان ريفي للرقص، فتربطهما علاقة حب، ويعيشان سوية في منزل والدي مانفريد في مدينة هالة. مانفريد يعمل كيميائياً في أحد المصانع، وريتا تدرس في معهد لإعداد المعلمين وتعمل إلى جانب ذلك في مصنع لعربات القطارات.
لكن مانفريد، الذي نشأ في كنف عائلة مشتتة الأوصال، يصاب بالإحباط ويفقد إيمانه في النظام الاقتصادي الاشتراكي، بعد أن يرفض أحد ابتكاراته القائمون على اقتصاديي ألمانيا الديموقراطية. لهذا السبب يقرر هجرة وطنه عن طريق برلين الشرقية. أما ريتا فتلحقه وتحاول إقناعه بالعودة، لكنه يصر على العودة. ريتا لا ترى في الغرب وطناً لها، فتدفعها الغربة إلى العودة إلى مدينة هالة. بعد ذلك بفترة وجيزة يُقام جدار برلين ويفصل بين الاثنين إلى الأبد، فتحاول ريتا الانتحار وتقع في غيبوبة طويلة، تصحو منها في أحد المستشفيات في ما بعد، وتروي قصتها مع مانفريد مستذكرة من زاوية المريضة التي صحت للتو.
وبصدور قصتها، التي حملت بين طياتها بعض التفاصيل عن حياة كريستا فولف الشخصية «تأملات حول كريستا ت.» (1969) Nachdenken über Christa T. توطدت مكانتها نهائياً في المشهد الأدبي الألماني الشرقي، لكنها فتحت في الوقت نفسه فتحت على الكاتبة أبواب الانتقادات اللاذعة من صفوف المسؤولين عن القطاع الثقافي في البلد الشيوعي. القصة التي تدور أحداثها في نهاية الحرب العالمية الثانية وبدايات تأسيس جمهورية ألمانيا الديموقراطية، تصف حياة ومعاناة موت بطلتها بسرطان الدم، الذي يبدو في الرواية كرد فعل جسماني - نفسي على وضعها. ولكن عموما تتناول القصة التوترات بين القهر الاجتماعي الناجم عن التقدم الجامح لجمهورية ألمانيا الديموقراطية الفتية وبين طموح الفرد في الانعتاق.
وبعد عامين من صدور قصتها «تحت ظلال الزيزفون» (1974) Unter den Linden، نشرت كريستا فولف أكثر أعمالها الأدبية شهرة «نموذج طفولة» (1976) Kindheitsmuster، تلك الرواية التي تحمل بين طياتها الكثير من السيرة الشخصية للكاتبة وتحاول من خلالها التغلب على الماضي وإشكالياته الدفينة من دون البوح بالموضوع الرئيس للمؤلفة، وهو انعكاسات وقائع الماضي ووصف مراحل رحلة شخوص الرواية. وفي رواية «نموذج طفولة» تصور الكاتبة الحياة في مدينة صغيرة متجانسة، تعيش في ظل القومية الاشتراكية «النازية»، وتمتد أحداثها حتى حرب فيتنام. وتصف الرواية طفولة خلال النظام النازي. أما أحداثها فلا تُروى بتسلسل تاريخي، بل من خلال استحضار أحداث الماضي ووقائعه براهنية.
مدينة الملائكة أو معطف الدكتور فرويد
على مدار عشرة أعوام عملت كريستا فولف على كتابها الأخير «مدينة الملائكة أو معطف الدكتور فرويد» Stadt der Engel oder The Overcoat of Dr. Freud، الذي صدر صيف هذا العام. وفي رسالة لها موجهة إلى زميلها غونتر غراس بتاريخ 21 آذار/ مارس 1993 كتبت الروائية الألمانية من سانتا مونيكا في كاليفورنيا الأميركية تقول: «قال فرويد ذات مرة إن المرء، إذا ما أُصيب بكآبة بسيطة، يمكنه الكتابة جيدا. إذاً تبدو كآبتي بسيطة فها أنا أكتب من أجل أن أقترب من ذلك الإنسان الذي كنت عليه قبل ثلاثين عاماً ومن أجل التخلص من هذا البرود وهذا الشعور بالغربة». كتبت كريستا فولف هذه الرسالة في أوج الحملة الإعلامية التي حاولت تصويرها من العاملين في جهاز شتاري.
ويصعب تصنيف الكتاب، الذي تشكل نواته ملاحظات دونتها فولف أثناء جمهورية ألمانيا الديموقراطية آنذاك، على أنه رواية، على الرغم من أن دار النشر أسمته رواية، ولا يجمعه مع جنس الرواية إلا إضفاء مسحة الخيالية الروائية على الانفعالات السيرية للكاتبة وتأملاتها السياسية. وتقول الكاتبة نفسها عن هذا الكتاب إنها لم تفكر في جنسه الفني وأرادت أن تجعل منه عموماً «نسيجاً مطعماً بجوانب من الواقع المعيش»، كما قالت في إحدى المقابلات الصحافية.
تلقيها عربياً
بدأ التلقي بترجمة قصة الكاتبة الألمانية «الشرقية» كريستا فولف «ما يبقى» من قبل بسام حجار، وصدرت هذه الترجمة عن دار الفارابي في بيروت. وترجمت لها المترجمة المصرية هبة شريف رواية «نموذج طفولة» وصدرت عن دار شرقيات عام 2001. وأبدت المترجمة العراقية المقيمة في ألمانيا سالمة صالح اهتماماً كبيراً بهذه الكاتبة، انعكس بترجمة قصة «كاساندرا»، التي صدرت عن دار الجمل عام 1996، ورواية «ميديا. أصوات» التي صدرت هي الأخرى عن دار الجمل عام 1996.

عماد مبارك غانم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...