في بيت حنا مينة

28-11-2006

في بيت حنا مينة

ستلفحك شمس دافئة حتى لو دخلت منزله في منتصف الليل، والكبير صاحب القلب الكبير، والذي يضيق بأي بيت، مهما كان كبيراً ، سيشرع لك نوافذ بيته، حتى لو كان الوقت منتصف الليل في شتاء كانوني.. ومع ذلك لن يتسلل إليك برد أي برد، وأي برد يمكن أن يظل وأنت مغمور بدفء حضوره، ودفء أقواله ، ودفء ذكرياته، ولوجاء بعضها متخماً بالمرارة .. مثقلاً بالألم.
أنت في حضرة الكبير حنّا مينة ، فارفع رأسك وأعدل قامتك فالرجل يحب لجليسه أن يكون مثله، وحنّا مينة لم تحن  قامته أعوامه التي نافت على الثمانين بعامين ونصف العام، يقولها مبتهجاً مدلّاً بذلك على أن كل عمرٍ يأتي بجمالياته معه، وهو لذلك لا يرثي ماضيه ولا يندب حاضره، هو فقط مثقل، أكثر من أي وقت مضى بكثرة «الشغل» المطلوب منه، وأكثر طالبيه إلحاحاً هو ذاته النهمة لكل عطاء ، ويده التي لا تود أن تفارق القلم:
« ليس لدي طقس خاص للكتابة، أنا مكافح، وأعمل لنحو ثماني عشرة ساعة يومياً، هكذا أمضيت معظم حياتي، وإن  كنت الآن بتُّ لا أستطيع العمل ليلاً.. ولكنني مع ذلك لا أنام من الليل إلا أقلَّه..»
«رواياتي بلغت اثنتين وأربعين رواية، والرواية الثالثة والأربعون : «النار بين أصابع إمرأة» صارت جاهزة  للنشر وستكون بين أيدي القراء مطلع العام القادم».
«إنا نلت التكريم الذي أستحقه من القراء أولاً، وأنا منكم وبينكم، ولن أتخلى عن الطبقة التي منحتها حياتي فمنحتني أجمل ما فيها وأصدق ما فيها وأنبل ما فيها..».
«.. مهما بلغت رواياتي تظل الشراع والعاصفة أحبّها إلي ، ولكن الناس أحبوا رواية الياطر وقد جاءتني عروض خيالية، من قرّاء، لكتابة جزء ثانٍ لهذه الرواية..»
هكذا يدخلك حنا مينة في أتون غليانه الذي لا يفتر، وعشقه الذي كلما ازداد عتقاً ازداد توهجاً وازداد امتلاء:
والامتلاء يحنّ إلى الفيض والعطاء، كما يحن العطشان إلى الارتواء..
ويحلو لحنا مينة أن يداعب وعيك ويقظتك ، أن يختبر قدرتك على التركيز فينتقل بك بحديثه من موضوع لآخر حتى لتحسب أنه نسي شيئاً فعافه إلى غيره، ولكنه فجأة يعيدك إلى ما كان من حديث ويفاجئك بمعلومات غاية في الدقة تؤكد مجدداً حضوره الذهني المتوقد:
«..أعرف أنني أول من بشَّر بأن الرواية ستكون ديوان العرب ، وقد صارت بالفعل، ولا يهمني ما يزعمه البعض بأن القول مسبوق بقول مماثل لآخر سواي سبقني ببضعة عقود من السنين»، وتكتشف أنت السامع المحايد أن ذاك الزعم، زعم أن هناك من سبق الأستاذ حنا إلى هذه النبوءة - الحقيقة، هو محض افتراء لأنه ببساطة منسوب إلى من لم يرَ من الرواية إلا إرهاصاتها الأولى التي لم تكن تلهم بأي توقع أو استنتاج..
مع ذلك ليس هذا كل ما يتنازل عنه «حنا» طائعاً.. بل هو يقر طائعاً بأن نجيب محفوظ أستاذه، فقط، لأنه سبقه إلى كتابة الرواية ، في حين يترك لوعيك وذائقتك أنت أن تقرر ما يستحقه بحق صاحب الروايات التي نافت على الأربعين ولايزال صاحبها يقول:
«مازلت أتعلم..» ويقول: « أعجب كيف يكتب من لم يبدأ الحياة بعد، وعن أي شيء يمكن أن يكتب...» ، وإذاً فالكتابة الحقيقية لا تسبق الحياة الحقيقية وإنما ترتكز إليها وتستقي منها.. ولذلك فإن هذا العلم الكبير : إنساناً وروائياً، لايزال يذكر باعتزاز عيشته على الميناء وعمله في البحر وصالون الحلاقة الذي كان له ذات يوم وترحاله لأكثر من بلد واشتغاله  في أكثر من عمل..
وختاماً فإن حنَّا مينة، الذي تعرفونه مازال عصيّاً على الانحناء ، صلباً كما تعرفونه وأكثر، وأشهد على ما أقول رفيقاي في زيارة حنَّا مينة التي أتيحت لي مع الدكتور عبدالله أبو هيف، الناقد الأول في سورية بشهادة حنا مينة، والدكتور عادل فريجات.. وذلك في أمسية هربت من «عادية» الأيام ،لتبقى ، وستبقى، نابضة على مرِّ الأيام.

جمال عبود

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...