فتنة الحكي المخادع في «عاهرة ونصف مجنون»

27-01-2010

فتنة الحكي المخادع في «عاهرة ونصف مجنون»

"عاهرة ونصف مجنون"، آخر روايات الأديب السوري حنّا مينه، صدرت عن دار الآداب اللبنانيّة، وهي رواية مراوغة، فاتنة بطريقة كتابتها غير المسبوقة.. حيث لجأ حنّا مينه إلى المزاوجة بين المتخيّل والواقعيّ/السيرذاتيّ.

تبدأ الرواية على لسان لورانس شعلول، التي تكره والدها، لأنه كان يحرص على ممارسة "الواجب الزوجيّ"، وهي تنام على السرير الوحيد في الغرفة مع أمّها، وإخوتها ينامون على الأرض، ولسوء حظ الأبناء يسمعون ما يدور بين الأبوين من وشوشات وشتائم بذيئة، فالأب -دائما- مستعجل متوتر، والأم متمنّعة تدعوه إلى أن يشفق بالبنت الكبرى التي تنام لصق خاصرتها، ولا ينتبهان إلى أنها تسمع كلاما لا تفهمه.. كلام ليل، وتكتشف علاقة أخرى بين الأبوين، وتتعذب وهي تحبس أنفاسها.. تحب أمها وتكره أباها، و"تريده أن يموت، وأن يكف عن النوم مع أمها"، وهكذا ستكتشف عالم الشهوة -والفجور أيضا- مبكّرا.
إنها ترسم عالم الفقراء، ومأساة ملايين الأزواج في العالم العربيّ الذين يتكوّمون في غرفة واحدة مع أبنائهم، وقد نسج حول هذه المأساة المخيال الشعبيّ الكثير من النكات، وحتى في اللحظات الحميميّة المختلسة بين الزوجين، يفرض الواقع سطوته، وسرعان ما تنهار لغة الأماني الورديّة، ويتراجع الأب في انكسار، كاحتجاج صامت على الفقر الذي يهين رجولته كإنسان.

ونتعرف -عن قرب- على "عاهرته المثقّفة"، خرّيجة كليّة الآداب، التي "لا تخرّج أدباء وإلاّ امتلأت دنيانا بأكلة الهواء"، ولكي لا تنضمّ إلى جيش العاطلين عن العمل تختار ممارسة أقدم مهنة في التاريخ.. تتاجر بجسدها، ولأن حنّا مينه حكّاء من طراز رفيع، يلجأ إلى السخرية السّوداء على لسانها، مقارنة بين الأدب وقلة الأدب، مستحضرة حادث الراقصة فيفي عبده حين لمحت الأستاذ نجيب محفوظ على الكورنيش، فأوقفت سيارتها الفارهة قبالته قائلة: "لا فض فوك، انظر يا أستاذ نجيب ماذا صنع بك الأدب وما صنع بي سوء الأدب"!!

مع توالي السّرد يدرك القارئ أنه أمام مشروع رواية تكتبها لورانس، وكأن حنّا مينه- وبطريقة مراوغة- يشير إلى أن معظم الكاتبات العربيّات الشابّات يستعجلن الشهرة، وكتاباتهنّ أقرب إلى أسلوب المذكّرات/الاعترافات، كما أنّ لورانس تتصيّد رسائل الرجال إليها وتنشرها إثارة للفضائح ونكاية بالفضيلة.. لا سيما وأن الرجال العرب مولعون بكتابة الرسائل إلى الكاتبات الشّهيرات، دون أن يفطنوا إلى أن هذه الرسائل ستنشر، وأعتقدُ أن علاقة كاتِبنا بالانترنت - كأغلبية كبار الكتاب العرب- ليست على ما يرام، وإلاّ كان سيعرف بأن كل من هبّ ودبّ من الرجال يلاحقون كل أنثى تكتب، "حتى لو كانت رجلا يتخفى خلف اسم امرأة... !!"، وهذا يتّضح من خلال إشارة كاتبنا إلى الإميل الذي يختم به الكُـتّاب مقالاتهم، مكتفيّا بوصفه بـ"تلك الحروف اللاتينيّة"، ولولا جهل كتّابنا الكبار بالانترنت، لقرأنا عن عوالم مسكوت عنها.. لاسيما ونحن العرب دائما ما نسيء استخدام ما يستجدّ في عالم التكنولوجيا، ونجعله مسخّرا لأغراض دنيئة...

مثلا، كاميرات الهواتف المحمولة أو المسنجر فهي - خلسة- تلتقط مقاطع ملتهبة أو صور عاريّة- وأحيانا برضى الطرف الآخر- ونشرها في مواقع إلكترونيّة عالميّة مخصّصة للفضائح الجنسية، تجد فيه كل العربياّت.. من الماء إلى الماء... !!! والويل لمن يحاول فضح مثل هذه الأمراض، وأذكر أنّي كتبت- في بداية/ دهشة تعرّفي إلى مواقع التّعارف- قصة عمّا يحدث في تلك المواقع، اخترت لها كعنوان "شهوات ضوئية"، لكن للأسف، بدل أن يتقززوا من أحوالنا وأمراضنا العربيّة شتموني، وهناك من قال- جازاه لله خيرا- بأنّني في حاجة إلى طبيب نفساني، وثالثة الأثافي أن القصة حذفت من أحد المتصفّحات بناء على طلب القرّاء، رغم أنه موقع أصفر... تقريبا، يهتم بالفضائح الأخلاقيّة، والصّور المثيرة لفنانات "العري كليب" لرفع عدد زوّاره...

ربما أكون قد خرجت عن الموضوع، لكن رغم حضور الجسد في كتابات حنّا مينه، فله موقف صارم من الإبداع الشبابيّ، حيث كتب في رثائه للطيب صالح في "السّفير" اللبنانيّة: "لست راضيا عن الأدب الإباحيّ المتبع هذه الأيام والأدب الذي يتعلق بالجسد فقد طال الكلام على الجسد وذاكرة الجسد".

المهم أن لورانس صارت شاذة جنسيّا "سحاقية"، والسبب كراهيّتها لأبيها أوّلا، ثم تعرّفها على السّيدة بُدُور التي ربّتها حين لمحتها وهي طفلة شبه عاريّة حافيّة، وكأن حنّا مينه يتذكر "أيام الفقر الأسود"، وتستغل لورانس شذوذ معلمتها/مربيّتها من أجل المال، والحصول على أفخر الثياب وأغلى المجوهرات.

ومع بداية الفصل الرابع سيكتشف القارئ أنّ حنّا مينه لجأ إلى مناورة سرديّة، فزميل لورانس "فايز غضنفر" الذي طلبت منه إبداء رأيه في ما كتبت ليس سوى الكاتب، والذي يصف نفسه بأنّه "أيوب القرن الواحد والعشرين"، و يعترف بأنه نصف عاقل، نصف مجنون... يكتب عن طفولته حين كان حلاّقا، يتذّكر طفولته الشقيّة وأيام الجوع، دون أن ينسى أنّه أوّل من تنبّأ بأن الرّواية ستصير ديوان العرب، ويضع عناوين بعض رواياته، وبعض أصدقائه الّذين تتغيّر أسماؤهم مع كل رواية.. يكتب عن حبّه للبحر وتشرّده في الموانئ، الذي جعله رائد أدب البحر، ويستحضر أوّل قصّة كتبها، ونُشِرت في مجلة "الطّريق" اللّبنانيّة، وكانت بعنوان "طفلة للبيع"، دون أن ينسى نضاله السّياسيّ ومعاناته النفسيّة... ولعل هذه الاستعراضات هي بعض من "خبث اللاشعور" كما سمّاه، لأن "كاتب الرّواية حكّاء، يرش على حكاياته" بودرة الفن" إخفاء لعيوبها ومخادعة القراء".

قد يتساءل البعض ما العلاقة بين قصّتين متنافرتين، قصة عاهرة مثقفة أو كاتبة من كاتبات الجسد، وفصول أتوبيوغرافية.. والسبب أنه -دائما- ما يُطلب منه - من الشباب لاسيما النّساء- أن يكتب لهن مقدمة أو كلمة للغلاف، ويُورد رسالة كاتبة وَصَفها بالسّيدة النزقة "س"-وهي كاتبة تنشر في الجرائد والمجلات-، حين اعتذر لها عن عدم لقائها مرّة أخرى، لضيق وقته فكتبت إليه تذكّره -وبخبث نسائيّ ناعم مغلّف بالدّموع - حين كان طفلا جائعا عاريا حافيا....

ويعلّق على هذه الرّواية المتخيّلة للورانس، معتبرا أن موضوعها شبه مسكوت عنه عربيّا وعالميّا، رغم أن ملايين الأسر تعاني منه، وإن لم يُوفّق كاتبنا الكبير أسلوبيّا.. فالفصول الثلاثة الأولى "التي يفترض أنّ لورانس كاتبتها" لا تختلف عن الفصول التي كتبها فايز غضنفر /حنّا مينه من حيث اللّغة والأسلوب، كما يحضر في كل فصول الرّواية التضمين والاقتباس "من الشعر العربي القديم"، ولعلّ المقاطع المغايرة هي التي يستشهد فيها بفقرات مبتسرة من رسالة السّيدة "س"، ويُحبّذ لو أنّه كتب المقاطع الخاصة بلورانس بأسلوب مغاير، كأن يجنح إلى شعرنة اللغة مثلا.

لكنه نجح في أن يكون أوّل كاتب مخادع، يُقحم سيرته الذاتيّة ضمن عمل متخيّل مبتور، تاركا للنقّاد والقرّاء النظر في لورانس ونصف المجنون، ويعدنا بأن يكمّلها في رواية أخرى إن بقيت في العمر فسحة، لكن أهمّ درس نتعلّمه منه أنه لا يكتب إلاّ عمّا يعرفه :"لا أكتب إلا ما عشته، ورأيته، وعانيته "... "،لأن الحياة جديرة بأن تعاش لذاتها، لا للكتابة عنها".

هشام بن الشاوي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...