غسان الرفاعي: يوم القيامة والطغاة!

21-12-2009

غسان الرفاعي: يوم القيامة والطغاة!

ـ 1 ـ يتحدثون، بشماتة وحماقة عن موعد (يوم القيامة) الوشيك، عن الزلازل، والفيضانات، والعواصف، عن مدن ستزول، وملايين من البشر ستقبر أحياء، في مراجل كونية، ولكنهم مازالوا متغطرسين، متمسكين باحتباسهم الحراري، وبإفرازاتهم من الغاز السام، ويتظاهر الآلاف في شوارع كوبنهاغن، وينتحب زعماء الفقر والقحط والجوع، ولكن رجال الأمن مرفوعة فوق الرؤوس، وقوات (الحرب العادلة) جاهزة للتدخل، وقلب الموازين.

صحيفة (كوريه انترناسيونال) تخصص عدداً ممتازاً بسعر مضاعف، تصفه (بالعدد الرهيب)، يتحدث عن يوم القيامة، وعن قرب نهاية العالم، وعلى الغلاف صور ملونة للحرائق، والمجازر، والصواريخ، والألغام، والحروب الأهلية، وخلف هذه الأهوال مقهى يجتمع فيه زعماء التخمة والبطر، يشربون القهوة بهدوء. ‏

ـ 2 ـ ‏

يبدو أن تلاحق الأحداث المذهل قد شطر العالم إلى كتلتين: ناس (الفوق) وناس (التحت)، وحدث اختراق شاقولي غير مألوف للانتماءات، والاثنيات، والطبقات، بتجاوز الثنائيات التقليدية: ثنائية المحافظين والثوريين، ثنائية المعتدلين والمتطرفين، ثنائية الأصوليين والحداثيين، وسقط الفرز الاجتماعي والجغرافي والسياسي والبيولوجي، وأعطيت الصدارة للتمايز الحضاري، واكتشف الناس ـ الغفل، وهم يتراصون في المسيرات، والتظاهرات، ويصخبون، ويهتفون، أن هناك أشراراً يتمترسون (فوق)، يشعلون الحرائق، ويرتكبون المجازر، ولا هاجس لهم إلاّ تكريس الغطرسة، وجمع الثروة، يقابلهم أخيار جمعتهم المصادفات (تحت) يؤمنون أن الإنسان قيمة لا سلعة، وأن السلام العادل لا العدوان الأخرق هو الهدف المنشود. ‏

ـ 3 ـ ‏

برز مفهوم (المواطنة) في نداءات وشعارات الثورة الفرنسية، إذ كان الشائع قبل الثورة فرز المجتمعات إلى هويات مختلفة متباينة: طبقة الأشراف في مقابل طبقة الدهماء، الأغنياء في مقابل الفقراء، الملاك في مقابل الأجراء. ‏

ولكن الثورة الفرنسية طرحت (المواطنة) التي تشمل كل الفئات والطبقات والإثنيات، ومازالت هذه (المواطنة) تمنح نظرياً إلى كل الذين يعيشون في وطن واحد، ولم تعد امتيازاً أو استثناء يزين صدر بعض ذوي النفوذ، وما عاد من المسموح به بعد الآن اسقاط هذه المواطنة عن البعض بسبب انتمائه الديني أو الفكري، أو بسبب مواقفه السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، وقد يكون من المفيد التذكير بما قاله أحد القضاة الثوريين بعد أن صدر حكم بالإعدام على (ماري انطوانيت) النمساوية، إذ أعلن بكبرياء: (امنح (ماري انطوانيت) صفة المواطنة الفرنسية قبل تنفيذ حكم الإعدام فيها، هذا حق من حقوقها المشروعة). ‏

ولكن طرح موضوع (الهوية الوطنية)، من قبل وزير صديق للرئيس (ساركوزي) تحت شعار: (إما أن تحبوا فرنسا كما هي، وإما أن ترحلوا، هذه هي مواصفات المواطنة الجديدة)، هو تشويه ومسخ لفكرة (المواطنة)، وكما قال (جاك كوبار) في افتتاحية صحيفة (الأومانيتيه): (شعار اليمين الفرنسي هو شعار فاسق ينطبق فقط على الذين يحتكرون الـ(فوق)، أما نحن، مواطني (التحت) فإننا نهتف: (إنسان واحد)، لا فرق بين الأشقر والأسمر، الأصفر والأسود)!. ‏

ـ 4 ـ ‏

عاد الكتاب الذي أجهضته الكاتبة الإيطالية التي ارتحلت منذ فترة (أوريانا فالاشي)، وسمته (الغضب والكبرياء) إلى واجهات المكتبات في أوروبا، بعد حملة إعلانية واسعة، لقد شاءت هذه (الحيزبون الفاجرة) ان تنهي حياتها بكتاب داعر اكتظ بكل مخزونها من الفسق الفكري والابتذال السياسي، لم تخجل أن تكتب في مقدمة الكتاب: (أشعر اليوم أنني أملك خصيتين ثقيلتين تفوقان خصي كل رجال ايطاليا وأوروبا، وهذا ما يحفزني إلى أن أطالب بطرد هذه الحثالة من العرب والمسلمين من بلادي، إنهم يلوثون أرضي وسمائي ومائي، ويعهرون حضارتي..). ‏

وأول ما أرادت أن تنبه إليه (فالاشي) هو أن الغرب يتعرض لحرب صليبية مضادة يقودها ذوو اللحى، ومرتديات الحجاب. كتبت بعصبية: (لقد أعلنوا الجهاد علينا، وهم يستهدفون أرضنا وعقولنا، إنهم يريدون قتلنا لأننا نشرب الخمر، ولأننا لا نرتدي الشادور، ولا نرتدي الحجاب، ولأنه ليست لنا لحى، ولأننا نتردد على السينما والمسرح، ولأننا نرقص، ولأننا نغني، ولأننا نرتدي الميكروجوب، ولأننا نستحم شبه عراة على الشواطئ)، وتصعد لهجتها الغاضبة: (إنهم يستفيدون من ضعفنا، من جهلنا، من تقدمنا، من هواتفنا النقالة، من جبننا، من نفاقنا، نعم إن الحوار معهم مستحيل، التفاوض معهم ممنوع، والتسامح معهم انتحار..). ‏

وثاني ما أرادت أن تقوله هذه الحيزبون أن حوار الحضارات الذي يدعو إليه العقلاء من كل الأطراف هو وهم كاذب. تكتب في وقاحة: (إن مجرد القول إن هناك حضارة أخرى غير حضارتنا يزعجني: لدينا كبار الفلاسفة، (سقراط)، (أفلاطون)، (أرسطو)، كبار الفنانين (مايكل انجلو)، (رافائل)، (ليوناردو دو فينشي)، كبار الموسيقيين (باخ)، (بتهوفن)، كبار العلماء (داروين)، (باستور)، (انشتاين)، لدينا الكهرباء والراديو، والتلفزيون، التلفون، الطائرات، القطارات، السيارات، وهذه كلها لم يأت بها دراويش الإسلام، ولا آيات الله) وتتساءل بعد هذا كله: (ما هي حضارتكم البديلة؟ حضارة اللحى، والحجاب، وتعدد الزوجات، والرجم، وقطع اليد، والمآذن، والصلاة خمس مرات في اليوم الواحد؟). ‏

وثالث ما أرادت أن تنبه إليه تفاقم الهجرة العربية والإسلامية إلى الغرب، وما تسببه من اتساخ وتشويه للجمال والنظافة، تكتب في ابتذال: (إنهم يحتلون الأرصفة، المتاحف، المكاتب، القصور القديمة، باحات الكنائس، المقاهي، علب الليل، وإذا اعترضنا على ثرثرتهم صرخوا: أيها العنصريون، يا أبناء الزنى) وتتوجه إلى قداسة البابا الذي تتهمه بالدفاع عن المهاجرين العرب: (ولماذا يا قداسة البابا لا تأخذهم إلى الفاتيكان إنهم لصوص) تجار مخدرات، ارهابيون، عاهرات، ولكن اشترط عليهم ألا يتغوطوا على تماثيل (مايكل انجلو)، ولوحات (رافائل)، ياالله، كم يتوالدون كالجرذان...!). ‏

ـ 5 ـ ‏

لم يعد التشاؤم حالة شعورية مؤقتة، تزول بزوال أسبابها، وإنما هو موقف سياسي، ايديولوجي، نواجه به إشكالات وجودنا التي لا تعالج في عيادات الطب النفسي، وإنما في الشوارع والساحات العامة. هذا على الأقل، ما قاله أحد المتظاهرين في كوبنهاغن حينما قبض عليه أحد رجال الأمن وقال له: أنت تشكو من خلل داخلي، لا بد من إنقاذ المجتمع من أمثالك، وضحك الشاب المتظاهر وقال له: من لا يكن حاقداً ويلوح بقبضة يده، هذه الأيام، يفقد إنسانيته، هؤلاء الذين يجتمعون في قاعة الاجتماعات الكبرى، ويخططون ليوم القيامة الوشيك هم المرضى الذين يحتاجون إلى عيادات الطب النفسي!. ‏

ـ 6 ـ ‏

حينما يوجد الإنسان العربي في التاريخ، ليس استمراراً للماضي، ولا مجازفة في المستقبل، وانما اندغام في (الآن) والـ (هنا)، يقف وجهاً لوجه أمام ايجابيات المرحلة وسلبياتها: ايجابيات التحرك العربي الذي بدأ يورق ويتفتح على الرغم من المزالق، وسلبيات النكسات التي لا تزال تثقل وتتورم، إنه ليس مطالباً بأن يفتح اعتماداً باهظاً بالإيجابيات على حساب إفلاس السلبيات، فالواقع لا ينشطر ولا يتشقق، والطليعي هو من يقبل تناقضاته، بلا تذمر، ولا خيبة أمل، قد يشعر الإنسان العربي بالمباغتة والفزع، وقد يميل إلى الإدانة الفاجرة أو المتحفظة، وقد يتصاعد ميكافيليا، أو يفضل موقف المشاهد النبيل حيال نقاط الإحراج، وقد يختفي وراء مثالية عزوفه، ولكنه يتفاءل بسخاء، ولا يتشاءم بهلع: إنه يناضل بذكاء، وتواضع حتى من دون مباركة اجتماعية. ‏

ـ 7 ـ ‏

حين نعجز عن احتواء الحدث الطليعي، في حرارته وتوهجه، نجترح مجاناً تبريرات خيالية ترقى إلى مستوى النظريات الكاملة. إن الواقع التاريخي المتحرك يبقى دوماً ينبوع كل بناء فوقي، فكراً كان أو فناً، ولكن الذين يتخوفون من حركة التاريخ يميلون، وليس من دون سوء نيّة، إلى تعويم مفهوم الطليعة فوق التاريخ، إما باصطناع تعارض جذري بين الفكر والتاريخ، وإما في الإسراف بربط الفكر بالتاريخ، وكلا الاتجاهين لا بد من أن يوصلنا، في نهاية المطاف، إلى إلغاء فكرة الطليعة. قد نتحدث عن فضائل سرمدية يتصف بها هذا الموقف أو ذاك، ولكننا قد نضطر إلى سحبها من التداول نهائياً، بحيث تصبح جثة عطرة تتدحرج من عصر إلى آخر، دون أن تفقد معاصرتها، وحينئذ قد تنتقل كالإرث من جيل إلى جيل. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...