غسان الرفاعي: هواجس مغترب

13-12-2010

غسان الرفاعي: هواجس مغترب

-1-
حين تترجرج الأحداث ويستعصي فهمها على المراقب المتلهف، وحينما تنهال التفسيرات الواهية، فلا يعرف المتابع هل هي تنازلات مموهة أم فلهوية شيطانية تحير الخصم، يخيم علينا إعياء نفسي ممزوج بالخوف، لا الخوف من هذا الأمر أو ذاك وإنما الخوف من كل شيء ولا شيء معاً. لم يعد للأحداث- صغيرها وكبيرها- بعد أو حجم، وإنما هي فقاعات صابون تتشكل بلا سبب وتنفجر بلا سبب، ولم يعد للأشخاص مرتسمات أو ثقالة وإنما هياكل عظمية دميمة تظهر من حيث لا ندري وتتلاشى من حيث لا نعرف. ‏

نجلس في مكاتبنا فيتخيل إلينا أن السقف قد تشقق وأن قطعه تتساقط فوق رؤوسنا، ونمشي في الشوارع فيخيل إلينا أن البلاط قد انقلع وأننا سوف نسقط في حفرة ليس لها قعر. تنتزعنا أحداث ووقائع ضاغطة تجري في بلدان الاغتراب، فتشغلنا عن هموم وأحزان الوطن بعض الوقت، لا لأنها مثيرة أو لافتة بحد ذاتها، وإنما لأنها مرتبطة بالمجابهة اليومية التي نحياها، ومتشابكة بالقهر الذي يفرض علينا. ‏

-2- ‏
ولكن ما الذي تداعى واحتضر حتى بات المجتمع الفرنسي المعاصر يغوص في متاهات اليأس والقنوط، ويخوض معارك شوارع ضد ما يسميه الظلم، وضد الحكم اليميني الذي يتنكر (لمبادئ الجمهورية)؟. ‏

يزعم (دوميرسون) الكاتب الذي يتألق حالياً أن ثلاث انتكاسات قد بدلت الطبوغرافيا الاجتماعية: أولها ضمور الأمل في النفوس، يقول (كان على جدار برلين أن ينتظر 20 عاماً قبل سقوطه، وكانت الكلمة السحرية التي تنشط العزائم هي الثورة، ولكن ما إن سقط جدار برلين حتى حلت كلمة مطالب مكان كلمة ثورة، واختفت العدالة وحلت مكانها المكاسب التي ترتبط بالماضي أكثر من ارتباطها بالمستقبل). وثانيها: الماركسية. يقول: (كانت جميع الآمال معقودة على الماركسية التي كانت تعج بالحياة وتعد بانجازات خرافية، ولكنها خيبت الآمال وتركت الساحة فارغة. إننا نخشى اليوم الانهيار الاقتصادي والإرهاب، والواقع أن العمر قد تقدم بنا، ويخيل إلينا أننا دخلنا مرحلة الانحطاط، والزمن يثقل كاهلنا. إننا دولة غنية تزداد فقراً وشيخوخة، وما يقال عن ازدهارنا وأمجادنا بل وحيويتنا هو جزء من ماضينا، ولا يمكن اسقاطه على المستقبل ما عاد صراخنا يعبر عن رغبة في الانخراط في لجج الحياة، ولكنه صراخ ضحايا ينتظرون نهاية مسيرتهم، لسان حالنا: امنحونا فترة أطول قبل الاندثار. ‏

وثالثها، الجنون الانتحاري. يقول: (كان شباب أعوام 1968 أصحاب رؤى واضحة أو على الأقل كانوا يطمحون إلى بناء عالم جديد عن طريق زرع القلاقل، أما شيوخ اليوم فهم محالون مسبقاً إلى التقاعد، وليست لديهم مطامح وإنما ذكريات، إنهم يثيرون الشفقة ويستدرون الرحمة، لأنهم محاصرون في شبكة من التناقضات التي لا يمكن أن يخرجوا منها من دون خسائر فادحة، ويبدو أنهم عاجزون عن التحرر من ضعفهم، ولهذا يخشون من التقدم إلى الأمام، وهم على قناعة أن أي تغيير مستقبلي هو نوع من الانتحار الجنوني. ويسخر (دوميرسون) من العمال والمعلمين والطلاب الذين يستمرون في اضراباتهم دفاعاً عن حقوق موهومة ونظام تقاعد غير عادل. يكتب: (كيف سيحترم الطلاب أساتذتهم ورؤساء نقاباتهم الذين يكثرون من الحديث عن البطولة والنزاهة والالتزام الأخلاقي، حين يرونهم وهم يقتحمون المدارس لمنعهم من الدوام، ويحتشدون في محطات المترو والمطارات لمنع الطلاب والعمال من العمل). ويخلص (دوميرسون) آخر الأمر إلى الاعتراف بأن شهري أيلول وتشرين من هذا العام هما فضيحتان سياسيتان واجتماعيتان وأخلاقيتان، وقد تكون هذه المرحلة هي الإنذار قبل إعلان إفلاس الغرب أو على الأقل إفلاس فرنسا.. ‏

وأفدح ما في الأمر أن مثقفي أيار (1968) قد اكتهلوا وزحف عليهم الجفاف السياسي والثقافي بعد أن انقلبوا إلى (موظفين مدجنين) يعملون في طواحين مجتمع الاستهلاك، بأجور لا تتناسب مع كفاءاتهم, على الرغم من أن البعض منهم قد نجا بجلده وتمكن, بسبب (توبته) أو ارتداده أن يبقى في الميدان, روائياً أو شاعراً أو محللاً, يعبر عن خيبته وافلاسه. ‏

-3- ‏
وكانت المفاجأة هي اقدام الفيلسوف (روجيس دوبريه) الذي ابهجنا في مطلع حياتنا بكتاب (الثورة داخل الثورة) ثم أثلج صدورنا حديثاً بكتاب آخر (رسالة إلى صديق اسرائيلي) فضح فيه بلا هوادة, عنصرية اسرائيل الأخلاقية تحدثنا عنه في أسبوعية سابقة على اصدار كتيب صغير من 60 صفحة اسماه (المخطط القرمزي) أدان فيه بغضب وحقد المجتمع المعاصر الذي يسكنه هاجس التصابي, ويتنكر للشيوخ الطاعنين بالسن. الكتاب الذي استأثر باهتمام النقاد, قارص، واخز، شاعري، ملتهب اقرب ما يكون إلى قنبلة تصبُّ شظاياها على مرتكزات المجتمع المعاصر. ‏

لقد أراد (روجيس دوبريه) الذي بقي المثل الأعلى للحركات السياسية في الستينيات و تسلح بكتابه (الثورة داخل الثورة) كل المتمردين, وهم يخوضون المعارك خلف المتاريس, أن يعلن عصيانه على المجتمع المعاصر الذي يكره التجاعيد والعجز والذبول والتآكل ويدعو إلى التصابي الفكري والعاطفي والفيزيولوجي, ويؤكد رفضه لتحول الثقافة المعاصرة من ثقافة عمل إلى ثقافة أوقات فراغ, واحتضار عصر التململ والنزق بعد أن أصبح مجتمع الاستهلاك مفتوناً بالصورة الجمالية الخارجية ولا ينقطع عن دعوة المسنين إلى تعديل (سحناتهم الكريهة) وإلا هددوا بالاختفاء, وهذا معناه- كما يقول دوبريه- حرمان الحضارة من ذاكرتها ومن تراثها المتراكم. ‏

-4- ‏
غريب أن تأتي الدعوة إلى التشبه بالشيخوخة الكئيبة من ثائر حمل البندقية مع غيفارا لتجديد شباب المجتمعات المتكلسة الآسنة, والأغرب دعوته إلى التوقف عن تقديس النشاط والتوثب والاستعداد الدائم للهجوم ومطالبته بحق الإنسان في أن يكون دميماً كسقراط, سريع العطب متلعثماً, وأن يمسك بعكاز وهو يمشي بتثاقل ويكتب في مرارة: ‏

«اردت أن أضع المجتمع وجهاً لوجه أمام نفسه, اردت ان اعترف أن المتروكين المهجورين نزلاء المستشفيات ودور العجزة, هم قشطتنا الثقافية, ولا بد من انتشالهم من القرف». ‏

إن المجتمع المعاصر الذي يتنافس فيه الجميع على الوصول إلى القمة بالاعتماد على ما يسمى بالدينامكية والحيوية وروح المبادرة, لا يحق له أن يستبخس شيوخه بدعوى أنهم أصبحوا عبئاً على التقدم والازدهار. ‏

قد يخيل إلينا أن ما أراد أن يعلنه (روجيس دوبريه) الذي بلغ الخامسة والسبعين, من مرافعته الساخنة ضد التصابي, هو أنه نادم على حيويته المفرطة يوم كان يحمل البندقية إلى جانب غيفارا وأنه بات مقتنعاً أن الجنون الثوري يوصل إلى التصدع والخراب, ولكن (دوبريه) يحتج على هذا الفهم الخاطئ لمقاصده، يكتب في غضب: لا يخطران على بالكم أنني أصبحت معجباً بالحكمة والنضج بعد أن تقدم بي السن, إن ثورتي ما زالت في صحة جيدة, ولولا إيماني أن الثورة على الظلم هي أهم ما في التاريخ الإنساني, وأن تمردنا الحالي ما هو إلا استمرار لتقاليد موروثة, لما قبلت أن احمل البندقية, ماذا تقولون بشجاعة (سقراط) وهو يواجه الحكم بالإعدام؟ ماذا تقولون بثورة (اسبرتاكوس)؟ ماذا تقولون بالثورة الفرنسية وحكم الكومونه؟ ماذا تقولون بثورة الزنج ومقاومة المتصوفين الدراويش المسلمين؟ الثوار الحقيقيون هم الناضجون المحافظون على القيم الإنسانية الثابتة وليس قطيعاً من المقاومين الذين لا يعرفون ماذا يريدون. وواقع الحال أن الأصوليات الدينية السياسية الحالية قد حقنت بفياغرا كاريكاتورية تماشياًً مع سريان جنون التصابي, و لا يمكن القضاء عليها إلا بعد نزع المكياج عنها واعادتها إلى جذورها الدينية الأصلية.. ‏

-5- ‏
ولكن الدكاكين الشبابية تزمجر (ببقبقة فلسفية) تجتذب الشباب وتلقي الرعب في نفوس الكهول, إنها ترفض ما هو قائم بضجيج يشابه ضربات الطنبور الالكتروني في حانة ليلية مغلقة وتجاهر (بصندوقها العقائدي) الذي يخفي أفكارها (الحارقة). ‏

- أكبر خطأ اقترفه الفكر الثوري المعاصر هو الغاؤه لمفهوم (الخارق) وتفضيله (حتمية التاريخ). الثورة ليست عملاً روتينياً يفرضه تطور متسلسل لا غنى عنه, بل حدث خارق غير متوقع ولا يجوز أن يصبح شظية من حتمية تاريخية. ‏

- اقحام الميتافيزيقا مجدداً في الواقع اليومي خطوة لا غنى عنها للتخلص من اليأس الذي يتفشى في كل مكان، لقد حدثت عدة محاولات للثورة على الواقع المرفوض, ولكنها أدينت من قبل الكهنوت التقليدي لأنها كانت محاولات طائشة, ولكن الطيش صفة إيجابية أو قيمة ملازمة للتحرك الثوري الخلاق. ‏

- نحن بحاجة إلى أمرين أساسيين: أولهما الدعوة إلى الاكتهال المبكر مع المحافظة على حرارة الشباب. لقد زعم أن النضج, هو دوماً من صفات الكهول ولكننا لسنا بحاجة إلى نضج الكهول وإنما إلى نضج الشباب وهذا معناه الاكتهال المبكر. ثانيهما, الدعوة إلى المتاريس لا إلى الحوار, فلقد مللنا الحوار اللين السهل مع الجلادين الذين يجدون دوماً حججاً لإقناعنا بفوائد الخضوع للأنظمة الاستبدادية القائمة ولا بد من التحرك وراء المتاريس ورفض الحوار مع الجلادين. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...