غسان الرفاعي: لا تسامحونا!

04-01-2010

غسان الرفاعي: لا تسامحونا!

ـ 1 ـ لا ادري ما الذي أغراني على التسلل بين صفوفهم المتراصة وأنا خجل من بياض مبكر وخط شعري، وبواكير تجاعيد انزرعت في وجهي. شعرت وأنا اخترق جماعة شابة اعتصمت في ساحة (شان دو مارس) تهتف ضد مشروع (الهوية الوطنية) الذي طرحه الوزير المرتد (بيسون)، أنني لص يقتحم بيتاً ليس له، أو متطفل يسترق السمع من ثقب باب كانوا يتماوجون جرأة وغضباً، ويفاخرون بتمردهم، ولم أكن إلا من بقايا جيل مهزوم، مقهور، يتبرأ من ماضيه وحاضره، ويرتعد من مستقبله. أحرجوني بحفاوتهم وحرارتهم، وأذابوا جبالاً من الصقيع كانت تسكنني، استقروا في داخلي، على الرغم من حواجز الجغرافيا، والتاريخ، والحضارة، وسوء التفاهم.

قالت لي فتاة معصوبة الرأس، وقد وشّحت جبينها الأبيض الناصع بشريط كتب عليه بالحبر الأحمر (لا للعنصرية، لا للأحقاد!): هل أنت معنا؟ ‏

ووجدتني أقول وكأنني أتخفف من قرون من الصقيع: (مع أي تمرد، في أي مكان، حتى النهاية). ‏

لقد تقرح عمري، وأنا أمتثل وأبارك، وأطيع، وأصفق. وقبلتني على وجنتي اليسرى، وهي تزقزق كعصفور، وتهتف بصوت مجلجل: (تحيا المساواة بين الناس جميعاً!). ‏

وتذكرت مطلع قصيدة لـ (بودلير): (حينما تكون في العشرين تتقن فن إشعال الحرائق، وحينما تشيخ تنقلب إلى إطفائي!). ‏

ـ 2 ـ ‏

خصصت مجلة (ماغازين ليترير) عددها في مطلع العام الجديد 2010 لتحليل شعور طاغ بدأ يستعبد الإنسان المعاصر: الحقد، كان التاريخ دوماً مسرحاً للاحقاد الدينية والقومية والطبقية، والعنصرية، غير أن الحقد الجديد غائم بلا هوية، انه نزيف من الداخل، انتحار عبثي، عدم اكتراث مدمر. ‏

ـ عندي حقد: مجاهرة جديدة غير مألوفة، تسمعها في كل مكان، ترتسم على كل الوجوه، وقد لا نفهمها، ولا نستسيغها، ولكنها مرمية، كالقنبلة اليدوية بين الناس حيثما وجدوا، إنها شر مختبئ خلف العيون، رغبة غامضة في الانتقام، تقفز من كل القسمات، استعداد دائم للبطش، محشو في قبضات الأيدي، شعور مضغوط بالإهانة، والغثاثة، واللا جدوى. ‏

ـ عندي حقد: حرب أهلية متجولة، تنتقل من مدينة إلى مدينة، من شارع إلى شارع، ومن غرفة إلى غرفة، نار ثلجية تتغلغل في النسيج والألياف، وتستقر في العظام، مزيج من الكبرياء والضعة، مبالغة في التكريم والتجريح، ونوسان بين التقرب والنبذ، انتقال من الشفقة إلى الازدراء، كرّ وفر من الشح إلى الإتلاف. ‏

ـ عندي حقد: هجوم على الآخرين أعمق من المحبة، والانصياع، والقبول، والخضوع، خروج من العزلة المختارة والغيتو المقصود، تحدّ متعال في المطلق، ونفي للطبقة السياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية برمتها، اعتراف بأنه (إذا كان علينا أن نحمي أنفسنا من شيء، فقد يجب علينا أن نحمي أنفسنا من أنفسنا) وأنه (إذا كان هناك مخربون، ومتلفون، وناهبون، في كل مكان، فعلينا أن ننهب أنفسنا، وأن نتلف قوانا..). ‏

ـ 3 ـ ‏

كم دققنا الطبول، ورقصنا رقصة النار حول (أصنام)، زعم أنها تجيد لملمة شقفنا، وترميم أجزائنا المتصدعة، ثم اكتشفنا أنها غير معنية إلا برغد قبيلتها، وتوفير الطاعة لمن يتحدر منها. ‏

كم تحمسنا لأشباه (روبسبيير)، ممن وعدوا بنصب المقاصل، ودك القصور، فانتهى بهم الأمر إلى افتتاح السجون، وتشييد قصور فرساي جديدة، وتحويل (الرفاق) الغاضبين إلى رجال بلاط، وكم عبدنا الطرق لارتقاء شبه (لينين)، فإذا به قيصر آخر، لا يطرب إلا لسماع صوته، ولا يغدق إلا على شرطته السرية، وحرمه في السرايا. ‏

ـ وعدنا بتضميد الجرح الوطني الذي انغرز في جلدنا، بعد إقامة دولة مستوردة فوق أرضنا، فلم نهادن الحكومات المتواطئة التي لم تجد تحصيننا، وحفرنا قبورها، في انقلابات غاضبة، ونحن ننشد الأناشيد الوطنية، ها نحن نشهد كرنفال المصافحات العلنية والسرية بين أباطرة الصمود وممثلي الاغتصاب الصهيوني، بمباركة أبطال السلام المزيف، ودعاة الحروب العادلة. ‏

منحنا الاستقلال هوية المواطنة، فشعرنا بالأمان والاستقرار، ثم تواترت علينا الانقلابات والثورات والاصلاحات فإذا بالمواطنة تتشقق طبقات، وطوائف، وإثنيات، وحروباً أهلية وأحقاداً تغلي بها القلوب قبل أن تفسد العقول. ‏

ـ وماذا فعلنا بشبابنا الذين يتوالدون، ويتكاثرون، ويسدون الساحات والشوارع؟ أغرقناهم بوعود الازدهار، والرخاء، وأدخلناهم الجامعات، وكأنهم قطيع من الماعز دون تخطيط، وحينما تخرجوا بتفوق، ووقفوا أمامنا، والشهادات في أيديهم، أشحنا عنهم، وقلنا لهم: (أنتم ومصيركم!) وفي بحثهم المتواصل عن العمل اكتشفوا أن لا شيء يتحقق من دون إراقة ماء الوجه، لا مكان للكفاءة أو المثابرة، ولا للنزاهة، وإنما هناك غابة كثيفة من المحاباة والولاءات الشخصية والسلطوية، إذا لم يكن الشاب الوليد ذئباً ذا أنياب وأظافر، فقد تأكله الذئاب، ولن يأسف على فشله أحد!. ‏

وشعرت بالحاجة الماسة إلى توجيه نداء، خفيف الظل، إلى أحبائي الشباب، في الوطن العربي متأثراً بالدفء الجماهيري الذي كان يغمرني: لقد تسلم جيلنا الوطن، والجموع العربية، من المحيط إلى الخليج، تهتف بتفاؤل: بلاد العرب أوطاني. وأردنا، آه كم أردنا، أن نترك لكم وطناً أكبر، بحكم تطلعاتكم وأحلامكم، يوفر لكم مقابل القمح، والكرامة، والحرية، والعمل الشريف، وها نحن نترك لكم الأمانة: دويلات كدكاكين البقالية، وزعامات بالكوفية والعمامة، والقبعات العسكرية، متخاصمة، متناحرة، وحروباً أهلية اندلعت، وتهديداً باندلاعها من جديد، وثقوباً جغرافية يقفز المحتل لإلحاقها، ووحدة عربية مثقوبة في الوسط والأطراف، ومثقفين عاجزين، وشباباً يهاجرون وفلسطين تتقلص. ‏

وزعماؤنا يتناحرون ويتشاغبون، لكم عجزنا أن نعلن أننا فشلنا، واننا خدعناكم. لا نريد أن تصفحوا عنّا، ولا أن تغفروا لنا، فهذا يحرجنا ويوجعنا، أبعدوا عنا هذا القناع والظلام، ليعود الإنسان العربي إلى مسرح التاريخ، معافى قوياً، حراً. ‏

ـ 4 ـ ‏

ولنعترف نحن المثقفين، كما طالبتنا (ماغازين ليترير) التي وصفتنا باختصاصيي التنكر والشغب، بأننا مدانون: إننا ندخل في عالم اليقين المطلق شقوقاً وخللاً، إذ نكشف أبعاد الفضيحة، إننا شياطين الفوضى والدمار، في عيوننا حرب أهلية مضغوطة، وفي قلوبنا أحقاد لم تغسل بعد. ‏ ولكن (ماغازين ليترير) انتهت إلى نتيجة أخرى ليست اقل مرارة: العارفون المتصدرون للشأن العام، انتهازيون لا يفكرون إلاّ في مصلحتهم وازدهارهم الشخصي، انهم ـ كما يقال ـ يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويؤكدون: ينقضون عليها، ويأكلونها.. ‏

غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...