عن "باربي" وصاحبتها "فلّة" ووردة الخبز

28-07-2011

عن "باربي" وصاحبتها "فلّة" ووردة الخبز

لا هَرَم ولا بَرَم. في الخمسين وتزيد، ما تزال الدمية "باربي" أنثى كاملة الأوصاف، شابّة على الدّوام. صحيح، إنّ هذه الدّمية لا تعكس اليوم سنّها، فحياتها، على ما يظهر، بدء أبديّ، وفرادتها لا تضاهى. عمر غضّ، وقوام ممشوق، وجسد مثير، ساقان رشيقتان، وذراعان طريّان، خصر ضامر، جِيد مرسلٌ، وجاذبيّة وخيلاء. هي، لذلك، عقدة أجيال من الصغيرات اللّواتي رأين فيها مثالا يحتذى، وأنفقن أعمارهنّ، من بعد، في مضاهاتها بلا جدوى، فقد تسرّب إلى أجسادهنّ الكِبَر، وأصابهنّ ما يلحق الناس جميعا من الهرم. ورغم المحاولات المتكرّرة لإخفاء العمر أو لاستعادة الشباب من خلال التدخّل الجراحيّ، فقد كانت وطأة الزمن لا تقاوم.

أتحدّث عن لعبة أطفال باعتبارها لعبة كبار. "باربي" لعبة صغيرات يمثّلن دور الكبيرات الحانيات الودودات الفاتنات دوما. نعم، إنّ الصغيرات اللاّعبات لا يمثّلن دور الأمّ بالضرورة، لأنّ الأمّ معطى "عائليّ" صرف، والعائلة مفهوم غائب في حياة "باربي"، وإن اصطنعوا لها، من بعد، صديقا هو "كين". إنّهنّ يمثّلن دور المرأة، أو قل يمثّلن دورا مخصوصا أرِيدَ للمرأة. هل اللّعب إلاّ تدريب أوّلي على حياتنا القادمة؟

ولأنّها أمريكيّة المولد والهوى، فقد شاء لها مصنّعوها الأمريكيّون أن تكون في كلّ سوق إثنيّة حاضرة: في قارّات أمريكا، وفي أوروبا، في تايلندا والصين وإفريقيا والهند واليابان وفي السوق العربيّة. بيضاء أو شقراء أو سمراء أو صفراء.

لهذه العولمة قبل زمن العولمة ارتدادات في هذا الفضاء الثقافيّ أو ذاك. وفي الانتشار السريع للدّمية المحجّبة "فلّة" في ديار الإسلام ما يفسّر بعض هذه الاعتراضات الخصوصيّة على الحلم الأمريكيّ. فقد حظيت هذه الدّمية التي أراد لها أرباب السوق أنْ تنشأ على المبادئ الإسلاميّة برواج منقطع النظير، منذ سوّقت في سوريا سنة 2003 ثم في سائر البلدان العربيّة. رغّب في هذه الدمية "الشرعيّة" نقابها ولباسها المحتشم، وسجّادتها الصغيرة الورديّة التي تباع معها على سبيل الإكسسوارات "الهادفة".

على أنّ إسلام "فلّة" اقتصر على الشكل أو على التعليب، وفق معجم السوق. مالت العيون إلى السواد، وغادرت البشرة مثالها الأشقر، وبدت الدمية من "الجآذر في زيّ الأعاريب"، غير أنّ الجوهر واحد لم يفارق "جاهليّته" الأمريكيّة. وهْمُ الجمال الدائم والترف والدلال والأناقة والرفاه والحياة الورديّة. صار، الآن، من الممكن أن نسمّي هذا الوهمَ وَهْمَ " الولدان المخلّدين".

كيف تكون لقطعة بلاستيكيّة لا تتجاوز الثلاثين صنتيمترا جراحها الأنطولوجيّة العصيّة على الشفاء في أكثر الحالات؟ نعمة أم نقمة؟ أنسٌ أم ووحشة؟ لعب أم تعب؟ متعة بالطفولة أم ضجر؟ هل كانت الصغيرات اللاّعبات بدُمَاهِنّ على عجلة من أمرهنّ، فاستبقن أعمارهنّ قبل الأوان؟

يوم التاسع من مارس هو عيد ميلاد "باربي" منذ ولدت سنة 1959 في ظلّ "أبويها" الأمريكيّيْن جاك ريان وزوجته. ومنذ 1993 أقرّت الشركة المصنّعة للدّمية ( Mattel ) في لندن هذا اليوم عيدا لـها. ولا مجال للمصادفات في اختيار هذا التاريخ بالذات. فليس بين يوم ميلاد الدّمية وبين يوم أمريكيّ، هو الآخر، هو يوم المرأة العالميّ ( 8 مارس ) إلاّ ساعات معدودات.

مثالان عن عولمة مركّبة متردّدة. عولمة لمناويل سلعيّة تعيد إنتاج علاقات "إقطاعيّة" ترى في المرأة دمية وشكلا وزينة وحليا ودورا مبرمجا، ولأنموذج مجتمعيّ أمريكيّ تسويقه هاجس دائم، هو مجتمع الاستهلاك والنجوميّة والموضة والإثارة والحياة الورديّة، وعولمة أخرى تبتغي إشاعة القيم الإنسانيّة الحقوقيّة في كونيّتها، من خلال التذكير السنويّ الدوريّ بثورة النساء على الظروف غير الإنسانيّة التي كنّ يعملن فيها، سواء سنة 1857 أو بعد ذلك في الثامن من مارس سنة 1908 حين جابت النساء العاملات المحتجّات شوارع نيويورك حاملات قطع الخبز وباقات الورود.

مختار الخلفاوي

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...