عادل محمود: أنا شاعر تورّط برواية

01-02-2008

عادل محمود: أنا شاعر تورّط برواية

كتبت في إهداء الى احد اصدقائك: «هذه روايتي الأولى كتبها شاعر لن يصبح روائيا أبداً»..

لماذا هذه ال (أبداً) ؟00 ألم تغوك التجربة بما يكفي لإنجاز روايات اخرى، أم أنها ببساطة كانت مجرد نزوة ..؟ قال لي صديق، بعد أن قرأ الرواية وأعجبته: «سأعضّك إذا لم تستمر في كتابة الروايات».‏

فرحت كمبتدىءٍ تلقّى هدية. ولكنني كتبت هذه الرواية لأفوز بجائزة مالية أولاً، ولأدخل نوعاً من «معركة الذاكرة».. الذاكرة الانفعالية ، خالقةِ الاستحضارات الطازجة والمؤلمة، في نوعٍ من التحدي الذي عَنَى ببساطة :« شاعر يكتب رواية» قابلة للقراءة والتلذذ والجائزة. يمكن، بالإضافة إلى هذا ... (هذا الذي يبدو صراحة مغرورة) القول بأن ما فعلته كان ضرورياً لتصفية حساب مع مشهدٍ مصائريٍّ متنوّعٍ لأشخاص عشت معهم، وتعرفت إليهم، وآلمني أنهم لم يعودوا بيننا. اعتاد بورخيس أن يعبر عن انحيازه الى الشعر(بمايمثله من إيجاز وتكثيف) ضد الرواية، حتى أنه قال مرة إن «لاشيء في هذا العالم يحتاج قوله الى مئتين او ثلاثمئة صفحة» في اتهام صريح للرواية بالإطالة الفارغة والثرثرة. كشاعر خاض غمار الرواية، كيف تقرأ هذا الرأي الصارم..؟ شكراً لبورخس ولك أيضاً. فهو كاتب مؤثّر ومؤسس ، وأنت سائل ذكي. أنا ما زلت قيد الاستياء، حتى اللحظة، من كتابة الخبر على هذا النحو: «الروائي السوري عادل...» وأحس أحياناً أنني خائن صغير للشعر، بعد أن اكتشفت غواية الثرثرة، وحرية الأبنية العشوائية بمعمارية تُجمّل ذوق القصّ المتمادي في فوضاه. وفي إحدى المقابلات قلت: أستغرب كيف يكتب الروائي عشرات الروايات؟‏

من أين يأتي بكل هذه القدرة على سوق البشر إلى مصائرهم الفادحة أو الناجحة وهو ما يزال دون رجفةٍ في اليد، وحزن في القلب، ناجحاً في النقد؟ أعتقد ليس لدى أحد أكثر من بضعة أفكار .. وكمية محدودة من القصص الصالحة للاستعمال العالي.وقد يكون ماركيز نفسه ، في أواخر كهولته، قد اعترف بينه وبين قلمه الناشف، بأنه أسرف في حق «ماكوندو» و«كولومبيا» والكولونيلات وقد فاض على موتهم هجاؤه. وفي الكتب الطويلة المدى.. أمارس ، وأنا أقرؤها ، نوعاً من الحذف.. فالرواية - بنظري- تفقد صلابة متعتها كلما طالت.. وقد عانيت حتى من قراءة دستويفسكي. ماهي مساحة القول الاضافية التي قدمتها لك الرواية.. ماالذي استطعت قوله هنا ولم تستطع قوله عبر الشعر؟ بمعنى آخر: بماأنك جربت العبور بين الأجناس الأدبية ، ماالذي يتغير بين جنس وآخر.. هل تختلف الأدوات وحسب، أم تختلف طبيعة القول وفحواه أيضاً؟ الذي يختلف طبيعة القول وفحواه. الرواية تخوض معركة بلباس ميدان حربي، والشعر قد لايحتمل كل هذا العتاد الموجود في الحياة واللغة. يقول الشعر مثلاً:« في الثامنة والنصف من كل شَغَفٍ » والرواية تقول «في الثامنة والنصف يوم كذا حدث كذا.». الشعر أسئلة محبوكة على ضفاف كل شيء. والرواية أجوبة في حلوق متعددة الأصوات. في الإعلام الأمر مختلف قد يكون هذا القول معبّراً عن الوظيفة: « الإعلام يحوّل القطط العادية إلى قطط سيامية». في روايتي هذه، قلت الكثير مما أردت قوله . قدمت شهادة عاطفية عبر شخصيات وأحداث وتواريخ وأمكنة ، وتركت للقارىء أن يمارس رُتُوشَهُ الشخصي على هامش أو داخل النقص المتروك عمداً في النص والصورة والشخصيات.. القارىء يتعرف على مجهولين معلومين..في الشعر لاتنتهي المحاولة. إنك هاهنا دائم التعليق الجمالي على مكونات عالمنا وإحداثيات خرابه و... جماله. يقول شاعر بريطاني: «من نزاعاتنا مع الآخرين نصنع البلاغة. من نزاعاتنا مع أنفسنا نصنع الشعر». من المستبعد ان تكون قد ولجت باب السرد الروائي وأنت أعزل تماما من الشعر.. ماهي الأدوات التي اصطحبتها معك من حقل الشعر الى حقل الرواية؟ الشعر ساعدني بما لديه من كميات المجاز، وما يستطيعه في خلق صورة تغني ، في النظر إليها، عن الاستماع إلى صوت الكلمات، ومدلولاتها التعبيرية.. ساعدني على الاختزال ، وعلى شد الوتر في اللحظة الضرورية وإرخائه في لحظات أخرى.وكما لاحظت، ثمة مناخ في بعض الفصول، أردت من إشاعته التأثير عبره، وليس بسبب الأحداث. حاولت أن أجعل انفعالاً مشتركاً بيني وبين ما أتحدث عنه ناتجاً عن استخدامات جاءت من الشعر. وفي النهاية يمكن لي الاطمئنان إلى هذا القول: «شاعر تورّط برواية!» تحدثت روايتك عن اشياء كثيرة: عن الحب والجنس والنكسة والثورات والانقلابات والجولان والفساد.. هناك من شبهها بأفلام المؤسسة العامة للسينما، حيث يقوم المخرج نافد الصبر بوضع كل شيء في فيلمه.. كل ماقرأه وشاهده وعايشه.. وذلك ليقينه أن فيلمه هذا سوف يكون يتيماً.. ألاتعتقد انك اثقلت الرواية بما تنوء عن حمله؟.. أعتقد أنه يجب النظر إلى كل ما ذكرت على أساس أنه خليط تجربة انسانية واقعية في سياق أي حياة روائية. ولكن ، في نفس الوقت ، يجب الملاحظة أنني لم أركّز وأشدد على أي موضوع منها. الجنس مثلاً ورد في جملة أو جملتين. الحب كان قصة عادية أخذت الحياة مصيرها إلى نهايتها المقصودة.. إلى الفكرة ، وهي أن الحب يحتاج إلى «دوام العافية النفسية والروحية». كان المقصود في هذا الحشد «المزعوم» من الأحداث والأشياء الوصول إلى ما نحن فيه . إنه حديث متشعب عن «الجد الأول»، إذا صح التعبير، لمشكلاتنا المستعصية. وهي مشكلات جذرية، ولايتوهمّن أحد، من الأجيال المولودة بعد حرب حزيران 7691، إنه ليس حفيداً درامياً لها. أما الشبه مع أفلام مؤسسة السينما فهو غير صحيح. ذلك لأن أفلام المؤسسة مكررة - بهذا المعنى الذي تقوله- على يد مخرجين وليس مخرج واحد. وأنا واحد وإذا حدث وكتبت رواية أخرى فلن تجد حطام الدبابات ولا أشلاء القتلى ولاسيرة الحب المكسور المهزوم.. في روايتي . طبعاً ولا.. الانتصارات. ومع ذلك لا أرى عيباً في أي موضوع بشرط ألا تعيبه أشكاله وخياراته الفنية.. تحديداً لغةُ صدقِهِ الجمالية. احتكر الراوي، وهو مثقف محترف كما بدا من السياق ، مساحة السرد برمتها، وكان الصوت الوحيد فيها إذتحدثت الشخصيات من خلاله وبمنطوقه، فبدت جميعها مثقفة مهجوسة بقضايا كبرى وهموم وجودية.. هل كنت تقصد ذلك؟ .. ألم يتسبب هذا الخيار في جعل كذبتك الروائية عصية على التصديق؟ المهم ألا يكون الراوي المثقف هذا مملاً وحقيراً في احتكاراته التعبيرية. بالمناسبة هو من رأى كل ذلك وعاشه ويريد أن يرينا، من مرصده ومفكّرته وفكرته ، ما رأى. إنه هو صاحب مشغل ودكان السرد، وقد أعطى لنفسه حرية الفتح والإغلاق. وقد يكون هذا حقه البلطجي الوحيد، حيث لم يرَ أحدٌ ، تماماً ، عندما يغلق المشغل ويعمّ ظلام وحدته هناك.. لم يره أحد وهو يئن أو يضرب رأسه بالجدران. بينما وشَى كلّ ما حدث للأشخاص والأماكن والتواريخ .. بأنه معنيٌّ ، حتى العظم ، بكمية الألم والأمل.. في الرواية (طبعاً). نعم هي رواية مثقف محترف أذْهَبَتْهُ الحياة في القطاع الجنوبي من شقائها. أكثرت من التضمين والاستشهاد بمقبوسات لمفكرين وأدباء كثر، الشيء الذي يذكر بأسلوب احلام مستغانمي.. هل أردت إغناء الرواية، أم انها عكازات تسندك في تجربتك الأولى؟ سلمان عز الدين .. لاتقارنّي بأحد.. ليس من باب الاستعلاء ، بل من باب فكرة أن كل انسان فرد لاشبيه له!! أردت من الاستشهادات إغناء الرواية، وإمتاع القارىء، وتوجيه الفصول، وتعميق الرهبة بحدوث ما حدث.. وإثارة التأملات خارج ذات الرواية والراوي (الكاتب).. أي لدى الذات الصامتة للقارىء. أضف إلى أنني أعتنق اصطفاء الأفكار، لأنني أؤمن-عكس ديالكتيك مترجم إلى اللغة العربية.. بأن الأفكار هي التي تخلق المادة والكون والحياة النامية. في كثيرمن قصائدك ومقالاتك الصحفية، كما في روايتك هذه، تبدو النكسة شيئا محورياً، حدثاً تأسيسياً لذاكرتنا المعاصرة.. وكأنك تقول إن حاضرنا ومستقبلنا سيظلان اسيري هذه الذكرى المشؤومة..وكأنك كذلك تعول على خلاص من جنس النكسة ذاتها.. ماذا لو كان هذا متعذراً؟.. أليس هناك طريق اخر للخلاص؟ النكسة.. وأفضل تسميتها «هزيمة» دمرّت كل أحلام العرب المحيطين بإسرائيل، وكل العرب الذين لم يكونوا ، بعد، قد تعرفوا على الأحلام.. كالخليج والعروبة القصيّة. أولاً تحرير فلسطين. وثانياً التقدم والتنمية. وثالثاً جاءت لنا واستمرت لنا بعسكرة الحياة. ولم تعد الحريّة ذات معنى إلا في الكلام عنها. وصادرت الهزيمة وإلى الأبد أكثر من 08% من فلسطين وتجري المساومة الآن على شكل جديد لمصادرة العشرين الباقية. في سورية لايعني الأمر أن الجولان محتل وحسب ، بل جعلنا الجولان المحتل«أشخاصاً مؤجّلين». لقد فتحت الهزيمة باباً إجبارياً وهو الصلح مع (إسرائيل) بشرط «خدمتها» وأسيادها في الاقتصاد، والأمن ، وشكل الحياة الحديثة. لايمكن الاستهانة بالتاريخ . وكما يقال: «إذا أطلقت على الماضي مسدسك أطلق عليك المستقبل نيران مدافعه». هناك من يقول إن جائزة دبي، مثل غيرها من الجوائز العربية، تمنح عادة للموضوع فقط (والذي يجب أن يكون بالضرورة قوميا) دون أخذ الجانب الفني بعين الاعتبار .. مارأيك؟ أنا لايهمني هذا القول. أنا لم أغشّ لافي الامتحان ولا في تصحيح الأوراق. عندما تعرفت ، في احتفال الجائزة في دبي على لجنة التحكيم، قلت مازحاً : « أنتم إذاً أصحاب تقرير المصير؟» فأجابوا: « أنت منْ قرّر!». لي تعليق من نوع آخر على الجوائز فكرةً وممارسة: أولاً ، من المعيب حقاً ألا يكون في سورية كلها جائزة للآداب والفنون تكرّس المعنى الحقيقي للاحترام العميق للثقافة والإبداع . وأسْتَغربُ «بخل» مال الدولة على الكتّاب والمبدعين، و«خوف» مال الأغنياء من الدولة إذا أنشؤوا جوائز للمبدعين. وثانياً: دول الخليج، أي النفط، انتبهوا إلى إضافة قيم معنوية إلى مالهم المالي.. انتبهوا إلى المشهدية، على الأقل، ويوجد لديهم وبينهم من يحترم الثقافة أكثر من أبطالها الافتراضيين في دول الخطاب الآخر. وثالثاً: القيم الفنية ليست ، في الجوائز، المعيار المقدس حتى في جائزة نوبل. أين تضع روايتك في السياق الراهن للرواية السورية؟ على رفوف مكتبتي. أنا «يتيم» الأدب الروائي السوري. لأنني ببساطة لست روائياً. سأحاول ، مرة أخرى، في كتاب آخر أن أكون .. شاعراً!!.‏‏

سلمان عز الدين

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...