صناعة الموت في بغداد تؤمن العيش لكثير من الأحياء

29-11-2006

صناعة الموت في بغداد تؤمن العيش لكثير من الأحياء

الجمل:  ضمن وقت آخر، أو أسلوب آخر، فإن هؤلاء الرجال الأربعة قد يكونوا من العمال الشغيلة، أو من المعلمين، أو الأطباء.. وبدلاً عن ذلك، فقد أصبح عملهم يتعلق بالموت.
أحد الرجال، يقوم بتجميع وتنظيف اللحم البشري من الشوارع، ويجمع ويرتب وينظم أشلاء وأجزاءاً ليس بمقدور أحد أن يتعرف عليها.
وآخر يعمل في الجامع، حيث مهمته التفرغ طوال الوقت للعمل بتنظيم وترتيب شعائر الجنازة.
وآخر –ثالث- أصبح معاشه يرتبط بقراءة آيات من القرآن الكريم ضمن شعائر الجنازة.
وآخر –رابع- هو حامد أحمر، يقف متأهباً خارج المسجد كل يوم، حيث يعمل سائق تاكسي، مهمته نقل الجثث إلى المقبرة الموجودة خارج المدينة.
يقول أحمد -من باب الحقيقة والأمر الواقع- (إن كل العراقيين الذين يعيشون هنا سوف يتم قتلهم)، ثم يضيف قائلاً: (عندما ينتهي القتال، فإن كل العراقيين الذين غادروا ورحلوا سوف يعودون ويرثون كل شيء تم تركه في هذا البلد).
يومياً، يقوم هؤلاء الرجال –الأربعة- بتسيير وإدارة شؤون عملهم في مجال صناعة العراق النامية والجديدة: صناعة الموت!
حكمت خادم يقوم بتشغيل إسعافه الأبيض، المزين والمزخرف بصفارة الإنذار الزرقاء وعلامات الهلال الأحمر، ويتحرك لنقل الأحياء والأموات خلال جولاته اليومية هذه.
يقوم خادم ذي الثلاثين عاماً، بإزالة الجثث المتسخة المبعثرة على الطرقات والشوارع، أو يقوم بتجميع أجزاء وقطع وأشلاء الجسد التي تطايرت متبعثرة بفعل الانفجارات، ووسط المجزرة والموت وركام الجثث، يحاول خادم جاهداً تهدئة من تبقوا على قيد الحياة.
يقول خادم: (نحن نهتم بشكل ثابت ودائم بالمواقف والاوضاع والأحوال غير العادية التي تسبب الصدمة، وباعتبار أن الناس عادة ما ينتابهم الخوف والهلع والذعر، خاصة عندما يكون هناك دمار وجثث ملقاة حولهم. ثم يضيف خادم: (والذي يمثل واحداً من بين مجموعة الـ750 إسعافياً في بغداد)، قائلاً: (يجب أن يكون لك قلباً قاسياً وقوياً وصلباً لكي تقوم بأداء هذه المهمة).
يحرك وينقل خادم الأشلاء وبقايا الجثث إلى بعض الأماكن الخاصة أو إلى بعض الأبنية السكنية المهجورة التي تبعد عن العاصمة العراقية، بما يجعلها ملاذاً آمناً غير معروف، وبرغم أنه مهجور إلا أنه يرقى لأن يكون مكاناً لدفن الموتى وقبرهم، حيث لا ضرورة أو حاجة لحملة النعش، وأيضاً لا وجود للمشيعين.
كذلك يقول خادم: (ليس لدي خيار سوى التخلص منهم طالما أنه لا يوجد من يحملهم).
وعندما لا يكون خادم مشغول مباشرة بالتعامل والاعتناء بالموت، فإنه يجوب في شوارع بغداد المجنونة، بهدف محاولة كسب عيشه.
في وقت مبكر من هذا الشهر، كان هناك ثمة طفلاً يافعاً يعاني من جروح خطيرة في رأسه من جراء تعرضه لانفجار بجانب الطريق، وقد مات هذا لطفل عندما كان في طريقه إلى المشفى محمولاً على خلفية سيارة الإسعاف. وتعليقاً على ذلك قال خادم: (عرفت وفهمت أنه كان على وشك النهاية عندما شاهدته لأول مرة.. ولكن لم يكن بوسعي أن أتركه يموت على قارعة الطريق).
في وسط النداءات، وأصوات الاستغاثات، يفرك خادم يديه بشدة وبلا خجل أو استحياء لإزالة البقع والشوائب وأوساخ لحم ودماء البشر من مؤخرة إسعافه مستخدما بعض السطول وأوعية المياه، والمواد الكيماوية المطهرة، وهو يمسح بخرقة صغيرة من القماش بيديه المكشوفتين العاريتين، ومقره الواقع جنوب العاصمة بغداد يفتقر إلى المياه الجارية والكفوف والقفازات المطاطية.
يقول خادم: (أحياناً يتدفق الدم البشري حيث الموتى ويطفح حتى يصل إلى الماكينة، وذلك يسبب الكثير من الأعطال الميكانيكية للسيارة، وحتى بعد أن نقوم بعملية التنظيف في بعض الأحيان، فإن روائح عفن الدم واللحم البشري القوية تسبب إحساساً بالمرض والسقم).
يكسب ويحقق خادم دخلاً يبلغ حوالي 69 ألف دينار عراقي (ما يعادل 47دولاراً أمريكيا)، وفقاً لنظام عمل 24 ساعة يومياً، يستمر لثلاثة أيام، ثم تتغير بعد ذلك وردية المناوبة، وبرغم ذلك فالدخل ليس كافياً بالنسبة له، لكي يزود زوجته وابنه ذي التسعة أعوام بأسباب الحياة، وبالتالي فمازال هو وزوجته يعيشون في منزل والديها.
يقول خادم: (هذه مشيئة الله، ولا معنى لأن يخاف المرء أو يتظلم).
حامد أحمد، ذي التسعة والثلاثين عاماً، يقود سيارة نقل الموتى إلى أماكن راحتهم الأخيرة في المقابر الهائلة والمتضخمة الحجم خارج بغداد.
وكل يوم بين الساعة 7صباحاً، حتى الظهر، يوقف حامد أحمد سيارته التاكسي، (وهي من نوع وايت شبفي كابري موديل 1992) أمام مشرحة مشفى اليرموك في بغداد. وعندما بدأ هذه المهنة في عام 1985، كان معه بضعة سائقين يشاطرونه العمل. ولكن في الفترة الحالية، فقد أصبح هناك أكثر من 20 سائقاً يقفون في انتظار الركاب.
أفراد العائلات تندفع خارجة من داخل البناية وهم يحملون التوابيت الخشبية، من بينها عائلة واحدة خرجت وهي تحمل خمسة صناديق لتوابيت خشبية.هذا  وبلا عربات نقل، أو شاحنات مخصصة لنقل الموتى، أو أغطية على سقوف سياراتهم، فإن معظم العائلات يقومون بالاعتماد في نقل جثث موتاهم على الرجال من أمثال حامد أحمد.
يقول حامد أحمد انه قبل غزو الولايات المتحدة، كان يقوم بتوصيل جثتين في الأسبوع، ولكنه الآن أصبح يعمل طوال أيام الأسبوع، وتقديرات القتلى المدنيين العراقيين منذ لحظة عملية الغزو التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية في يوم 20 آذار 2003م، غير محددة العدد ومازال يشوبها الكثير من الاختلاف وتباين التقديرات. وخلال الأسبوع الماضي، قدر تقرير الأمم المتحدة أن العنف في العراق يأخذ ويزهق أرواح ما يبلغ في المتوسط حوالي 120 شخصاً كل يوم. واليومان اللذان قضيتهما برفقة حامد أحمد كان ما جلبه أحمد ونقله وحده من الموتى يبلغ مثل هذا العدد.
في يوم 21 تشرين أول الماضي، تم جلب وتوصيل 54 جثة إلى مشرحة مشفى اليرموك في بغداد، وفي اليوم الذي أعقبه تم توصيل 46 جثة أخرى قبل موعد وجبة الغداء، من بينها 16 فرداً من أسرة واحدة، صبي يبلغ عمره 10 أعوام كان مصاباً بطلقتين في راسه عندما كان خارج منزله.
يقول حامد أحمد (عندما سمعت أن السياسيين يتحدثون حول المصالحة، انتابني شعور بالأمل من أن حالتنا سوف تتحسن، ولكن بمجرد عودتي إلى هذا المكان –يقصد المشرحة- رأيت عدداً أكبر من القتلى يفوق ما كان في اليوم الذي سبقه.
حامد أحمد يكسب دخلاً يبلغ حوالي 150،000 ديناراً عراقياً، أو ما يعادل 100 دولار أمريكي، ويأتي دخله من رحلته التي يقوم بها، فهو يقود سيارته إلى مسافة 90 ميلاً من بغداد جنوباً وحتى النجف، وضعف ذلك في رحلته من بغداد لمسافة 225 ميلاً شمالاً حتى الموصل. أما الرحلة داخل بغداد فعائدها أقل، ويبلغ 75 ألف دينار عراقي أي ما يعادل 50 دولاراً أمريكياً. والعديد من العراقيين لا يستطيعون تحمل دفع هذه الأسعار، وبالتالي فإن حامد أحمد كثيراً ما يتفاوض ويعيد النظر في هذه الأسعار.
عمله يتضمن المخاطرة، فالشيعة والسنة الذين ينقلون أجساد الموتى لأماكن دفنها، كثيراً ما يتم قتلهم في الاعتداءات وأعمال العنف الطائفية.
ويقول حامد أحمد: تتعاقب وتتوالى بشكل مطرد بكافة طرق المرور في العراق وبين الحين والأخر، تجد مواكب الجنازات نفسها في منتصف منطقة إطلاق النيران بين الأطراف  المتقاتلة ومعارك التمرد مع قوات التحالف –الأمريكية الأجنبية- بحيث لا يكون من سبيل سوى الترجل بالنقالة على الطريق.
حامد أحمد متزوج وله خمسة أطفال، وبرغم ذلك، فهو لا يعبأ بالخطر، ويعلّق على ذلك قائلاً: (لن تكون هنا في أمان وسلام على الإطلاق، لا في الطريق، ولا في منزلك، هذه حياتي، وإذا لم أقم بهذا العمل فلن يكون عندي شيء).
على طول الطريق المغبَّر المليء بالحفر في الحي الشيعي المكتظ والذي يقع جنوبي بغداد، يشرف آسر سالم هاشم ذو الثلاثين عاماً على مسجد الزاوية.
وقبل التصعيد الأخير للعنف كانت الحسينية الملحقة بالجامع تستخدم لمرات قليلة في الشهر من أجل الرجال، فقط مراسم الجنازة والحداد الإسلامية كان يتم إجراؤها هناك لفترة ثلاثة أيام بعد دفن الميت.. والآن أصبحت تتم في هذه الحسينية 10 مراسم كل شهر.
يقول آسر هاشم: (في كل مرة يقتل أحد الشباب، أو يكون الموت غير طبيعي على أية حال، بحيث يمثل أمراً من الصعب تصديقه، ولكن لسوء الحظ، فقد أصبحنا أكثر تعوداً على ذلك).
مدخل المسجد، مدعوم بأعمدة القرميد مع ركائز من أكياس الرمل –الواقية من الرصاص- والأسلاك والأنابيب الملفوفة ذات الأطراف والزوائد الحادة.. كذلك ثمة حرس يرتدي زياً عسكرياً يقوم بتقديم شرح موجز وهو يفتش كل الزائرين بحثاً عن الأسلحة والمتفجرات، كذلك، فالحواجز الاسمنتية تمنع احتمال تنفيذ أي اعتداء بسيارة مفخخة.
آسر هاشم يشرف على إدارة خمسة موظفين، وقبل ووصول الضيوف يعمل على التأكد من نظافة المكان وانه مزود بالإضاءة وسلامة الميكروفونات، ووجود الوقود والمولدات. وبرغم ذلك فهو يقول بأنه نادراً ما يكون متواجداً في المكان بشكل مستمر.. كذلك يقول آسر هاشم: (من المؤلم جداً –على وجه الخصوص- أن يكون القتل المنظم هو السبب).
وبسبب البؤس والشقاء الذي شاهده، يقول هاشم: إن أسوأ ما شاهده، تمثل في احد الموتى، أب عمره 50 عاماًن تم قتله بواسطة عصابة إجرامية بعد أن دفع 40 ألف دولار كفدية لتأمين إطلاق سراح ابنه المختطف.
ويقول آسر هاشم: (كنت أرى العائلة وهي تحاول أن تتحمل وتكون قوية، ولكن بمجرد ما بدأ الناس يصلون ويعبّرون عن تعازيهم، انفجرت العائلة بالبكاء وانهارت، وحاولت أن أوقفهم عن البكاء، ولكن لا جدوى).
في صناعة الموت، عدد قليل من العمال والشغيلة أصبحوا يستأنفون العمل بشكل هادئ وعادي، مثل حيدر الهادي.
خلال فترة حكم صدام حسين، كان حيدر الهادي معتقلاً، وتم حبسه لأكثر من عشرة مرات بتهمة العمل من أجل الثورة والتجسس لصالح إيران، وقد أفلت من الاغتيالات التي تم وضع جدول تنفيذها، وذلك عندما أصدر صدام حسين عفواً عاماً في تشرين الأول عام 2002م، بشكل ترتب عليه إطلاق سراح الكثير من داخل السجون.
الهادي يبلغ عمره الآن 37 عاماً، ويقوم يومياً بقراءة أجزاء من القرآن كل صباح، خاصة ضمن الشعائر الدينية الصباحية، ويقوم بالدعاء للموتى, وقد تعود على القراءة مرة واحدة كل أسبوع، ولكنه هذه الأيام أصبح يقرأ مرتان في اليوم.
يقول الهادي: (القرآن يجب يدعو إلى رسالة السلام والصبر والتحمل، وواجبي هو أن أوصل هذه الرسالة).
لا يمكن اعتبار القيام بهذه الشعائر أمراً سهلاً، وعلى وجه الخصوص يتذكر الهادي تجمعاً في عام 2004م خلال شهر رمضان، بعد أن لقي ثلاثة من الصبية مقلتهم بسبب قصفهم بصواريخ الكاتيوشا، وكان آباؤهم في عمر الهادي.
يقول الهادي: (المشاعر إزاء قتل النساء والأطفال تكون غير محتملة، وما يؤلمني أن أواجه هذه الحالات).
يحصل الهادي على التبرعات والهبات من عائلات الموتى، وعادة بضعة آلاف من الدينارات العراقية في كل مرة، وهي لا تعادل سوى بضعة دولارات، وهو يرفض أن يستفيد من القتل الطائفي.


الجمل: قسم الدراسات والترجمة

المصدر: إس إب قاتكوم
الكاتب: جيمس بالمر- خدمة فوينكروينكال

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...