'سيلينا': الحلم الرحباني في أسر المسرح التلفزيوني!

24-04-2009

'سيلينا': الحلم الرحباني في أسر المسرح التلفزيوني!

افتتح في صالة سينما دمشق الجديدة مؤخراً، العرض الجماهيري الأول للفيلم السينمائي الغنائي (سيلينا) الذي يلعب بطولته الفنان دريد لحام والمغنية اللبنانية مريام فارس، بمشاركة عدد من نجوم الفن في سورية ولبنان، ويحمل توقيع المخرج التلفزيوني حاتم علي..
الفيلم الذي ينتجه المنتج السينمائي السوري العريق المهندس نادر أتاسي، مأخوذ عن مسرحية (هالة والملك) للأخوين رحباني، وقد كان مزمعاً إنتاجه في سبعينيات القرن العشرين بمشاركة السيدة فيروز... إلا أن فرصة إنتاجه تعثرت، وبقيت حقوق إنتاج المسرحية المذكورة بيد المنتج نادر أتاسي الذي كان قد أنتج الأفلام السينمائية الثلاثة للأخوين رحباني والسيدة فيروز في ستينيات القرن العشرين.. وقد رشح لإخراج هذا الفيلم أكثر من مخرج في سنوات ماضية، إلى أن انتهى إلى حاتم علي، الذي كان قد أخرج فيلمين سينمائيين قبل هذا العمل، الأول بعنوان: (عشاق) ولم يكتب له النجاح.. والثاني بعنوان: (الليل الطويل) ولم يعرض جماهيرياً بعد!

- مسرحية (هالة والملك) التي استلهمت في هذا الفيلم، من أعمال الفترة الذهبية في التجربة الرحبانية، فقد قدمها الأخوين رحباني مع السيدة فيروز عام 1967، وعرضت في مهرجانات الأرز، ومسرح البيكاديللي، ومسرح معرض دمشق الدولي، وهي تحكي قصة بسيطة وشفافة، يمتزج فيها الواقع بالحلم، والسرد بالشعر، عن مملكة متخيلة اسمها (سيلينا) تتهيأ للاحتفال بعيد (الوجه الثاني) الذي يقام فيه احتفال صاخب ومرح يرتدي فيه جميع أهالي المدينة الأقنعة، لكنهم رغم هذا التخفي، يكشفون عما بداخلهم، ويوجهون الانتقادات الصريحة للملك ولنظام الحكم... ويجتذب هذا العيد رجل قروي سكير اسمه (هب الريح) الذي يقصد المدينة لبيع الأقنعة... إلا أن نداء الإدمان الصارخ يعقد به في (خمارة جورية) وعندما تقصد ابنته (هالة) المدينة، تقع في أسر نبوءة عرّاف الملك، الذي يدعي أن أول فتاة غريبة ستدخل المدينة، ستكون هي فتاة أحلام الملك المنتظرة... التي تحمل له السعادة، وتنقذه من الوحشة... وهكذا يعاملها الجميع على أنها الأميرة المنتظرة، ويقع الملك في غرامها، وتسعى الحاشية لتزويجها من الملك، وكل واحد من رجال الحاشية يفكر بما سيحققه هذا الزواج من مصالح... ويصل الأمر بالأب السكير، أن ينكر ابنته، حين تصر على أنها ليست أميرة ـ آملاً أن تفتح لها كذبة العراف آفاق السعادة والغنى والجاه أمامها!
في النهاية ترفض هذه الفتاة الفقيرة الزواج من الملك، لأن قلبها لم يدق بحبه، ولأنها لا تريد أن تخدعه، كما خدعته نبوءة العراف المزعومة... وتقرر العودة إلى قريتها الفقيرة والبسيطة (درج اللوز) وقد أدهش صدقها الجميع... ولقنت درساً للجميع، وأولهم الملك!

- المسرح الرحباني، ليس مسرح حكاية فقط رغم شعبيته المستمدة أحياناً من نسيجه الحكائي المتقن، لكنه مسرح فيه الكثير من الروح النقدية، وفيه تحليل عميق للعلاقة بين الفرد والسلطة الحاكمة، وبين رأس السلطة وحاشيته... وهذا ما نلمسه في دراما (هالة والملك) التي تتحدث عن ثنائيات هامة ومحورية تشرّح بنية العلاقة مع السلطة الحاكمة وتقول الحقيقة، كثنائية الغنى والفقر... والعدالة والظلم... والصدق والكذب... الحب والمصلحة... ولعل كل هذه الثنائيات، تختزلها لعبة الأقنعة: ارتداؤها والاختباء وراءها ثم خلعها لتبدو الوجوه الحقيقية أشبه بالفضيحة، وكذلك آلية تبادل الأدوار والملابس أحياناً، حيث قول الحقيقة بنقيضها... كما نرى بين الملك والشحاذ... وبين هالة الفقيرة، وهالة الأميرة المنتظرة!
سيناريو الفيلم الذي كتبه منصور الرحباني بمشاركة ابنه غدي الرحباني... لم يبتعد كثيراً عن المسرحية الأصل للأخوين رحباني، وهو لم يختلف عنها كثيراً، لا في حوارياتها، ولا في بناء شخصياتها، ولا في اسكتشاتها البديعة أيضاً... والتصرف الطفيف في بعض أجواء المسرحية، كان يتم لدواعي الضرورة السينمائية، والواقع أن المسرحية في الأصل ذات مناخ فني خاص ومشبع، أي تطوير أو محاولة تعميق بعض الأفكار والقضايا يمكن أن يفسدها، لأنه سيُخل ببنيتها، ومنطقها الخاص، الذي يبدو أشبه بقانون داخلي يبرر ذاته بذاته... ولاشك أن هذه الحقيقة وعاها السيناريو، فحافظ بذلك على خصوصية العمل الأصل، باعتباره جزءاً من تراث رحباني فريد لا يتكرر.. وباعتباره على صعيد آخر- تجسيد خاص للفيلم الغنائي الذي غاب بدوره عن السينما العربية أيضاً وأصبح جزءا من تراث زمن مضى!

- استطاع المخرج حاتم علي بالاستناد إلى عمل مسرحي ملهم، وسيناريو سينمائي بسيط وشفاف، وموسيقى رحبانية آسرة وذات قدرة تعبيرية شديدة التنوع والرقي، أن يلج بمشاهد الفيلم منذ البداية نحو تأكيد الهوية الغنائية له، وإبراز خصوصيته الفنية على هذا الصعيد كذلك... حيث الاستعراض الراقص هو بوصلة رسم الميزانسين في أجزاء كبيرة من الفيلم، وحيث بينة الاسكتش الغنائي، هي الحل المشهدي حتى على الصعيد الدرامي... ولا بد أن نشير كذلك إلى أنه قد وفق تماماً في توزيع الأدوار، وخصوصاً لجهة الاستفادة من الفنان دريد لحام، في دور يبدو في البداية أشبه بضيف شرف، إلا أنه سرعان ما ينشر فاعليته الدرامية في الفضاء الدلالي للفيلم الذي يقول الرسائل الهامة والأفكار، فيبدو دريد لحام بحضوره سارق المشهد وحامل رسالته... ولا بد أن نلاحظ أن البطولة الأساسية في معظم مسرحيات الرحابنة كانت بطولة نسائية، تفصل على مقاس السيدة فيروز... نجمة هذه التجربة الفريدة... لكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مساحات هامة لأدوار فاعلة من حول هذه البطولة النسائية، كما نرى في دور الشحاذ، الذي يكاد يشبه دور المهرج في مسرح شكسبير.. وبالحديث عن البطولة النسائية هنا، فقد استطاعت مريام فارس، أن تحقق نجاحاً طيباً في ملء مساحة حجزتها ذاكرة الناس للسيدة فيروز... فقد انطلقت بعفوية ولعبت على حس البراءة حيناً والرومانسية حينا آخر... وساعدها صوتها الجميل في أن تؤدي الأغاني والحواريات... ليس بالمسحة الفيروزية الغرائبية البديعة التي كان يقولها صوت فيروز الآسر... إنما بقدر كبير من الإتقان والعذوبة... وكذلك وفق حاتم علي في تقديم الممثل اللبناني جورج خباز (شبيه الفنان دريد لحام) في دور الملك، فتألق جورج في أداء بارع، فيه مزاوجة بين الحس الداخلي والتقنية الخارجية، كما قدم الفنان إيلي شويري واحداً من أجمل أدواره هنا، واخترق الفضاء الغنائي للفيلم بجمال صوته... وحقق أنطوان كرباج حضوراً يصب في رصيد الفيلم، وجاء أداء أيمن رضا علامة نجاح محققة، ومثله حسام تحسين بك إنما في مساحة أقل، في حين بدت شخصية باسل خياط، مرتبكة الحضور درامياً، وإن اجتهد باسل في أدائها بحس رومانسي عال...

- لكن مقابل كل هذه النجاحات في اختيار الممثلين وتوجيههم، كانت هناك مشكلة في الأداء الإخراجي والمعالجة... ولا أدري إذا كانت المشكلة هي في ديكور غازي قهوجي، الاسم العريق في الفن الرحباني، أم في الطريقة التي أظهرت كاميرا حاتم علي هذا الديكور، أو تعاملت مع تفاصيله ومساحاته... فالديكور يبدو مقيداً لخيال المتفرج، ولصورة الفيلم معاً... ولو قارنا بينه وبين حل الديكور في فيلم (بياع الخواتم) ليوسف شاهين... لوجدنا أن القرية التي بنيت هناك، كانت أشبه بلعبة... لكنها كانت لعبة موحية، فيها تحطيم للنسب الواقعية، وهي تتأرجح بمشاهدها بين الواقع والحلم بلونها الوردي المسيطر... فتصبح هي الصورة المجسدة للحلم الرحباني: حلم الضيعة، حلم الحب، والأغنيات الحالمة... هنا المشكلة أن الديكور جاء هجيناً... فيه صورة ما لمدينة تبدو وكأنها فبركت لتكون مسرحا للأحداث... ليس فيها هوية معمارية آسرة، ولا جنوح حالم يدهش المتفرج ويحرك مشاعره... كأنها حل وسط لمجموعة اقتراحات، لم تبلغ غايتها... ولم تصل إلى نهايتها!
أضاف حاتم علي لهذه المشكلة، أو ربما نتج عنها... مشكلة أخرى، تجلت في كوادر ضيقة ومكتظة، كأنها تريد أن تملأ الشاشة بالكومبارس والبشر... فلم نعد نشعر برحابة السينما، واتساع أفقها، وذلك العمق المتتالي التي توحيه لنا... حين ننظر إليها في فضاء مظلم يركز انتباه المشاهد، ويدعوه لكي يتذوق جماليات العمق والاتساع... وخصوصاً حين نرى إلى علاقة الاسكتشات وأثرها على فضاء المكان ككل... لقد بدا قصر الملك مثلا... أشبه ما يكون ـ من حيث المساحة- بصالون بيت واسع... لا يشي بجلال القصور، التي هي مرتكز رومانسي في حكاية من هذا النوع... وبدت ساحة المدينة، أشبه بساحة حي، يحاول أن يمد فضاءه عمودياً بعد أن ضاق أفقياً، ولذلك غلبت اللقطات التي تمسح المكان عمودياً بشكل متكرر ومثير للضجر رغم جمالياته في البداية!
إن حاتم علي يبدو مثقل بالمرجعية التلفزيونية في عمله السينمائي هنا، ويبدو أيضاً مقيد بمساحة استوديو إما أنه بدا ضيقاً، أو أن زوايا كاميرته قد زادت من ضيقه وضيق ساحاته، حتى أصبح ينطبق عليه كلمات إحدى اسكتشات هذا الفيلم: (ساحة فوق ساحة... ضاعت المساحة)
في المجمل، لا يقدم لنا حاتم علي، اقتراحاً بصرياً ينسجم مع سحر الكلمة والموسيقى، ولا معالجة إخراجية تضفي ألقاً على الخيال الشعري والحكائي في هذه الدراما... طبعاً من دون أن ننكر حرصه التقني على إعطاء مشاهد الحركة حقها، وعلى تقديم قطعات مونتاجية فيها شيء من الطرافة والدهشة، وعلى تقديم إلتماعات مبهجة... إنما من دون أن يصل هذا كله إلى صنع مناخ متكامل في الرؤية والأداء يحاكي المناخ الرحباني... وإذا شئنا أن نوصف عمل حاتم علي هنا، فهو أقرب إلى أجواء مسرح تلفزيوني ـ ببذخ إنتاجي وتقني متطور- منه إلى عالم السينما وسحرها!
- لكن رغم كل هذا... فإن فيلم (سيلينا) سيكتسب قيمة تاريخية مع مرور الزمن لأكثر من سبب، أولها أنه يبقى تذكارا أخيرا من فن الرحابنة، وخصوصاً بعد رحيل منصور الرحباني... وثانيها أنه الفيلم الذي أعلن فيه المنتج السوري نادر أتاسي ختام تجربته الفنية ـ كما قيل- وهي تجربة تستحق كل احترام وتقدير، لأنها عبرت عن مدى احترام هذا الرجل لفن السينما، ووفاءه له في زمن سينمائي شبع احتضارا وموتاً في سورية... وهو قد وفر له هنا كل عوامل النجاح كما فعل في أعماله السابقة التي أنتجها للأخوين رحباني والسيدة فيروز، أو التي أنتجها للفنان دريد لحام والكاتب محمد الماغوط... وكانت آخر لفتات الوفاء لدى هذا السينمائي الذي لم يتعب من حبه للسينما، تجديده لصالة (سينما دمشق) العريقة، وتحويلها إلى مجمع فخم، في زمن ماتت فيه الصالات في سورية حقيقة لا مجازاً... فجاء نادر اتاسي ليحيي واحدة من أقدم وأعرق الصالات، ويقدمها هدية إلى عشاق السينما.. لأنني لا أظن أنه سيستعيد التكلفة الباذخة التي أنفقها، بالطريقة التي كان سيتمكن لو أنه افتتح ناد ليلي أو فندق... فتحية له ولتراثه السينمائي الذي يستحق الاحترام!

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...