(خليفة، روحانا، زياد الرحباني) ثلاثــة أثْــروا العــام الموســيقي

10-12-2010

(خليفة، روحانا، زياد الرحباني) ثلاثــة أثْــروا العــام الموســيقي

ستة تكاد تنقصني على مساحة المشهد الموسيقي اللبناني بما يحمله من هموم وتراجع وفوضى لا يخرقها إلا القلة القليلة من الأعمال الراقية التي تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة والتي تحمل بصمات أصحابها المبدعين الذين لا يبدو عليهم اليأس والاستسلام!
المشهد ابتدأ مع بداية السنة بعمل لبناني ـ عالمي للفنان مرسيل خليفة والذي ما زالت اوركسترا قطر السيمفوني تدور به على عواصم العالم ومدنه أوروبياً وأميركياً... وتعزفه الى جانب سيمفونية بتهوفن الخامسة وبوليرو رامارسيل خليفة فيل. إذاً كانت بداية مميزة وواعدة لهذه السنة التي ما كادت تنتهي حتى ختمها الفنان زياد الرحباني بعمله الجديد «إيه في أمل» والتي أعلنت منذ أسبوع أو أكثر متاجر «فيرجن» Virgin ان أرقام مبيعاته ستصل الى المليون نسخة مع بداية السنة الجديدة وهي أيضا خاتمة مميزة وممتازة لهذه السنة التي ظل طرفيها الممتد بين العملين قاحلاً لولا ان أنقذ الفنان شربل روحانا تلك المسافة الزمنية الفاصلة بعمله الموسيقي الجديد «دوزان».
إذا كان على المراقب الذكي ان يبحث عن الخيوط التي تجمع هذه الأعمال الثلاثة بعضها ببعض. فهو لكي يجد تلك الخيوط عليه ان يبحث في المكان المناسب الذي يقطن في شخصية هؤلاء المبدعين الثلاثة... الشخصية الفنية التي ضربت جذورها عبر تاريخه وفكره وطبيعة أعماله السابقة وخط سيرها حتى تاريخ صدور آخر أعمالهم المذكورة والتي شكلت ذروة إنتاجهم حتى تلك اللحظة في الزمن والتي ربما من تراث ما شكّل منهلاً لهم أو له ليتعاطى ابتداء منه مع مختلف فروع وعناصر العلوم الموسيقية سواء بقي تراثاً كلاسيكياً أو شرقياً ذا طابع شعبي أو تأثر بها لناحية أساليب التفكير السيمفونية أو الجاز أو لعله في مزجها معاً بما يتحمله نسيج الفكر الموسيقي الذي شكّله وتفاعل به هذه المؤلف او ذاك.
اذاً كان لا بد من توسيع هذه الأفكار ومحاولة تبسيطها للقارئ قدر الإمكان لإلقاء الضوء على هذه الاعمال الثلاثة، فقد يصح أخذ الحديث والضوء الى عنوان العمل والشخصية التي تحكمت بإبداعه بشكله النهائي... لنبدأ إذاً من بداية السنة عمل الفنان مرسيل خليفة بعنوان الكونشرتو العربي. إذا كان لا بد من البداية في العنوان اولا فمن المفيد أن نلفت النظر بأن شمولية العمل وغناه وتمتعه بعناصر جديدة مبتكرة كان يجب أن تفرض اسما آخر أكثر تعبيراً عن فحواه، فهو بالاساس كونشرتو لخمس آلات شرقية وأوركسترا سيمفوني لذلك اعتقد ان اقتراح تسمية بكونشرتو للتخت الشرقي والاوركسترا السيمفوني كان اسما أكثر واقعية لجهة ما يحمله من مضامين. أما لناحية توزعه على حركتين وبنائه من حيث الفورم أي الشكل الموسيقي فيمكن القول انه بقدر ما ابتعد عن صنمية الكونشرتو الكلاسيكي ومقاربته للكونشرتو «غروسو» con. Grosso بقدر ما قارب طبيعة موسيقى «الباروك» Barok وهي المرحلة التي سبقت المرحلة الكلاسيكية أي المرحلة التي عاصرها باخ ومعاصروه J.S. Bach.
إذاً يتقصد خليفة طبيعة مرحلة الباروك لأنها اقرب الخامات الموسيقية من حيث الطبيعة والعجينة الى طبيعة وعجينة الموسيقي العربية لناحية حساسيتها لنظام المقام اللحني. وأكثر ما يمكن تطويعه في طبيعتها الى طبيعة موسيقانا هو الكتابة الهارمونية عليها أو فوقها والتي تأخذ طابعاً سردياً أفقياً وبالتالي لحنيا ميلوديا مما يبعدها عن نظام الهارموني العمودي (حيث نكتب النوتات بعضها فوق بعض عمودياً، لتحمل طابع الـAccords) وهو ما لا يناسب موسيقانا العربية. إذاً يتقصد خليفة الكونشرتو غروسو على الكلاسيكي ليقارب الموسيقى العربية بمرحلة الباروك ويسرح في السرد الميلودي ذي الطابع السردي الساحر في تصويره لروح الشرق وتفاصيله، تأخذ الجمل الأساسية حرية ميلودية مطلقة تقابلها ائتلافاتها بطريقة بوليفونية مبتكرة بأشكال مختلفة... تارة تقارب اللحن الأساسي بلحن مماثل متأخر عنه على طريقة الفيوغ Fugue وتارة اخرى تبتعد الجمل المقابلة للجمل الأساسية عن طبعة الجملة الأساسية لتأخذ طابعاً مختلفاً كلياً عنها تأخذ شكل الكانون Canon وتارة الكونتربوان وأشكالا كثيرة يلعب فيها خليفة بشكل مثير حيث أحيانا تكون الجملتان بنفس القوة اللحنية بحيث يمكن مؤلفاً آخر ان يفصلهما بعضهما عن بعض لو شاء، لكن خليفة يمارس نوعاً من أنواع الكرم في قوة التأليف اللحني!
ـ قارب خليفة التخت الشرقي بقوة تأليف تتوازن بقدرة كبيرة على الوقوف أمام الاوركسترا السيمفوني وبلغة لحنية مقامية ممتلئة بالثلاثة أرباع صوتية وسخّر لها ائتلافات هارمونية أفقية لتخدمها في نسيج الاوركستراسيون بطريقة لا يمكن إلا ان تملأ المستمع الزكي بالدهشة والإعجاب لتلك المتانة الممتلئة ببلاغة الوصف وقوة البناء السردي لنسيج الاركسه الذي بدا المايسترو (لوران مازل) يسعى خلف أوراق السكور وكأنه أمام شيء مبتكر يجب أن لا يفوته منها شيء.
قد يصح القول دون ادنى مبالغة ان هذا الكونشرتو يحاكي في تفاصيل التأليف أكثر ما يحاكي طموحات العقل الموسيقي العربي في أكثر مفاصله حساسية وتطلبا للجرأة... وتوسع خليفة في قدرته على محاكاة نوع من الاستغراق في سرد تفاصيل اليتمة الميلودية وتوسع في كتابه ما يقابلها من توازيات لحنية مغرقة في شرقيتها... فعل ذلك بليونة أخذت دوافعها الموسيقية (motives) من نفس النسيج اللحني الذي لولا توزعه على توازن بين الوتريات والنحاسيات في أكثر الاحيان لخرجنا بانطباع أن اليتمة والموتيف اختلطا أحياناً قليلة بسحر قد لا يقبل التأويل وضاع الامر في سحر السرد الميلودي العام. وبالمناسبة هذا التعامل مع الثلاثة الارباع الصوتية بهذه التقنية الراقية في الائتلافات ليس طارئاً عند خليفة... إذ انه قارب هذا الموضوع في عملين سابقين له هما «جدل» ثم «كونشرتو الأندلس» في «جدل» كانت البداية وكانت صراعاً وانتخابا نجحا في حركة واحدة، منها ان يطوّع الثلاثة الارباع الصوتية لعملية الهرمنة إذا صح القول ثم تكررت العملية في كونشرتو الأندلس وان بأشكال اخرى لتصل العملية في الكونشرتو العربي الى الذروة حيث تعامل مع الموضوع بطلاقة وليونة واضحة ومنذ بداية الحركة الاولى الى نهاية الحركة الثانية والأخيرة ولم تتوقف العملية بل بقيت واضحة جليّة وشكلت السمة المميزة على مدار العمل... من الصعب جداً ان لا يرى المستمع أو الناقد هذا الامر أو الإنجاز الذي يضيف الى النص الموسيقي العربي أو الخطاب الموسيقى العربي الجديد ما كان يفتقده دون أن يسقط عنه أي عنصر من عناصر أصالته وانتمائه. خلال كل هذه العملية بها مرسيل خليفة فناناً ومؤلفاً موسيقياً مطمئناً وهو يروي حلمه القديم بذلك السرد الذي أنجزه برقيّ قل نظيره... هل نقول انه غدا الموسيقي العربي الاول الذي طرق باب التأليف الموسيقي الآلي بجرأة استثنائية بعد ان أبدع في مجال الأغنية ولم يتراجع ولم ينظر الى الوراء ولم يبدُ عليه أثناء ذلك الطريق الطويل الشاق لا التعب ولا اليأس ولا الملل!
كلمة أخيرة لخليفة قبل ان تغلق السنة بابها على ذلك العمل, لا بد للحلم ان يتكرس بأعمال اخرى لكن دون ان تهمل جمهور الأغنية الذي أحبك دون حساب... هذا الجمهور لا يمكن إلا ان يفرح لما تحرزه من تقدم ورقي ولكنه جمهور يتطلب وما زال يحب الأغنية وهو ينتظر عماده لك... أحدهما لك مع الراحل الكبير محمود درويش أما الثاني فتعرفه جيداً فقد غدا له في قصته شبه لإبريق الزيت... عرفته بالتأكيد؟ غنائية الجسد، أين هو؟ أليس وعد الحر دينًا؟
دوزان
العمل الثاني لهذه السنة والذي أنقذ المسافة الزمانية الكبيرة التي فصلت بين عمل الفنانين مرسيل خليفة وزياد الرحباني كان تحت عنوان «دوزان» وهو عمل شربل روحاناموسيقي مثير بمحتواه للفنان شربل روحانا. نقارب العمل من العنوان اولا ثم من شخصية المؤلف وتفاصيل المحتوى... العمل ينضح بهموم التأليف الآلي التي تحاول أن تخاطب العقل الموسيقى العربي من باب الوجدان وهو وإن كان أقصر الطرق لكنه أكثرها صعوبة للوصول وأكثرها إثارة للجدل للأسباب التي سنذكرها مع تفاصيل العمل. أما من حيث شخصية المؤلف فيبدو للمتابع لأعماله انه سائر على خط تصاعدي مميز بطموحات فنية ذات اتجاهين او مستويين.
أولاً خط عمودي له هواجس أكاديمية وتقنية تنهل من التطورات الجديدة التي تطرأ على مستويات التأليف المحلي والعربي وذات التطلعات التجديدية على المستوى الآلي.
ثانياً خط أفقي يسير على خط ذائعة جمهور الأغنية المتطورة بآفاقها الموسيقية التي تحمل هماً تجديدياً واجتماعياً سواء على صعيد لحن الأغنية او كلامها.
إذا بدأنا من المستوى الاول العمودي ذي طابع التأليف الآلي وقاربنا العمل من خلاله يمكن ان نقول ان سر جمال العمل يكمن اولا في تلك النار الهادئة التي عبرها اختمر العمل (ثلاث سنوات تم خلالها اعادة التسجيل ثلاث مرات للتأكد من عملية التوازن بين استطاعته الجمع بين الاستماع الى العمل والاستمتاع به) وهو برأيي لا يقل أهمية عن عمل مرسيل خليفة «جدل» أو يزيد رغم نصيب شربل روحانا من جدل (نصيب كبير) ورغم كونهما يمتان لبعضهما البعض بصلة القربى جينياً لكن وجه الشبه الوحيد بينهما هو في توجههما الى جمهور بعينه (النخبة). ومع ذلك اعتقد ان لدوزان طريقاً أكثر وعورة من جدل في سرعة وصوله الى المتلقى لأسباب سترد لاحقاً!
أما المستوى الثاني الأفقي الذي تسير عليه معظم أعمال الفنان شربل روحانا فهو الخط الذي يجمع كل أعماله السابقة التي سبقت «دوزان» باستثناء عمله الموسيقي بعنوان «مزاج علني». أما الحديث عن هذا المستوى فيمكن القول إنه مدوزن على ديايازون جمهور أوسع وأعرض عنيت به جمهور الأغنية النظيفة الهادفة والتي تحمل في طياتها دسماً موسيقياً لا يقل رقياً... بل يمكن القول إنه يوازي في أهميته الخط الاول وان كان في وجهه الاجتماعي قد يبدو أكثر تقبلا لان دوز doze أو معيار المتعة فيه أكبر وذو وظيفة جميلة واضحة والعرب على كل حال أكثر من ينسى أن حنجرة المؤدي أو المطرب في نهاية المطاف هو آلة موسيقية قبل أي شيء آخر!
كل أغاني الفنان شربل روحانا منذ أغنيته «غريبة» لأميمة الخليل أو أغنية «لأني أغني» لريما خشيش أو توزيعه المميز والراقي لموشح «يا غصن نقا» لتانيا صالح وصولا الى آخر أغنياته في عمله الما قبل الأخير «خطيرة» كلها أغاني تحفل بخط لحني يتوازى مع نسيج موسيقي ممتلئ لناحية الاركسة بعناصر موسيقية تحاكي هموم التأليف الآلي النظيف والذي يوازي في عمقه أكثر متطلبات التأليف الآلي وما يضفي على ذلك النسيج في بعض الأحيان رونقاً مميزاً هو قدرته على تعامله التوافقي أو الهارموني مع الثلاثة الأرباع الصوتية في بعض تلك الأغاني كما في أغنيات «لأني أغني» أو توزيعه لغناء الموشح «يا غصن نقا» أو بعض أغنيات عمل «خطيرة» على سبيل المثال لا الحصر.
يسير هذا الخط في المستوى الثاني متوازياً... بل متصالحاً مع الاعمال الآلية منذ عمل «مزاج علني» مروراً بـ«العكس صحيح» و«صورات» وانتهاء «بدوزان».
أعتقد ان شخصية شربل روحانا المثابرة في سيرها على الخطين قادرة على المصالحة بينهما لمصلحة الجمهورين لأنهما في النهاية خط واحد يوصل الى بيدر واحد من حيث الحساسية للبناء باتجاه الأفضل والأجمل بالمشاركة مع بقية المؤلفين الموسيقيين اللبنانيين الجادين للاضافة والبناء في ورشة إعادة تصويب وترشيد الحصانة الانفعالية الجديدة لأذن الجمهور خصوصاً الأجيال الجديدة منه. لكنني على قناعة بأن العمل ما قبل الأخير «خطيرة» هو الاجدى في هذا المجال من حيث سرعة الوصول الى الهدف عبر أقصر الطرق، لأنه متاح للجميع فهماً واستيعاباً وتذوقاً... الجميع كبير وصغير نخبوي ومتوسط الذائقة، متعلم وأمي، لبيب وبليد وهذا ما لا يمكن للعمل الجديد «دوزان» ان يجنيه بسهولة لنخبويته وحاجته الى المستمع الصبور والمميز بترف الثقافة وفائض الوقت والرؤية. وهل أجمل من أن يغني الجميع بحب وفرح ومتعة رغم ساحات التفاوت الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي التي تفرقهم وتباعد بينهم (8 و14) (شرقية وغربية) (مقيم ومغترب) (فقير وغني) (متعلم وأمي) أليس الفرح والمتعة الفنية والرغبات والتوق للجمال البسيط والسهل التناول هي ملكية عامة؟ أو على الاقل ألا يجب لها ان تكون هكذا؟ أليست هذه هي أحد أهم أهداف الفن النبيلة؟ وبالتحديد الموسيقى كونها اللغة الوحيدة التي يتوفر سماعها وفهمها من الجميع بينما لا يمكن تعلم أصولها إلا للقلة القليلة... فالموسيقي مهما اختلف المفكرون على تعريفها وتنوعنا في تذوق أصنافها فيبقى معترفاً بها من الجميع أن الهدف منها هو الفرح وبلسمة الجراح والتأمل بينهما... الثمار على بيدر «خطيرة» ستكون إذاً بمتناول الجميع وأجزم أن أولهم فناننا المميز بنوعية إنتاجه ومثابرته على الحفاظ على الجمع بين الاستماع والاستمتاع لدرجة انه أعاد تسجيل دوزان 3 مرات على مدة 3 سنوات... إذا كان لا بد من دلالة لهذا في عنوانه فهو حتماً «دوزان» أما في الاسم فسيكون الفنان شربل روحانا بالتأكيد.
إيه في أمل زياد الرحباني
أما العمل الأخير الذي طال انتظاره وحدث وكان مسك ختام السنة، فهو عمل الفنان الكبير زياد الرحباني «إيه في أمل» الذي أعلنت متاجر «فيرجن ميغاستورز» انها تنتظر ان تصل أرقام مبيعاته إلى المليون نسخة قبل نهاية السنة! وإذا كان لهذا الرقم القياسي من دلالة فهو الدليل على أن الجمهور الراقي موجود ويتحدى مقولة الفن الرديء القائلة بأن «الجمهور عايز كده»، فالجمهور الراقي كان موجوداً وسيبقى، وهو رغم الإحباط واستشراء الفساد والإفساد على الساحة الفنية فقد بقي وما زال راقياً ومتطلباً وله القدرة على التمييز والاختيار، ما يعني انه جمهور ذكي.. ذوّاق ومخلص، وكلما توفرت له الأعمال الراقية كلما ابتعد عن الأعمال الهابطة والمبتذلة.
أما وقد أصبح العمل حقيقة منتشرة فمن المفيد القول ان ما تم تداوله بالكتابة عنه بالصحف، خصوصاً الصفحات الثقافية لم يكن بمستوى العمل.. فهو كان إما معه اعتباطياً وبالمطلق العاطفي لناحية السيدة فيروز ـ الأيقونة وأكثر الكلام موجهاً لها وعبرها ومن خلالها وفوقها وتحتها... وكأنها هي من تختزل الأمور بكل تفاصيلها وصعوباتها من الألف إلى الياء وكأنهم لا يدركون أنها رغم كونها قلب العمل والصوت الذي يُفرج عن مكنوناته، إلا ان عقل العمل وفكره وأنسجته فمع الفنان زياد.. أما الكتابات الاخرى فكانت ضده بالمطلق وتناولت موضوع الكلام وهو رأي مبتور واستنسابي.
إذاً بما ان لب الموضوع هو مع الفنان والمؤلف زياد الرحباني إليه نتوجه مباشرة وبلا مواربة وتزلف وحواجز وأقنعة لنقول له حرفياً وبالفم الملآن.. أنت لست بحاجة إلى كلام الإطراء والمديح.. فهو لا يقدم ولا يؤخر.. حسبك ان مشروع الأخوين رحباني استمر بعد رحيلهما وتَعَصْرن عبرك رغم أنف المحافظين الجدد والقدامى.. حسبك ايضا أن فيروز كأيقونة أو كآلة موسيقية عبرت من خلال مشروعك الموسيقي الخاص بسهوله نسبية إلى الاجيال الجديدة ومنهم للأسف وبمفعول رجعي إلى آبائهم وأجدادهم بسحر ساحر! وهذان الأمران ليس سهلا كما يعتقد العوام تحقيقه، ولا تُخفى أهميتهما على اللبيب كما على البليد!. لكن هناك كلام حق يجب أن نقوله لك بشجاعة وعليك ان تتقبله بشجاعة أكبر، وهو كلام متعدد الوجوه، أهمه.. انك رغم تميزك بإمكانيات كبيرة ومتنوعة على الإبداع المفتوح على (التأليف، التلحين، الأركسه، التجديد على أكثر الكلاسيكيات كلاسيكية والتنوع والإضاءة عليها بعصرنة واحترافية عالية مثيرة للجدل والفطنة والمكر والكثير الكثير من الحب والكوميديا الراقية وكأن شيئا ما من نبض الشارع وجمال الحياة وقسوتها وهموم الناس.. لا يفوتك ترجمته بما يوازيه من جهوزية الإبداع الموسيقي) أقول رغم تميزك المذهل بكل هذه الإمكانيات بخيل على جمهورك رغم كونك من أهل الكرم! إذا بدأنا من العنوان أعتقد ان العمل الجديد كان يجب تسميته بـ«إيه في كسل» فهو رغم كل مظاهر الجمال والإبداع الواضحة فيه فإنه تأخر كثيرا أولا ثم إنه ليس أهم مما قبله وما قبل قبله وما قبل قبل قبله.. هذا ثانيا، والمقارنة واضحة لمن له القدرة على إعادة سماع أعماله السابقة للحكم.. ثالثا، فإذا ما قارنا بين إمكانياتك التي تميزك والتي تحدثنا عنها أعلاه وبين وتيرة صدور أعمالك وبين حجم جمهورك الكبير والموزع على الأماكن (شرقية غربية) والأرقام (8 و4) والقارات (الموزعة بين بلدان لبنان والمهجر بدون البنك طبعاً)...
أقول إذا ما قارناها جميعاً بعضها ببعض عندها أعتقد أنك لا بد واقع في ورطة لا تُحسد عليها! لذلك أريد أن أذكرك وأذكر من يدعي في الموسيقى معرفة ان ما تفعله في الموسيقى وتتركه فيها من بصمات متفردة هي برأيي باقية ولوقت طويل أولاً، ولا يمكن ثانيا لأحد آخر القيام به بهذه النوعية والقدرة والخصوبة بينما الوقت الذي تدعي انه ليس ملكك بل للسماع هو نفس الوقت الذي تصرفه في أدغال الصحافة والاعلام والكتابة وضواحيها ويستطيع أي صحافي واعلامي عادي القيام به أفضل منك وربما بكثير! مع الاعتذار على الوقاحة التي يفرضها الضمير المهني لمن يدعي الصدق وملجئي هو عند عفوك المهني أيضاً. في المسرح الأمر مختلف، فلك فيه باعٌ طويل رغم ابتعادك عنه وفي شعر الأغنية فالباع أكبر وأطول وآخر الأغاني في عملك الجديد كانت من الجمال ومتانة الصورة الشعرية وتصويرها للواقع المعيش والمفروض وبطريقتك المحببة والكوميدية التي تخفف من قسوة الواقع لناحية السخرية الايجابية التي تعطي المستمع دفعا إيجابياً للمواجهة.. كلها لا تشذ عن قاعدة الابداع.. وهل هناك موسيقي محترف يستطيع ان يؤلف في عمل واحد كل الكلمات بصورة شعرية مفصّلة على تقنية الشعر والموسيقى بهذا الرقي؟ كلها موجودة في «قال قليل» «قصة صغيري» «كل ما الحكي» «الله كبير» «إيه في أمل» وغيرها. أما نصيب الموسيقى المجردة فكان قطعتين، الأخيرة كلاسيكية الطابع فيها من قوة التعبير ما يهتم بتطوير الجملة الأساس إلى تثويرها بتوزيع حساس لكنه قوي متين وشامل..
اما القطعة التي يجب الكلام عنها ببعض التوسع فهي القطعة التي تحمل عنوان «ديار بكر» والتي تحمل تأثيرات كردية كما تأثراً بإحدى أغنيات سيد درويش وقد لا يستقيم الحديث عنها بموضوعية بدون التطرق إلى الأغنية التي سبقتها كرونولوجيا أي «ما شاورت حالي» ورغم انه برأيي كان من الممكن إبعادهما عن بعضهما البعض لأسباب وجيهة لكن لتركهما خلف بعضهما أيضا أسباب وجيهة ايضا وايضا! وهنا وجه الطرافة كيف يلعب زياد أحيانا على المتلقي بذكاء محاولا ان يداعب الخيال ويطرح عليه احتمالات مفتوحة تذكرني كثيرا بأسلوب أنطون تشيخوف في كتابة القصة القصيرة على طريقة النهايات المفتوحة، أما من أين لي بهذا الشبه فهنا بيت القصيد.. ففي أغنية «ما شارت حالي قبل ديار بكر» تكون البداية واضحة جلية في بداية سرد الموضوع الموسيقي على أساس إيقاع 4/4 أو 4/4 مجوز يمكننا أن نختار أحدهما خصوصاً أنهما من الإيقاعات البسيطة ولكن إذا ما تابع المستمع الذكي حساب الإيقاع إلى آخره فسيشعر في بعض أماكن العمل بأن نبض الإيقاع قد تغير نوعاً ما ليخرج بانطباع وشعور بأنه انكسر في بعض الضواحي ولمن يريد اختبار ما أقول أقترح عليه ان يعيد السماع على نبض آخر لإيقاع 3/4 و5/4 عندها لا بد انه سيفهم شرعية هذا الاقتراح.
أما بالنسبة لموقع القطعتين مباشرة بالتتالي أي الأغنية قبل القطعة الموسيقية الآلية الشعبية الطابع والعميقة الآفاق اللحنية فهو إذا كان مقصوداً كون الأغنية ابتدأت فجأة بالكلام وبدون أي مقدمة موسيقية مما يبعث على بعض الغرابة لذلك، وقبل ان نجد الإجابة يتساءل المرء ألم يكن أفضل ابعادهما بعضهما عن بعض، خصوصا ان ريفران الاغنية عند منعطف «يا ضيعانو» تحول فجأة في القطعة التالية «ديار بكر» إلى موتيفها الموسيقي motive ليتم التقسيم عليه تباعا بتدرج تصاعدي وبعده آلات بشكل مختلف ومبتكر.. مما يعطي المستمع انطباعاً بأن زياد يمارس عليه نوعا من المداعبة الهادفة إلى إثارة تساؤلاته. وخياله.. فإذا كان لزياد الحق بهذه المداعبة الجميلة والماكرة فإن للمستمع المتلقف لمداعباته ان يعيد الكرة إليه بحق تغيير العنوانين إلى «ما شاورت بكر» والثانية إلى «ديار إلى ما بتشاور» لأن المسافة والحدود بين الريفران والموتيف سمحت لهما بالتسلل ليلا تحت جنح الظلام لتقطيع الحدود بين الأغنية والقطعة الموسيقية بدون فيزا وعلى البسبور اللبناني مما يستوجب مداعبة السيد بشير صفير في مقالته في جريدة الأخبار عن الجيوش التي وصفها في تلك المقالة وهي تحرس تلك الحدود.. ربما كان وضع هذه الجيوش مشابهاً لجيوش اليونيفيل في جنوب لبنان التي تستعد في ما تستعد لمواكبة ايقاعات القرار الظني الرحباني الذي قطعه زياد كرونولوجياً بوضع ملتبس للأغنية قبل الموسيقى أولاً وللإثنين خلف بعضهما البعض مباشرة ثانيا دون ان يفكر بقدرات محكمة النقد الدولية!
في نهاية هذه المقالة لا بد من التنويه بأن هذه هي الأعمال الثلاثة التي وصلتنا إلى بلجيكا خلال هذه السنة وكان حولها وعنها كلام كثير دار حول عمقها ونوعيتها... فإذا حدث وصدر قبل نهاية هذا العام عمل لم نسمع به أو يصل إلينا فلا بد حتما من الاعتذار من صاحبه أولاً ومن الجمهور ثانياً.

عمار مروه

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...