حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (10)

18-06-2007

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (10)

رن, فجأة, جرس الباب, رنة خفيفة, غير متوقعة, من مارغريت وغبريلا, وإن كانت متوقعة إلى حد ما من الدكتور انداش تكاتتش, الذي امتد, على غير عادته, في نقاشه, مع زوجته وابنته حول أميركا وأشياء أخرى تتعلق, إجمالاً بآرائه وما فيها من فلسفة ماكرة, حسب تعبير السيدة ما رغريت أو كلام على الحركة والسكون اللذين يروقان ولا يروقان الجميلة غبريلا, لغموضهما بالنسبة إليها, وعزة نفسها التي تمنعها من الاستفسار حولهما, رغم أنها, كي تنسى (هذا الوغد ايهم) سبحت في لجتهما, خلال شرودها الطويل, فكانت على اتفاق مع والدها حول الشرق, والرجل الشرقي تارة, وخلاف حول العصر الصناعي, وأثره في تشكيل الوجدان, وتغير الزمن تارة أخرى!‏

وعندما رن جرس الباب, رنة خفيفة أخرى, ارتبكت غبريلا, وكشرت مارغريت, وقال الدكتور انداش:‏‏

- ظني أنه أيهم الذي يسكن فوق.‏‏

صاحت غبريلا:‏‏

- لا تفتح له, هذا المعتوه!‏‏

وقالت مارغريت, هذا المعتوه! ماذا جاء به بعد أن طردناه؟ حقاً إنه قليل الحياء!‏‏

قال انداش :‏‏

- أنا الذي طردته, وأنا الذي هتفت له كي يأتي بعد الطرد.. لذلك سأفتح له.‏‏

هتفت غبريلا:‏‏

- تفتح له وأنا على هذه الحال؟‏‏

- ادخلي غرفتك وخذي زينتك, لا لأجل والدك, وإنما لأجله أيتها الماكرة!‏‏

فتح الدكتور انداش الباب فلم يجد أحداً, ولم يجد أية بطاقة,أو أية علامة, تدل على الطارق, وعندما أغلق الباب وعاد إلى مجلسه, نادت السيدة مارغريت ابنتها:‏‏

- اخرجي يا غبريلا, إنه ليس هو, راكب حقيبة سفره هذا.‏‏


 
‏‏

شعرت غبريلا بالخيبة, فالذي كانت ترفض دخوله لم يدخل, والذي قالت امها إنه قليل الحياء, بدا على حياء جم, انصرف لأنهم تأخروا في فتح الباب له, فخيل إليه أنه إنسان غير مرحب به, وهذا واضح جداً, وهذا تصرف لائق حتى من رجل شرقي, يعتز برجولته, فماذا تفعل؟ تكمل زينتها؟ تتوقف عنها؟ تأسف للذي حدث؟ تعتبر الموضوع كله, أحد ألاعيب الوطواط هذا!؟‏‏

ماذا يا أبي؟ قال الأب:‏‏

- إنه هو, وبدلاً من نقاشنا المموج, كان علينا أن نبادر إلى فتح الباب, منذ الرنة الأولى, على كل حال تابعي تشيكك, وسأهتف له بعد قليل فنعرف الخطأ من الصواب.‏‏

-أنت ترى هذا؟‏‏

- نعم! أنا أرى هذا!‏‏

- لكنه وضعنا مرة أخرى في موضع حرج, يشكل إهانة أخرى!‏‏

- الإهانة ممن ولمن؟ نحن الذين أهناه.. رن جرس الباب فلم نفتح له,ورن مرة أخرى فلم نفتح, يكسر الباب ويدخل !؟ لا ! سلك سلوك الإنسان المتحضر انصرف إلى مسكنه, إذا كان هو الذي طرق الباب علينا, نقاشنا المعيب, حول فتح الباب أم لا, كان في غير محله, ودائماً مع الأسف يكون نقاشنا في غير محله, لأننا نحب الثرثرة.. هذا كل شيء.‏‏

لحظات ورن الهاتف, تناول الدكتور انداش السماعة وقال:‏‏

- ألو, من المتكلم؟‏‏

جاء صوت فيه رقة وتهذيب:‏‏

- أنا أيهم؟ رننت الجرس مرتين دون موعد سابق, وهذا خطأ مني... يبدو أنكم في جلسة عائلية, فوجدت من اللياقة أن أصعد إلى شقتي, حتى أتيح لكم الوقت الكافي, والمناسب لاستقبالي.. بعد ربع ساعة سأتشرف بزيارتكم.‏‏

قال انداش لزوجته وابنته:‏‏

- إنه هو, وظني الحسن فيه كان في محله, ترك لنا فسحة من الوقت, كي نكون في الموضع الذي يسمح لنا باستقباله معتذراً لأنه جاء دون موعد سابق, مع أنه كان هناك موعد سابق, فقد دعوته بنفسي وقلت له.. طردتك تنفيذاً لأوامر عليا, والآن انتهى الطرد, بناء على أوامر عليا أيضاً, هذا هو, إنني أعرف رنة الجرس الخفيفة على الباب, التي يتميز بها.‏‏

دخل أيهم, حاملاً الورد الأحمر, قبل يد السيدة مارغريت, قبل خد السيدة غبريلا, عانق الدكتور انداش عناقاً حاراً, قال مازحاً:‏‏

-أين كأس الويسكي الذي لم أكمل شربه؟‏‏

قالت غبريلا:‏‏

- شربته نيابة عنك,كعقاب على تصرف خاطئ!‏‏

قال أيهم:‏‏

- ها قد جئت, وأصلحت الخطأ, فماذا بقي؟‏‏

قال انداش:‏‏

- أن نشرب نخب الخطأ, وإصلاح الخطأ, في وقت واحد.‏‏

شربوا, تبادلوا الحديث, بدت غبريلا مشرقة, سعيدة, على قدر من حسن التصرف, ومن المجاملة ومن الوله, الذي تبدى حمرة في وجنتيها, أزال عنهما أثر الشحوب من جراء القهر, والبكاء ولعنة الحظ السيىء, التي ظنت أنها تلازمها, وتفسد عليها هناءتها, حين تكون هذه الهناءة, في متناول يدها, أو هي أدنى ورغم أن الجو المرح, الذي أشاعه والدها كان كفيلاً بأن تكون حاضرة, فقد كانت, للحظات, غائبة, متسائلة في ذاتها: هل أثق في هذا الرجل الشرقي, أم أبقي على تخفظي تجاهه؟‏‏

أأفتح له قلبي, أم أبقيه مغلقاً؟والدي قال لي: أنت تحبينه يا غبريلا, أما هو فإنه يفكر في هذا الحب, والحب, مع التفكير, لا يكون الحب ضربة قدر, ويبدو أنها أصابتك, قبل أن تصيبه, ولكن لابأس, فالذي يضحك أخيراً, يضحك طويلاً.. أبي يضع ثقته في أيهم, وأبي صاحب تجارب, يصعب معها على أحد أن يخدعه بسهولة, لكنني, أنا, غير مطمئنة بعد, فكيف أسلك, على خط مستقيم, سلوك من لايميل, عن هذا الخط, إلى يمين أو يسار؟ إنه زائر الآن, راكب حقيبة سفره هذا, الذي أدهشني في تقلبات مزاجه, بين سلب, وهو الأكثر, وإيجاب وهو الأقل لكنه الآن ضيفنا, ولن أكون وضيعة في إكرام الضيف, كائناً من كان!.‏‏

رفعت كأسها وقالت:‏‏

-نخب العزيز أيهم,جارنا الشهم, الذي وقف إلى جانبنا, ضد المجرم غابور مولينار, الذي أراد الاعتداء علينا!‏‏

قال والدها:‏‏

- هذا نخب يشرب, وخصوصاً بالنسبة إلي, أنا المحامي المسخر, لمتهم فقير الحال!‏‏

وقالت السيدة مارغريت:‏‏

- انتظروا, يا أحبائي واسمحوا لي, أنا التي قلبها رمانة لؤلؤ, أن أشرب, جرعة واحدة, من البالنكا مشروبي المفضل.‏‏

وقال أيهم:‏‏

-استأذنكم, أنا المجنون الوحيد بينكم, أن أتصرف بطريقتي المجنونة, فأضع في كأس العزيزة غبريلا, هذا الخاتم الذهبي, الذي أحجاره من الماس, وهو أقل ما يليق بها..‏‏

سقط الخاتم في كأس غبريلا,ترسب في القاع الضحل للويسكي المثلوج ,وقال الدكتور أنداش:( يكيش ايكدري) وحتى الثمالة,باستثناء السيدة مارغريت,التي وعدتنا بجرعة واحدة من البالنكا الفاخرة,جرعة صغيرة جدا.‏‏

صاحت غبريلا وهي تلتقط الخاتم,من قعر كأسها:‏‏

-انظري يا أماه,انظر يا أبي,أية تحفة هي هذا الخاتم الثمين, شكرا وقبلة أيها المجنون أيهم؟,واعذروني إذا صرت أحب المجانين أكثر من العقلاء.‏‏

قال الدكتور انداش‏‏

-هذا الخاتم له مقابل...مرافعتي عن المتهم أيهم لم تذهب هدرا,والفقه القانوني يقول:الجزاء على قدر الفعل!‏‏

وقال أيهم وهو يضع الخاتم في أصبع غبريلا,ويتبادلان القبل:‏‏

-الآن, وحسب الوعد,علينا أن نتوجه إلى مطعم فندق ريجنسي,فقد حجزت لهذه الليلة السعيدة,مائدة فيه.‏‏

قال الدكتور أنداش:‏‏

-هل أفهم من هذه الدعوة المشكورة,يا عزيزي أيهم,إنك ستخطئ ثانية,وأنا علي أن أترافع عنك ثانية,كمحام مسخر,لإنقاذك أيها المجنون,من جنونك الذي لا شفاء منه؟.‏‏

قالت غبريلا:‏‏

-دعه,يا والدي,مجنونا كما هو,فأنا أريده,كما رأيته لأول مرة,غريبا,ساخرا,مدعيا أنه إنسان غير عادي! فقد مللنا العادية,في الطعام,والشراب,والحب أىضا!.‏‏

على العشاء,جلس الدكتور أنداش في صدر المائدة,على يمينه غبريلا وأيهم,وعلى يساره السيدة مارغريت,في تناسق عائلي,تشيع الغبطة في الوجوه,وتأتلق في النظرات,والنادل ينتظر,بلباسه الرسمي,أوامر السيدات والسادة كما قال,مع توزيعه البروتوكولي,لقوائم الشراب والطعام,المذهبة أطراف الغلاف.‏‏

قال الدكتور أنداش:‏‏

-سأتابع تناول ما بدأت:الويسكي ما رأيكم أن نشربه جميعا,حتى نسكر جميعا,وفي وقت واحد,وعندئذ يتكفل بوليس المرور بنقلنا إلى مساكننا,في سيارة الشرطة المعروفة من قبل كل أصحاب السوابق!.‏‏

ابتسم النادل لطرافة كبير العائلة,قال أيهم وهو يتوجه إلى السيدة مارغريت:‏‏

ماذا تشرب سيدتي؟‏‏

قال الدكتور انداش:‏‏

-أي مشروب عدا البالنكا..ما رأيكم بالفودكا؟.‏‏

قال أيهم:‏‏

-هذا اقتراح جيد كأس من الفودكا الذي يبعث على الانتشاء والسرور,أما السيدة غبريلا فإنها تفضل الجن مع التونيك,الذي أفضله أنا!.‏‏

قال الدكتور انداش:‏‏

-نعم يا عزيزي,غبريلا تفضل الجن,لأنك تفضله أنت هذه عقلية الرجل الشرقي التي لا تتبدل, إنها أوامر عطيل يا ديدمونة!.‏‏

صاح أيهم:‏‏

-اعتذر ! اعتذر!‏‏

قالت غبريلا:‏‏

عطيل وديدمونة!؟ أنت لا تريد اخافتي يا والدي أنت تمزح كعادتك.‏‏

قالت السيدة مارغريت:‏‏

-( فينراج) ( انتبهي) غبريلا أنت لست ديدمونة,لكنه,هو,عطيل,الذي يخنق على الشبهة.‏‏

رفع الدكتور انداش كأسه وقال:‏‏

-نخب عطيل وديدمونة والسيدة والدتها,التي تقوم بدور ( البادي غارد) بالنسبة لصغيرتنا الجميلة.‏‏

دقوا الكؤوس,بعضها ببعض,شربوا النخب ضاحكين,اكتشف أيهم أن الدكتور انداش ماجن من النوع الرفيع,نديم على الشراب لا يجارى,مثقف من العيار الثقيل,وإن عليه أن يكون صاحيا,يقظا,يتكلم,إذا تكلم,باختصار,وإلا فسدت الأمور.‏‏

بعد عدة انخاب,قال الدكتور انداش بحرية كاملة,لبقة ولكن خطرة:‏‏

-أنت,يامضيفنا الكريم,أصبحت تعرف عنا كل شيء,فماذا عنك أنت؟ تحدث إلينا قليلا,وبغير كلفة,لأننا أصدقاء وأهل.‏‏

قال أيهم:‏‏

من أين أبدأ,من جلوسي على حقيبة السفر,كالوطواط في الظلمة,أم من أبعد من ذلك؟إنني أردني الجنسية والمولد,مات أبي وأنا صغير بعد,فانتقلت بي أمي,إلى لبنان,لأنها لبنانية الأصل,وهي خياطة بارعة,اسمها سميحة...وقد اشرفت على تنشئتي وتعليمي,حتى حصلت على البكالوريا بقسميها,وعندئذ سعت لإرسالي إلى بودابست,حيث درست الكيمياء,ونلت الدكتوراه فيها,ووجدت عملا في المغرب,كمدرس لهذه المادة في جامعة الرباط,ثم في جامعة كازابلانكا,التي اشتهرت في الحرب العالمية الثانية كمدينة فيها عملاء لكل الدول المتحاربة...ان الدار البيضاء هذه جميلة,مكثت فيها سنوات,وكنت مولعا بالسفر منها إلى طنجة,مدينة الأسماك بكل أنواعها,وفيها أعلى منارة,كنت ارتقيها إلى الذروة,ومنها أطل على اتصال البحر الأبيض المتوسط,بالمحيط الأطلسي,ولما جمعت ما يكفي من المال,تحولت من التدريس إلى التجارة,والباقي تعرفونه.‏‏

قالت غبريلا بدهشة:‏‏

-ياللرحلة الطويلة!‏‏

وقالت السيدة مارغريت:‏‏

-أفهم من هذا أنك جوال آفاق؟.‏‏

وقال انداش:‏‏

-مغامر من النوع الذي يعرف من أين تؤكل السمكة,ومن أين تفسد أيضا!‏‏

-هذا ذم أم مديح؟.‏‏

ضحك الدكتور انداش وقال:‏‏

-هذا سؤال تعرف جوابه مسبقا, قل لي:هل يعقل أن نذمك ونحن ضيوفك؟‏‏

كان عليك أن تسأل:( هل تحبونني أم تكرهونني؟) وفي الجواب تمهل علينا قليلا أنامن جهتي,أحبك,ولكن ماذا ينفعك حبي؟ ومارغريت قد تكرهك,ولكن ماذا يضيرك هذا الكره؟ أنت,من الداخل,تفكر بغيرنا,وهذا الغير يراك غريب الأطوار,وقد اقتنع أنك رجل غير عادي,كما سمعنا اليوم,ومن خرم الإبرة هذا نفذت إلى قلبه,لأنه,أو لنقل لأننا,كرهنا جميعا العادية,هذه الآفة التي تبعث على السأم,على الملل,على الرتابة والضجر إنما هناك جانب آخر للمسألة,هذا الجانب لا يحتاج إلا إلى قليل من الذكاء,تعرف ما هو؟.‏‏

-ما هو؟‏‏

-غير العادي,في الرجال والنساء,يكون غير عادي في الحب,يشتعل بسرعة,وينطفئ بسرعة...وبغتة يدير ظهره,فالنار,بين الأصابع,لا تدوم طويلا!‏‏

قال ايهم:‏‏

- لنشرب, يا اعزائي, قليلاً أيضاً, ونمرح قليلاً أيضاً, فالمقام في هذه الدنيا, حسب شاعرنا المتنبي, قليل, وعلينا ألا نضيعه في الكلام على أجناس الملائكة, أو انحراف الجسر المعلق على الدانوب, في بدايته, حفاظاً على كنيسة أثرية, أحد شعرائكم يقول, وهو على حق: (ايتها المرأة الغالية, إذا تغنى الناس بجمالك, فلأنهم في عيني يرونك) انني اعكس هذا القول الرائع, لأشير إلى أن الناس يرون لاعاديتي, في عيني عزيزتي غبريلا.. نخبكم جميعاً..‏‏

صفقت غبريلا والدكتور انداش, وأضاف ايهم:‏‏

- إذا لم تخني ذاكرتي, فإن هذا الشاعر هو بيتوفي.. لنشرب نخب بيتوفي, ارجوكم!‏‏

قال الدكتور انداش:‏‏

- أنت لا تريد أن تسكرنا أيها الصديق.. أليس كذلك؟‏‏

- ولماذ نشرب إذن؟ ثم أنت يا كبيرنا, لا يؤثر فيك الشراب, بشهادة افلاطون الذي قال: (لا شيء يخرج من لا شيء) الويسكي, بالنسبة إليك, لا شيء, أما أنا, بغرابة اطواري, فإن الجن, بالنسبة إلي, كل شيء, لأنه يعربد في كف غبريلا الجميلة, وإذا عربدت الراح في كفها, فإن علينا, أدباً, ألا نكون الصاحين, ونحن ننهل منها.‏‏

هتفت غبريلا:‏‏

- جميل! رائع, زدنا منه, نزدك من الجن, ولندع الموسيقى تصدح, حتى يعربد عصير باخوس في أكفنا جميعاً!‏‏

قالت السيدة مارغريت في سرها (سيأخذها هذا الشيطان, الليلة, إلى سريره!), واعطى الدكتور انداش هذه الشهادة:‏‏

- ايهم يعرف كيف يكون عاقلاً, على طريقته, ويعرف, أيضاً, كيف يكون مجنوناً على طريقته.. يبدو أنه من المعجبين جداً بعمر الخيام, فهل يحفظ شيئاً من رباعياته؟‏‏

سألت السيدة مارغريت:‏‏

- من هو عمر الخيام هذا, وماذا يشتغل؟‏‏

أجاب انداش:‏‏

- قواداً يا سيدتي!‏‏

وفرقع الضحك على المائدة, بقهقهات عالية, لفتت الأنظار, وأشار ايهم إلى النادل, أن يملأ الكؤوس, وقال:‏‏

- عمر الخيام, يا سيدة مارغريت, شاعر فارسي, ترجم أحمد رامي رباعياته إلى العربية, وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم.. هل سمعتم غناءها؟ وهل اطربتكم؟ قالت غبريلا وهي ترفع كأسها:‏‏

- في صحة بيتوفي, أو ذكراه, وفي صحة عمر الخيام, وأم كلثوم, وفيروز اللبنانية, وايهم الاردني, وانداش المجري, وهيغو الفرنسي وغوته الالماني..‏‏

قاطعها والدها:‏‏

- وكل العباقرة, والذين يجلسون على حقائب سفرهم في الظلمة!‏‏

قالت السيدة مارغريت:‏‏

- نعم! أنا أشرب هذا النخب, الذي يذكر بما يجب أن ننساه.. من يراقصني منكم متطوعاً؟‏‏

قال ايهم:‏‏

- أنا!‏‏

وقال انداش:‏‏

- وأنا أرقص مع هذه (العجوز) غبريلا, لأنه لم يبق غيرها.‏‏

رقصوا الفالس, ثم التانغو, ثم الروك, وعندما عادوا إلى الجلوس على المائدة, تقدم منهم رجل تبدو ملامح الشر والخبث في عينيه, ومن كل هيئته تتمظهر الرثاثة والدناءة وحال التشرد, التي ادمن عليها منذ زمن طويل.‏‏

- يواشتيت كيفانول.. هل تسمحون لي بالجلوس إلى مائدتكم؟‏‏

قال ايهم بجفاء:‏‏

- من أنت؟‏‏

- سل عني السيدة مارغريت؟‏‏

- ولماذا أسألها؟ تستطيع الجلوس, إذا كنت ستلتزم الأدب, رغم أنك قليل الأدب, باقحام نفسك علينا... أن اندرياش زولتان, وأنا ايهم قمطور, الساكن في الطابق الأعلى.. ماذا تشرب؟‏‏

- الفودكا!‏‏

- كأس واحد من الفودكا.. مفهوم؟ كأس واحد وتذهب من حيث أتيت! أنا صاحب الدعوة, وأنا من أشار إلى الذين وراءك كي يدعوك تجلس!‏‏

التفت اندرياش إلى الوراء, كان اثنان من حراس الفندق وراءه, وقف وقال لهما:‏‏

- يواشتيت كيفانوك.. أنا جائع, وجئت لتناول عشائي, في ضيافة هذا العربي الكريم.. لي اصدقاء من العرب, كرماء جداً, والسيدة مارغريت تعرفني جيداً, أليس كذلك يا سيدة مارغريت؟‏‏

قال ايهم:‏‏

- لا علاقة لك بأحد من الذين على هذه المائدة.. اشرب كأس الفودكا جرعة واحدة, وإليك بهذه الفورنتات, تسد بها جوعك حيث تريد!‏‏

- أنا سمعت عنك أشياء.. لماذا تتكلم معي بهذه اللهجة الآمرة؟‏‏

- لأنني آمر حيث أكون.. ها قد شربت كأس الفودكا, وخذ هذه النقود وغادرنا..سرفوس!‏‏

تناول اندرياش الفورنتات, نهض وحارسا الفندق لا يزالون وراءه, انحنى وقال:‏‏

- فيسون لا تاشرا.. سنلتقي أيها العربي, هل سمعت عني؟ وهل تعرف من أنا؟‏‏

- نعم سمعت, وأنت قملة! انصرف!‏‏

غادر اندرياش برفقة حارسي الفندق, حاول التلفت إلى وراء, ليقول شيئاً, لكن حارسي الفندق سحبوه بعيداً, وقال ايهم:‏‏

- شكراً لكما.. دعاه يخرج دون أن تضرباه.. دخل بهدوء, فليخرج بهدوء, ولنتابع نحن سهرتنا.. إلي بكأس صغير من البالنكا.. وفي صحة الأم العزيزة مارغريت!‏‏

عقب شرب النخب, قال ايهم:‏‏

- أقسم أن هذا الاندرياش سيبول في سرواله الليلة, لدينا نكتة تقول: (جاء الخوليكان (الرقيع) ليجلس في القهوة, فجلس في الشاي!) أما هذا المتطفل علينا, فإنني سأعامله كما كان يعامل السلطان عبد الحميد زبائنه.‏‏

قالت غبريلا:‏‏

- وكيف كان يعاملهم؟‏‏

- يجلسهم بلطف على الخازوق؟‏‏

-الخازوق من حديد؟‏‏

- لا! من الخيار! شن شن.. في صحة الخازوق والخيار وقرن الثور الاسباني هل تروق لكم قرون الثيران الاسبانية, التي احبها القديس همنغواي؟‏‏

قال انداش:‏‏

- والقديس نيقولاي أيضاً!‏‏

صاحت السيدة مارغريت:‏‏

- لا! القديس نيقولاي شفيعي!‏‏

- والقديس تيودوراكس؟‏‏

قالت غبريلا:‏‏

- هذا شفيعي أنا!‏‏

- ومارتيمورلنك؟‏‏

قال ايهم:‏‏

- هذا شفيع جنكيز خان!‏‏

وقالت السيدة مارغريت وهي ترسم الصليب:‏‏

- يوزش ماريو! هل نحن في كنيسة؟‏‏

قال انداش:‏‏

- لا! نحن في بار جميع القديسين..آمين!‏‏

حنا مينة

المصدر: الثورة

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (9)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (8)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (7)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (6)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (5)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (4)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (3)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (2)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (1)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...