حقوق الإنسان بين مرجعيتين حديثة وإسلامية

28-05-2011

حقوق الإنسان بين مرجعيتين حديثة وإسلامية

تطالعنا الكثير من المؤلفات التبجيلية الإسلامية التي تؤكد أسبقية الإسلام في مجال حقوق الإنسان، لتصل إلى نتيجة مفادها: أن المسلمين لا يحتاجون لحقوق (حديثة)، إذ يكفيهم استرجاع الحقوق القديمة المنصوص عنها في القرآن الكريم والسنة الشريفة. ثم يمزج آخر بين الاثنين، فيضع مفاهيم حقوق الإنسان في الإسلام، في المكان نفسه الذي تشغله الحقوق المنبثقة من الثورة السياسية الأوروبية الحديثة.

في المقابل، فإن المثقف الحداثوي، والمثقف الإسلاموي ينطلقان من موقف واحد ليصلا إلى استنتاجات مختلفة: فكلاهما يشدد على وجود قطيعة منهجية جذرية تحكم المقارنة بين مفاهيم حقوق الإنسان في الإسلام، وما تطرحه حقوق الإنسان في المرجعية الحديثة. ويؤكد الطيبي «إن هناك نزاعاً بين رؤية للعالم متمركزة حول الإنسان، ورؤية متمركزة حول الله، فالقانون الحديث - بما فيه قانون حقوق الإنسان ـ إنما هو نتاج المشروع الثقافي للحداثة، نتاج إنشاء مبدأ الذاتية، أي الرؤية المتمركزة حول الإنسان». وفي المقابل يذهب الإسلامي راشد الغنوشي في الاتجاه نفسه :» الميثاق العالمي لحقوق الإنسان قائم على أولوية الإنسان، وقيامه بنفسه مصدراً لكل حق وتشريع في حين يؤكد التصور الإسلامي ارتباطها بالتعالي.. إن الحقوق هنا تغدو واجبات مقدسة لا حق للعبد المخلوق أن يتهاون فيها».

ويمكننا ملاحظة التباين بين تانيك المرجعيتين بالرجوع إلى وثائق حقوق الإنسان الإسلامية التي أصدرها «المجلس الإسلامي الأعلى» من منظمة اليونسكو في 19 أيلول (سبتمبر) 1981. وديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية 1789. ففي الأول تنبسط الحقوق الإنسانية كواجبات دينية، بينما ينطلق الثاني من مبدأ المصلحة العامة، والتطلُّع إلى خلق شروط إنسانية أفضل على المستوى العالمي، وهي بمجملها دوافع مصلحية براغماتية، تضاف إليها أهداف مثالية: الحرية والكرامة.

والصعوبة هنا، لا تأتي من التأكيد على المرجعية المختلفة، إنما تأتي من الإنكار المتبادل لقيمة حقوق الإنسان التي يدعو إليها كل طرف. فيتم تجاهل التاريخ، والنسبية التاريخية في هذا المجال. إنكار التيار الحداثوي لوجود بذور لحقوق الإنسان في الإسلام، يقابله إنكار مقابل لقيمة الحقوق المعاصرة من قبل التيار الإسلاموي. ورجال الدين المسلمون بموقفهم هذا، إنما يلتقون مع موقف رجال الدين المسيحيين. فالكنيسة الكاثوليكية لم تقبل التوقيع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 بسبب تجاهله لحقوق الله. وانتظرت حتى عام1961 لكي تقبل التوقيع على هذا الإعلان، في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين.

لكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فلا مناص من الإقرار بوجود «أصول» لحقوق الإنسان في الإسلام وفي الديانات الأخرى. وهذا يتفق مع ما استقر عليه رأي أكاديمية علوم الأخلاق والسياسية في باريس، إذ أكدت بعد نقاش طويل استخدام مصطلح «الأصل» أو «الأصول» les-origines للتعبير عن الروابط المشتركة لحقوق الإنسان المعاصرة مع النص الديني الإسلامي في مجال تلك الحقوق.

ويوكد محمد اركون وجود «براعم أولى لحقوق الإنسان في الإسلام» أو «نقاط ارتكاز صلبة، يمكن الانطلاق منها لمحاورة الفكر الأوربي والتفاعل مع تجربته التاريخية» ويمكن القول إن هذه»الأصول» يمكن العثور عليها في النصوص الكبرى الإسلامية، وتشكل ملامح مهمة أساسية تشير إلى حقوق الإنسان في كثير من مجالات الحياة. ولعل من المفيد - عند المقارنة - أن نزين المسافة التاريخية التي تفصل زمن انبثاق الوحي الإسلامي (القرن السابع) عن زمن الحداثة. فالحق مفهوم متطور في رحم الثقافات المختلفة، ويعبّر عن ترتيب البناء الاجتماعي، والأخلاق والقيم السائدة، في المقابل هناك حقوق مجردة شبه طبيعية ترتبط «بالطبيعة الإنسانية» ذاتها، ثم أن حقوق الإنسان الراهنة ما هي إلاَّ تتويج لتجربة الثقافة البشرية، على قاعدة الإنجاز التاريخي للثقافة الحديثة.

لقد سجل الخطاب القرآني، والحديث الشريف بداية انبثاق المكانة اللائقة المعطاة للشخص البشري المخلوق على صورة الله، والمدعو للتشبُّه به، بعد أن استخلفه على الأرض. فأُزيل الطابع الأسطوري عن العالم واستُبدل سيناريو البعث الدوري للعالم، بسيناريو جديد يعطي القيمة الكبرى للأحداث الإنسانية باعتبارها تجسيداً للوحي، أو لإرادة الله في التاريخ، بعد أن صار البشر خلفاء الله. هذه التجربة من الوعي التاريخي المرتكز على الإيمان والمسؤولية الفرديين أمام الله، تستدعي تكاتف الجهود من أجل التلاقي مع إرادته المتعالية.

إن الحقوق، كما تعرضها المرجعية الحديثة، لم تكن من الأشياء «المُفكر فيها» أو «القابلة للتفكير» عند المسلمين، في ظروف القرن السابع، ولكننا نجد نصوصاً وإشارات إلى الإنسان وإلى دوره الكوني والأخلاقي تشكل بذوراً ونوى حقيقية لحقوق الإنسان المعاصرة. فالمدونة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن المسيحية، سجلت انبثاق المفهوم الروحي الأخلاقي للفرد، وانبثاق الشخص الأخلاقي الذي يحمل مفهوم الرسالة الروحية التي يقع مركزها في الضمير، وأكدت القيم العليا للفرد الذي لا تخضع علاقته بالله لأية وساطة، وإن لم تؤسس الضمانة الحقوقية والمؤسسية الكافيتين لترسيخ تلك الحقوق باستثناء عدالة السماء. صحيح أن هناك ما يميز مفهوم «الشخص الأخلاقي» عن مفهوم «المواطن» المتمتع باستقلالية قانونية في الدولة الدستورية الحديثة، إلاَّ أن مهمة الترقية الروحية للفرد تمنح الحقوق «التعاقدية» ضمانة أخلاقية أكثر عمقاً، لقد بشَّر الإسلام بالمساواة والإخاء الإنسانيين، وبشر بوصايا كبرى للإنسانية: لا تقتل، لا تكذب، لا تقترف الزنا، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. وكلها وصايا تشكل ضمانة مطلقة لصيانة الحقوق التعاقدية للمدنية الحديثة. فالدين كما يقول هانس كونغ: «يزود الإنسان بأسمى المعايير في أمور الضمير التي هي القاعدة غير المقيّدة بشروط. معيار مطلق وقاطع، ومع ذلك، هو في الوقت نفسه قابل للتطبيق في أوضاع بالغة التعقيد». لقد طور الإسلام مفهوم المساواة الأخلاقية، وأضاف إليها المساواة الشرعية «وشكل ثورة اجتماعية سياسية واجهتها أوربا كتحدٍ كان رجعه الأخير النهضة الأوربية الحديثة، التي اعتمدت في النهاية المساواة السياسية، التي شكلت القاعدة الضامنة للمساواة التي نشرها الإسلام، وبشرت بها المسيحية، فأصبح الفرد له الحق بالمشاركة السياسية، بعد أن كان في الإسلام من اختصاص أهل الحل والعقد».

شمس الدين الكيلاني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...