بين التقدم والحفاظ على الهوية

10-10-2009

بين التقدم والحفاظ على الهوية

كنت أتأمل ربما للمرة المئة خلال السنوات العشر الماضية، مفارقات ونقائض التفكير الإسلامي الجديد بشأن صون مستلزمات وأعراف الهوية الثقافية، في زمنٍ يغصُّ بالقضايا الكبرى التي لا تحظى بالاهتمام نفسه في الوعي العامّ. وما احتجتُ لكثيرٍ من العمل في البحث عن وقائع، فقد اندلعت مسألة «النقاب» على خلفية تصرفٍ لشيخ الأزهر، كما اندلعت مسألةُ «الاختلاط» بمناسبة افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا. جاء تأملي لمسألة الهوية في مواجهة مسألة التقدم بمناسبة كتابة بحثٍ عن «المدنية والحضارة في أفكار المسلمين في القرن العشرين». وقد تبين لي أن المفكرين المسلمين كانوا يتحدثون عن «المدنية» في مطلع القرن العشرين، وفي أذهانهم أنها صناعةٌ لأمةٍ من الأمم لها مكوناتٌ وشروطٌ وسُنن، وأن من اتبع السنن - بحسب التعبير القرآني- بلغ التقدم وتجاور التأخر. ثم انقلب الأمر بدءاًَ بعشرينات القرن العشرين وثلاثيناته، فما عادت الإشكالية في الوعي الديني العام، كيف نتقدم، بل كيف نصون هويتنا الخاصة ونحافظ عليها. ومع الوقت صار «التقدم» في الأذهان ذا معنىً غربي، وأن المطلوب التخلص من الغرب كله، إبقاءً على حضارتنا وهويتنا الذاتية، التي علت فوق كلِّ اعتبار. فبدلاً من بلوغ درجة «المدنية»، صار واجباً التشبثُ بأُفق «الحضارة» التي تعني المسائل الرمزية والثقافية وحسب. وقد اعتنق الإسلاميون الجُدد هذه المقولة، وصارعوا لتثبيتها في الأخلاد والتصرف بكل سبيل. ولا نزال نغرقُ في هذا الاتجاه الذي يُثير معارك كل يومٍ على الرموز والعادات المتعلقة بالهوية الدينية والثقافية بشكلٍ عامٍ، وبالمرأة وأشكال لباسها وتصرفاتها على الخصوص.

تدور المسألة إذاً بعد غياب الاعتبارات الأولى عن الوعي والأذهان على قضية «الحرام» في الدين، وطرائق تجنب الوقوع فيه بأيّ ثمن. والمفروض أن رجال الدين أو العلماء هم تقليدياً حُرّاس الدين والهوية الدينية ورموزها. لكنهم في التجربة الإسلامية ليسوا حُرّاس «الحرام». فالفتاوى في العادة هي لتمكين الناس من التصرف في حياتهم اليومية، ويقع المحظور في ما وراء الحدود، أي في ما يتجاوز «النصاب» الأعلى للحياة العامة وليس الخاصة. لكن الاضطراب داخَلَ مهمات رجل الدين أو العالِم كلها في الأزمنة المعاصرة. ويرجع ذلك الى أن الإسلاميين الجدد دخلوا مُنافسين له في المجالات كلها، ودخلوا باتجاه التشدد والرمزيات. ولأن الأمر اضطرب على العلماء التقليديين، وعلى مرجعيتهم، فقد اضطربت فتاويهم إذا صح التعبير. فقد كان هناك من تشبث بالمهمات التقليدية، أي تسهيل الحياة والتصرف على الناس، باعتبار ان الدين ليس في خطر، وكذلك الأخلاق. وكان هناك من زايدَ على الإسلاميين المتشددين ليحتفظ ببعض المرجعية وببعض الشعبية بين الجمهور المتديِّن. ولكلا الفريقين اعتباراته واصطلاحاته الفقهية. فالفقيه المُصَرُّ على مهماته الأولى يضع الأمور تحت خانة القاعدة الشرعية التي تقول ان جلب المصالح مقدم على درء المفاسد. والعقائدي المتشدد يضع تشدده تحت القاعدة القائلة إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وفي أزمنة الأزمات فإن «التحريم» أو الإنكار يأتي من باب «سدّ الذرائع». وهكذا فإنه حتى المتشدد يعترف بأن الاختلاط أو كشف الوجه ليس حراماً في الأصل، لكنه مظنة حصول مفسدة، فالأَولى اللجوء الى تحريم الاختلاط، وفرض النقاب. لكن فقهاء الإصلاح، يذهبون الى أن الزمن زمن فتنةٍ ومحنةٍ للأمة في المسائل العامة السياسية والاقتصادية والموقع في العالم، وليس زمن ضعفٍ للدين وشعائره ورسومه. وتقديمُ الاعتبارات الرمزية والشعائرية حيث لا حاجة اليها ديناً وعُرفاً، فيه قدرٌ كبيرٌ من تفويت المصالح، دونما فائدةٍ تُرجى في درء المفاسد.

والواقعُ أن هذا «النصاب» في النقاش بين اعتبارات المصالح والمفاسد، إن كان كافياً مبدئياً في المجال الإسلامي الخاص، فإنه ليس كافياً في مجال العلاقة بالعالم، وإن لم يكن مفتقراً للملاءمة. فنحن عندما كنا ولا نزال نناقش الأوروبيين - والفرنسيين على الخصوص - في كراهيتهم للحجاب والنقاب واصدار القوانين بشأنهما، كنا نحتج عليهم بالحريات الشخصية، والحقوق الثقافية والدينية للأفراد والجماعات. وأذكر نقاشاً دار مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في منزل الرئيس الشهيد رفيق الحريري بباريس على خلفية صدور قانون في البرلمان الفرنسي عام 2004 منع الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة. وقد استخدمتُ فيه حُجج الحريات الشخصية، واستخدم هو حجة التقاليد العلمانية الفرنسية. وعندما وصل النقاش الى لحظة صمتٍ متوتر، قال شيراك: أنا كاثوليكي متديّن، وأحبُّ لباس الراهبات، وهو أشدّ ستراً وتغطيةً من غطاء الرأس لدى المسلمات. لكن يا صديقي، هناك ميلٌ عامٌّ يتعاظم لدى الفرنسيين والأوروبيين الآخرين ضد المسلمين بعامة وضد المغاربة خاصةً بسبب كثرة عددهم، واصرار مجموعات منهم على الخصوصية وعدم الاندماج. ومصلحة العرب والمسلمين الاستراتيجية أن يحصل الاندماج، وأن يتضاءل التمييز، وهذه ضرورةٌ لكم. ومضى شيراك قائلاً: إن التمييزيين سيجدون أعذاراً أُخرى لمنع المسلمين من الاستقرار والاندماج، مثل منافسة اليد العاملة الفرنسية، ومثل الإرهاب. لكن في كل الأحوال عليكم أنتم بعقولكم وثقافتكم ومعرفتكم بأوروبا منذ قرون، أن تنظروا الى المصالح الأعلى والأبقى!

وهناك مستوىً ثالثٌ من مستويات التأمل في هذه المسائل الشائكة، وهو مستوى العلائق بين السلطات والمؤسسة الدينية في المجال العربي والإسلامي. وكنتُ قد ذكرتُ في دراسةٍ تتبعتُ فيها أشكال العلاقة بين الطرفين في القرن العشرين، أنه كانت هناك ثلاثة نماذج للتعامل: الضغط الى حدود الإلغاء، أو الإبقاء والتقوية والاستتباع، أو الحيادية المتوترة أو المنفتحة. وقلت إن النموذجين الأول والثاني أَضرّا بالمؤسسة الدينية التقليدية، وأفضيا الى تقوية المتمردين من الإسلاميين الجدد. لكن من جهةٍ ثانيةٍ فإن النظر في المآلات، يدفعُ لتأمل الأمر من جانبٍ آخر هو جانب المؤسسة نفسها. ففي التجارب التي حدثت، ما كان رجالاتُ المؤسسة يدافعون في الغالب عن أمورٍ كبرى تتعلق بالدين بالفعل أو بالمصالح العامة. بل كانوا ينصرون أو يدافعون عن أمور تتعلقُ بمصالح خاصة أو عادات وأعراف تفصيلية، لا تقدم شيئاً للدين، وقد تُخلُّ بالمصالح الكبرى للجمهور أو للأمّة. وكما سبق القول، فإنه في العقود الأخيرة، كان الدافع من جانب العلماء للتركيز على هذا الأمر أو ذاك منافسة الإسلاميين الجدد على الشعبية وعلى المرجعية. والذي أراهُ وبكلّ مسؤوليةٍ أنه في أغلب حالات التصادم أو الاختلاف، فإن السلطات كانت تشدّد على الغايات والأهداف والمصالح العامة، بينما كان رجالاتُ المؤسسة لا يرون غير الأدوات والوسائل دونما اعتبارٍ عاقلٍ ومتبصرٍ للمصالح. وما نحتاج اليه اليوم وفي المستقبل التأكيد على المصالح، والتفكير المشترك في الوسائل والأدوات المؤدّية الى تحصيلها دونما مزايداتٍ ولا افتئات.

كنت أدرّس في عام 1990 بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة صنعاء. واليمنيون لا يملكون الموارد لفصل البنات عن الشبان. والبنات كلهن منقبات. وفي مادة الثقافة الإسلامية، يجتمع لديَّ كل طلاب السنة الأولى في كلية الآداب وعددهم ألفان، بالقاعة الكبرى بالجامعة، قاعة جمال عبدالناصر. وقد تزاحموا مرةً على مدخل القاعة الضيّق، بحيث سقط عشرات الطالبات والطلاب على الأدراج، وشاع التوتر، وتدخلت الشرطة. وعندما وصلت الى منبر القاعة، والأجواء لا تزال مشحونة والضجيج يُصم الآذان، كان لا بُدَّ من كلمة مُهدئة تمكنني من بدء الدرس. واخترت الهروب، فقلت بالمايكروفون: إنه ليس من العدالة في شيءٍ أن يقتصر الأمر في التنقب على البنات، والذي أقترحُه فرض النقاب على الشبان أيضاً، بحيث لا يرى أحدٌ أحداً! فضحك الجميع، وبدأتُ الدرس.

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...