بلا «وجع رأس»

04-09-2009

بلا «وجع رأس»

لا ترغب المحطّات التلفزيونية العربية، الفضائية والأرضية، في إنتاج برامج خاصّة بالتسلية تمتلك شروطاً ثقافية سليمة. ترى أن التردّي والسطحية أسهل إعداداً، ما يعني انهما أربح مادياً/ إعلانياً. تجاهد من أجل لا شيء، وتأبى البحث عن الإفادة. لا وقت لديها للتثقيف، ولا مال تنفقه على الجدّي. تذهب إلى المسلسلات الدرامية (غالبيتها محتاجة إلى تأهيل إبداعي جذري، في المضمون والشكل والمعالجة وتنفيذ التقنيات المتفرّقة) وبرامج «توك شو» سياسي أو فني (تشبه الواقع المزري الذي تُقيم فيه شعوب ومجتمعات)، وإن كلّفها الأمر كثيراً؛ لكنها لا تجد في الثقافة الجادّة مصدر غنى مادي لها، هذا إن لم تنظر إليها شزراً، لأنها مكلفة وإيراداتها خاسرة بمقاييس العمل التلفزيوني العربي. لا مبالغة في هذا، علماً بأن هناك أعمالاً تلفزيونية قليلة تحتوي على مضامين مهمّة، وترتكز على اشتغال حرفي جيّد. غير أن خطورة المسألة كامنةٌ في غلبة التردّي والتسطيح على البرمجة.
تتكاثر برامج التسلية في شهر رمضان، لأن الصائمين يسهرون الليل منتظرين موعد السحور، ما يعني أنهم محتاجون إلى كل ما يُسلّي، مفضّلين الابتعاد عن «وجع الرأس»، أو هكذا يُخيّل لمدراء المحطّات التلفزيونية وبرامجها اليومية. و«وجع الرأس» هذا ناتجٌ من مسلسل جدّي ومليء بحكايات وحبكات مشوِّقة (بالمعنى الإبداعي للكلمة)، أو من «ألعاب» و«تسالي» قد تُقدّم ربحاً مالياً ما. لا مشكلة إزاء برامج التسلية، لأن الفنون البصرية عامة قابلةٌ لهذا النوع العادي والسهل من الأعمال. غير أن المأزق الخطر كامنٌ في الغياب الكامل للتتمة المطلوبة للتسلية، أي للمقابل الثقافي. بمعنى آخر، لا ضرر تلفزيونياً في إشباع غريزة المتلقّي؛ لكن، لا ضرر أيضاً في أن توازن إدارات المحطّات التلفزيونية بين التسلية البحتة (المسطّحة غالباً) والتسلية المفيدة، مع أن هناك من يُطالب بتغليب الثانية على الأولى. فالمحطات التلفزيونية الغربية مثلاً تبثّ هذا الصنف من البرامج العادية، لكنها منتبهة في الوقت نفسه إلى أهمية إتاحة مجال واسع أمام شريحة أخرى من المتفرّجين، ترغب في برامج منتمية إلى المعادلة الطبيعية بين التسلية والإفادة، أي إلى برامج ثقافية بحتة، أو إلى برامج للتسلية تُدخل أسئلة جدّية في مسابقاتها «التسلوية» الطويلة.
لا تقتصر أزمة برامج التسلية العربية على المضمون المسطّح. هناك ملاحظات عدّة تُساق في هذا المجال، بدءاً من الأسلوب المعتمد في تقديمها، والمذيعين/ المذيعات المختارين لإدارتها، ومدى إدراكهم فحوى الأسئلة المطروحة، وكيفية نطق الأسماء العامة والخاصّة (ناهيك عن نطق الجمل بالعربية الفصحى، وهو غالباً ما يكون سيئاً أو خاطئاً، لغةً وقواعد)، والعلاقة القائمة بين المذيع/ المذيعة والمُشاهد، بالإضافة إلى سلوك مشاهدين ينتشون عند سماعهم أصواتهم مبثوثة على الشاشة الصغيرة، فيتصرّفون بالطرق كلّها المغايرة لأبسط قواعد الإطلالة التلفزيونية. وهم، بهذا، لا يختلفون أبداً عن سياسيين منصرفين إلى الشاشات الصغيرة لتنفيس احتقان ما لديهم، أو لتسطيح مسائل عامّة. ذلك أن بعض مقدّمي هذه البرامج يميل إلى غنج أنثوي فاقع لا علاقة له بجمالية الإغراء السوي، أو إلى محاولة ذكورية باهتة وفاشلة لإثارة مناخ ضاحك يتناقض والمنطق الكوميدي السليم؛ ولا يتردّد بعضٌ آخر عن تحديد الإجابات الصحيحة علناً على الهواء مباشرة، أو عن استخدام «ميوعة» لفظية وحركية لحثّ المُشاهدين على الاتصال.
لا شمولية في هذا الرأي، بل محاولة خفرة لتبيان معالم درك آخر بَلَغته محطّات تلفزيونية عربية كثيرة، مقيمة أصلاً في انحطاط مجتمعي وأخلاقي وإنساني عربي خطر.

نديم جرجورة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...