انعطاف الكنيسة الكاثوليكية نحو العالم المعاصر خلف نزاعات لم تنتهِ

23-10-2012

انعطاف الكنيسة الكاثوليكية نحو العالم المعاصر خلف نزاعات لم تنتهِ

القول إن المجمع الفاتيكاني الثاني أدى إلى مصالحة الكنيسة الكاثوليكية العالمَ المعاصر، على ما أشيع وشاع، ينطوي على بعض المبالغة. فالمجمع، كما أرى، فتح أبواب الكنيسة الموصدة على العالم المعاصر وقضاياه وحاجاته. وملاحظة أن الكنيسة، منذ الثورة الفرنسية، أضمرت العداء أو جاهرت به للحداثة على العموم، صحيحة. ولعل الرسالة البابوية «سيلابوس» التي نشرها البابا بيوس التاسع في 1864 على مثال تعريفات أبجدية، قرينة واضحة وصريحة على هذا العداء: فالرسالة تدين 180 «خطأ» لصيقاً بالحداثة أبرزها الاشتراكية والشيوعية والليبرالية. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تعاظم التصلب الكنسي، وبلغ أشده في الأعوام الأخيرة من ولاية بيوس الثاني عشر، وإعلان الحبر الأول إدانة الرهبان العمال (وهم رجال كنيسة احترفوا العمل في المصانع تقرباً من الطبقة العاملة والكادحة) في 1954. هذا التصلب كان مرآة خوف من رسوخ بعض أشكال الانخراط في القرن أو الحياة الزمنية والمدنية وتبني معاييرها وأحكامها. ويترتب على الانخراط وتبني الأحكام والمعايير إضعاف مكانة الكنيسة، وإبطال دورها، وإهمال الجذور الدينية للعلاقات الاجتماعية. وينبغي ألا نغفَلَ أثر اضطهاد الكنيسة بلدان شرق أوروبا (الشيوعية) في انكفاء الكنيسة الكاثوليكية. وهذا ما تنبه إليه بعض الكاثوليك من كل الدوائر والمراتب، وهم قلة، وجهروا بالحاجة إلى انفتاح الكنيسة على العالم المعاصر.

ومهدت الطريق إلى المجمع حركات سبقت انعقاده بـ3 عقود، في ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته وخمسيناته، وحصلت في مجالات متفرقة. وأثمرت هذه الحركات بذوراً حيَّة عمَّمت فكرة تحديث الكنيسة وتجديدها وحملها على احتساب حاجات العالم المعاصر (وهو ما عُرِف بـ «الأجيورنيمانتو»). ولدى انتخاب يوحنا الثالث والعشرين إلى كرسي البابوية، في تشرين الأول (أكتوبر) 1958، انبرى البابا الجديد إلى المهمة. وكان عليه في بعض المسائل الإقدام على ما لم يكن يحلو للكنيسة الإقدام عليه. فهي كانت شديدة التحفظ عن المسكونية، وتريد لها وحدها الصدارة على الكنائس المسيحية الأخرى، البروتستانتية والأرثوذكسية، وفق المجمع. واضطلع الأساقفة، مجتمعين، بدور ضئيل وهامشي. ومعظمهم كان في ضوء أمانيهم التي أعربوا عنها في 1959، على نهج محافظ. فكيف انقلب الأمر، وتولى جمهور من المحافظين والتقليديين قيادة عمل مجدٍ، مسألة أقرب إلى الأحجية المستغلقة. أما مناوئو المجمع ومعارضوه فرأوا في الانقلاب من المحافظة إلى التجديد مؤامرة من نمط ثوري، قادها فريق صغير من الأساقفة الألمان والفرنسيين والهولنديين.

أقبل أساقفة المجمع على أعماله ومناقشاته ونصوص توصياته إقبال الراضي بالامتحان وغير الممتنع عنه. فشهدت وقائع المجمع تحوّل عدد كبير منهم وانتقالهم من رأي إلى آخر. فكان المجمع مدرسة تأهيل أثمرت لاهوتاً معاصراً ومجارياً العصر وقضاياه ومشكلاته، وشجّعت على نقد ذاتي قلما عرفته الكنيسة ومجامعها. وأذنت خطوات بعض الأساقفة، منذ اليوم الثاني، بمفاجأة كانت الأولى من جملة مفاجآت. فحين كان على المجمع مباشرة أعماله وفق برنامج أقرته أمانة سر الفاتيكان، وقف الكاردينالان ليينار الفرنسي وفرينغسن الألماني، وأعلنا رفضهما التقيد بالبرنامج وبنهج العمل المقترح. ودعا الأسقفان البارزان زملاءهما إلى المناقشة وليس إلى الموافقة.

ولم تتستر توصيات المجمع وقراراته على الانعطافات التي أدت المناقشات إليها. فأحد أبرز النصوص يتناول علاقات الكنيسة بالعالم المعاصر، ودارت عليه أكثر مناقشات اللجان ومحاوراتها حدّة، وهو نص لم تسبقه مناقشات تمهيدية. والمجمع ألزم الأساقفة بالمناقشة وحملهم عليها حملاً. وهو ينبه في مقدمته إلى انتظارات الحياة المعاصرة ويسميها «علامات الزمن». ولا يفهم النداء هذا حق الفهم إلا في إطار الستينات (من القرن العشرين) والحماسة التي استخفت المجتمعات الغربية وغير الغربية مع مجتمع الاستهلاك والملاحة الفضائية وتظاهرات الثقافة، والتفاؤل الذي غلب على توقعات الناس وآمالهم. وقد يبدو هذا التفاؤل اليوم ساذجاً، لكن النص لا يخلو من قوة إيحاء قوي وعريض. فهو ينشد كنيسة في خدمة الإنسان، تتخفف من الامتيازات، وتضطلع بمهمة الاقتراح والدعوة وتقتصر عليها.

فكان هذا النص فيصلاً في المناقشات، وانقسم الآباء المجمعيون مؤيدين ومنكرين معارضين، ولا تزال هذه هي الحال إلى اليوم. ومثل آخر على الانقسام هو الأعمال التاريخية التي درست النصوص المسيحية الأولى وفسّرتها، وأثارت المراتب الكنسية... فهذه الأعمال ارتأت أمانة الفاتيكان إهمالها وإغفالها على رغم اشتراك بعض كبار اللاهوتيين وألمع الباحثين الكنسيين في إنضاجها وتقدمها. فلم يرضخ فريق من الآباء لرأي الأمانة وتقويمها. وماشى البابا الفريق هذا. وأثمرت المناقشات مدونة أو «دستوراً» هو «داي فيربوم»، لعله أكثر نصوص المجمع تجديداً وابتكاراً... وترتبت على الأبحاث اللغوية والحفريات والدراسات المقارنة قراءة غير حرفية.

لكن الانعطاف الكبير تولى نصان التعبير عنه، تناول الأول مسألة علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية، وعلى الخصوص اليهودية، والآخر عالج الحرية الدينية. فقبل المجمع لم يتصدَّ أسقف واحد لإدانة معاداة السامية، أو تجرأ على إثارة المسألة اليهودية. ولم يكن أحد تنبه إلى علاقات الكنيسة والمسيحية عموماً بالديانات الأخرى. وبادر يوحنا الثالث والعشرون، بعد لقاء جمعه إلى جول إيزاك، رائد الصداقة اليهودية – المسيحية، وطلب إلى آباء المجمع مناقشة المسألة، ومراجعة التعليم الكنسي ونهجه في تناول اليهود، والرأي اللاهوتي في اليهودية. فطوت الكنيسة صفحة لاهوت الاستبدال (الكنيسة هي بديل شعب إسرائيل الذي حل عليه غضب الرب) إلى لاهوت البنوة. ودعا الأساقفة الشرقيون إلى تحاشي قصر المسألة على تناول العلاقة باليهودية، وشمول الديانات الأخرى، خصوصاً الإسلام، بالانتباه.

وكان النص الذي عالج مسألة الحرية الدينية تخطى إرثاً تاريخياً ثقيلاً لابسه التعصب في معظم الأحيان. والتوصية التي تطرقت إلى المسألة اليهودية، وعلاقة المسيحية بالتاريخ والمعتقد اليهوديين، أثارت مناقشات وخلافات هي أشد مناقشات المجمع ولجانه حدة وانفعالاً. فبعض الغلاة لم يُطق الرجوع في عقيدة الكنيسة التقليدية في مسألة المسيح وتبرئة اليهودية من مصيره ومآله الدنيويين. وحمل هؤلاء الغلاة الحرية الدينية على النسبوية. وهذه النصوص رفضها غلاة الأصوليين الكاثوليك، وأبوا قبولها والإقرار بها عقيدة محل العقيدة المنسوخة.

وتذرّع غلاة الأصوليين إلى رفض العقيدة الجديدة وأحكامها. ولم يمتنع المطران الفرنسي الذي انشق لاحقاً عن الكنيسة، المونسنيور لوفيفر، من قبول التوصية الليتورجية والتعديلات التي أقرتها، وأولها استعمال اللغات الحديثة، غير اللاتينية، في إحياء الشعائر والمراسم... فاللغة المتداولة في القداس تخاطب المؤمنين مباشرة، وتنهض قرينة ملموسة على ترك اللاتينية التقليدية. وحين استجاب يوحنا بولس الثاني ومن بعده بينيديكتوس السادس عشر (البابا الحالي)، جزئياً لمقترحات الأصوليين في شأن الليتورجيا، فأعادا الاعتبار إلى اللاتينية وإحياء القداس بها، لم يتخلَّ الأصوليون عن إنكارهم التجديد في العقيدة، وأقاموا على انشقاقهم.

واليوم يقول الكاثوليك كلهم، على اختلاف آرائهم وشيعهم، إنهم «مَجْمعيون». والإجماع هو ثمرة التباس التأويل. والمجمع تذرع به تأويلان متناقضان: الأول فهم أصحابه التوصيات والنصوص تكيفاً مع العالم المعاصر وأحواله ومنازعه، وهم غالباً ما يستشهدون «روح» المجمع ويصدفون عن حرف نصوصه. ويصدر أصحاب هذا التأويل عن إدانة ما كانت عليه الكنيسة قبل المجمع، وعن الثورة على السلطة التي انفجرت في 1968، غداة المجمع. ويعتقد هؤلاء أن فاتيكان – 2 يسوغ التجديد على أشكاله وصوره كلها. وأصحاب التأويل الثاني، وفي مقدمهم بينيديكتوس السادس عشر «فهموه في ضوء التراث» الكنسي القديم. ويميل البابا الحالي، وهو أحد لاهوتيي المجمع البارزين، إلى التقليل من شأن التجديد الذي بادر إليه الآباء والأساقفة، وإلى إنكار الانخراط في العالم المعاصر واحتساب حاجاته والإقرار بمشروعيتها. وأنصار هذا الرأي يقولون إن المجمع الكنسي ليس هيئة تأسيسية تحل دستوراً محل دستور فات. والمعيار ليس الحداثة بل الحقيقة. وسبق لرأس الكنيسة الحالي أن ذكر بأن التفاؤل المجمعي غفل عن أن الرجاء المسيحي ليس التعويل الدنيوي على التقدم التقني وحقوق الإنسان، ويتخطى الخلاص الطبيعة والخليقة إلى الخالق. ويقود هذا إلى تمسك الكنيسة بأحكامها ومعتقداتها في شأن الأسرة والزواج والحياة (الحمل والولادة والموت). فلا ينبغي توقع «تطور» في آراء الكنيسة في هذه المسائل.

 

 فيليب شينو- عن «لوموند» الفرنسية

اعداد منال نحاس- المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...