المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (5)

30-05-2007

المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (5)

يكمن سر المتنبي أولاً، في قوته الشعرية الاستثنائية، في طاقتها المدهشة وجموحها وتدفقها. هنا يكمن سر أسراره وفرادته التي كانت جوهرياً هي الأساس في صنع أسطورته وتعميمها على هذا النطاق الواسع الذي لم يحظ أحد من أقرانه الكبار بمثله، وإن تقاطعوا معه في الموهبة الفذة وعلو الهامة الشعرية.

من هذا المنطلق الشعري الذي غذته التفريعات والوقائع الحياتية والتاريخية الملتبسة التي زادت بالطبع في ذيـوع صيـته وشهـرته، دافـعـة إيـاه الى هذا الأفق الأسطوري الايقوني أكثر من غيره، إضافة الى كثرة اللغط واختلاف الآراء النقدية الكثيرة حوله.

حياته المليئة التي تختلط فيها الوقائع بالخرافات والأحلام التي لم تتحقق على مستوى طموحات المكانة والمجد من خارج الشعر ومجده وسلطته، على رغم وعيه انه الأبقى من الأباطرة والدول، لكن الشعر ظل كأثر يخترق الأزمنة والأجيال والأماكن المختلفة، نبع هذه الأسطورة وفحواها، حتى ولو كانت تلك الوقائع والخرافات التي أحاطت بشخصه وحياته وبصلاته بأصحاب الحكم والأمر، في مرحلة شهدت أفول الإمبراطورية العربية في شكل مأسوي مدوٍ.

ربما هال الشاعر هذا الأفول وهذا التشظي والانحطاط الذي آلت إليه أحوال الأمة، فدخل في استيهامات الطموح والسلطة والنفوذ. وربما رأى في سيف الدولة الحمداني بقايا كرامة وضوء فشكل له المثال الأرضي المفتقد، في أمة هذه حالها، فتوحد المادح بالممدوح على ذلك النحو الشعري الآسر والعميق.

قصيدته الملحمية على سبيل المثل في واقعة «الحدث الحمراء» التي خاضها سيف الدولة، هي ربما من القصائد الخالدة، في تاريخ الشعر البشري برمته، حتى ملاحم الإغريق الشهيرة ستحتاج الى إسنادات كي تستطيع أن تجاري هذا العلو والإعجاز النادرين.

تلك الملحمة التي توزعت فيها المعارك على جبهات شتى، جبهة اللغة بما تنتج من الدلالة والمعنى، الزمان والمكان، البطولات، كلها تنصهر في أتون تلك الملحمة التي تتوحد فيها اللغة الشعرية بالحدث والمعيش توحد الموت بالحياة في ذلك المشهد المتلاطم الرهيب.

مديحه المبالغ فيه لنفسه صادر من نفس نرجسية متعالية، وعودنا الكثير من الكبار على هذه النرجسية حتى في العصر الحديث (نيتشه) مثلاً. وسبق للويس عوض أن عمل مقارنة في هذا المجال بين الشاعر العربي والفيلسوف الألماني: إنها «أنوية» المبدع وليس غيره، وإن أسفّت أحياناً في ردود فعل عابرة مع الخصوم.

هذا فضلاً عن أن أشكال المديح والهجاء ليست من الصفات المذمومة في معايير تلك الأزمنة، وهي صارت كذلك مع بزوغ الأزمنة الحديثة و «ميلاد الإنسان الحديث»، فلم يعد باستطاعة شاعر حقيقي أن يتصور أن ثمة شعر مديح لحاكم أو دولة مهما كانت قوتهما.، إلا من بعض الكسَبَة أو الكتَبَة. أبو العلاء المعري الشاعر ذو المنحى الفلسفي العدمي غالباً، يقول عن نفسه «وإني وإن كنت الأخير زمانه... لآت بما لم تستطعه الأوائل».

طموح المتنبي أو سعيه الى مناطق النفوذ والسلطة في غير الحالة الخاصة لسيف الدولة لا شك جره الى مواقع لا تليق بمكانته، وجره الى شعر ضعيف في الكثير منه لأنه لم يصدر من أعماقه الروحية وسحيق نفسه القلقة المعذبة، بل قيل لأهداف محددة سلفاً. هناك قصائد كثيرة في هذا المجال لا تختلف عن مديح الآخرين عاديةً وتداولاً وربما تبقى مطالعها وتورياتها مثل مديح كافور «كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً».

وحين ارتد المتنبي على كافور كان هجاؤه القاسي أقرب الى التعبير الإبداعي الشعري من مديحه، لأنه يعود الى عرينه الأساس، التمرد والنقمة على المحيط والعالم.

كتب الكثير شرقاً وغرباً وقيل الكثير عن مالئ الدنيا وشاغل الناس. فالأسطورة التي اكتنفت المتنبي جعلته على هذا النحو الضبابي المربك المتناقض، والتناقض في جانب أساسي صفة ليست مذمومة في الشاعر كما في الفيلسوف، فهو خريطة متناقضات شاسعة ومحتدمة بالملائكة والشياطين، بالخير والشر، بالقبح والجمال، بكل ما تمور به الحياة والتاريخ والنفس من زخم متناقضات تشكل معين تأمل وإبداع لا ينضب.

التناقض بهذا المعنى شرط إثراء وإبداع مقابل الانسجام البراني، شرط العقم والإفقار. حتى التقلبات المزاجية تحمل بداهة الشاعر ذي المزاج المتوتر العصبي تجاه كل ضعة وبشاعة في الوجود.

طبعاً ليست كل تناقضات المتنبي تنتمي إلى الشرط الأول، لكن جوهر روحه المعذبة، أو شاعريته الفذة تندرج في هذا السياق، حتى ولو قصد أو خطط لشيء يجافي هذه الروح.

يبقى المتنبي بإنجازه الشعري الكبير أولاً، ووقائع حياة ومرحلة مفصلية، مثيرة وغامضة ثانياً. وبسبب قدرته في التعبير الذاتي عن زمنه وعصره على نمط أولئك العباقرة في تاريخ الإبداع، استطاع أن يجعل من الأزمنة والمخيّلات، بيته الأبدي.

سيف الرحبي

 

- يكمن مشكل المتنبي - شخصه وشعره - في قراءته نمطياً ضمن شعرية سائدة تتبوب وتتنضد في أغراض وموضوعات تؤدي معاني ودلالات تقليدية، وضمن صلة متخيلة بين الشاعر وممدوحيه تلخصها التبعية والتصاغر، فيما يقترح المتنبي نفسه أن يُقرأ لا على مثال أو نموذج، كما أن صلته الندّية بممدوحيه تقترح صورة أخرى لشاعرٍ قلقٍ لا يستريح ولا يهدأ بما يرضى به الناس ويستريحون.

وفي القليل الذي يُنسب الى المتنبي من تفوهات وأقوال خارج متنه الشعري تتضح خصوصيته – المشكلة، فقد صرّح بضجره من الإقامة مستقراً في مكان، وقال: إنه ملقى من هؤلاء الملوك الذين يعطونه عرضاً زائلاً مقابل النفيس الذي يمنحهم إياه شعره، كما يقيدونه من الترحال والتنقل. ولما كانت له (ضجرات واختيارات) كما يسميها، فإنه يضطر إلى مفارقتهم على أكره الوجوه وأقبحها.

تلك الضجرات والاختيارات هي التي سقطت من برامج قراءة المتنبي المتعاقبة، فتسلط الضوء على أناه المتضخمة، أو تقلباته من مدح الشخص إلى هجائه بشدة، وحماسته في الحالين، والإلحاح في طلب الجاه والمال، أو الطموح المسرف – في أخف الأوصاف - وما يتبع ذلك من تفسير شعره وإدراجه نمطياً بتسطيح أبنيته ودلالاته.

تلك الفرادة ستدفع ثمنها النصوص التي فات قراءه ما فيها من مخبوء ومسكوت عنه، فهو شاعر حرب وفروسية كما تقدمه القراءات المدرسية، فيما نستطيع الاستدلال على أنه شاعر سلم بامتياز ليس فقط في لوحته الوصفية لشعب بوان وشكوى حصانه من مفارقة هذه الجنان إلى الطعان جرياً على معصية آدم ووراثةً له في مفارقته الجنة، بل في تصويره لبشاعة الحرب حتى في حالة النصر، فقلعة الحدث البيضاء المسقية بالغيم السخي تعود حمراء من دم القتلى بعد أن نزل بها سيف الدولة: «سقاها الغمام الغرّ قبل نزوله/ فلما دنا منها سقتها الجماجمُ».

وإذا كان الممدوحون يغترون بقوتهم، فإن الموت يقهرهم في قصائد المتنبي، لأنه يصول بلا سيف ويمشي بلا قدم كعدوٍ لا مرئي يفوق قدراتهم، بل هو ينوب عنهم في قهر أعدائهم ويسلبهم نشوة النصر عليهم: «فما لكَ تختار القسيَّ وإنما/ عن السعد يرمي دونكَ الثقلانِ».

وهكذا يتوقف عند الغزل مترفعاً يطلب الوصال من المرأة قبل أن يتحول حسنها بالموت ويلوم العشاق مراراً لأنهم لم يتفكروا في مصير من يحبون ومنتهى أمرهم بالموت.

المرأة والحرب والإقامة في وطن أو أسرة أو بلاط هي بعض مشكلات المتنبي التي لم تترسخ كمفاتيح لقراءةٍ توائمُ تناقضاته الظاهرية أو تفسر شعره بهدي ضجراته واختياراته التي كانت وراء غربته وغرابته وتغريبه.

حاتم الصكر

 

- المتنبّي شاعرٌ كبير، وفي اللغة العربية هو الأكبر من دون شك. صحيحٌ أننا يمكنـنـا لومـه على أشيـاءٍ كثيرة، ولكن بالقياس إلى شعره وإلى ما استطاع إخراجه من ذاته ومن اللغة في أعلى لحظات وحيه، كل ما يؤخذ عليه يظل تافهاً. الشعراء هم أشخاصٌ مثل سائر البشر، وبالتالي يخضعون لأهواءٍ كحب السلطة والنفوذ والتبجّح والنرجسية والانعطافات السياسية الانتفاعية.

عند كثير من الشعراء، العرب وغير العرب، لاحظنا مثل هذه الانحرافات وأخطر من ذلك. في فرنسا مثلاً، ما علينا إلا تأمّل الإسراف والطيش في حياة الشاعر فرانسوا فييون، أو مدى تأثير المصائب المالية التي عرفها بودلير على حياته.

نعرف أيضاً أن راسين، الكاتب المسرحي الكبير ولكن أيضاً الشاعر الممتاز، كان جليساً (courtisan)، الأمر الذي لم يمنعه من الانسحاب من بلاط الملك لويس الرابع عشر، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، للاهتمام فقط بأبحاثه حول الدين. الأمر الذي شكّل خسارة كبيرة للمسرح وللشعر الفرنسيين.

يمكن منتقدي المتنبّي أن يقولوا ما يريدون عنه، لكن، مهما كانت هويتهم، سيظهرون دائماً كأقزامٍ أمام هذا العملاق.

وأعتقد بأن سر أسطورة المتنبي يكمن أولاً في ذلك الادعاء المدهش، في اختياره «المتنبّي» كاسم مستعار، أي ذلك الذي يتوق إلى التنبؤ. يا للغرور! يا للمغالاة النيتشوية! يا للثقة بالذات أيضاً وبقوة كلمته! وحده، المتنبّي يختصر الصحراء العربية برمّتها وكل الإرادة العربية في السيطرة على مكان التجرّد هذا، الذي وصفه المستشرق الكبير جاك برك بـ «العالم المحروم». الشاعر الكبير يحيا بحدةٍ كبيرة ويبقى كامل الوعي والحضور لوضعه كإنسان. الحياة هي نسيجٌ من التناقضات والتمزّقات. في الأتون الموحِّد للغته المبدعة. أحرق المتنبّي كل تناقضاته وحوّلها إلى مادة صافية لنشيده.

صلاح ستيته

 

- في مقـولة تحتـفـظ الذاكرة بـها منذ زمن تصور معنى الخلود والتــواصل مع الحيـاة إلى ما لا نهاية: «إذا أردت أن تحيــا بعد الموت، فاكتب شيئاً يستـحق القـراءة، أو أعمل شـيـئاً يـستـحق الكتابة».

والشاعر أبو الطيب المتنبي كتب ما يستحق القــراءة على مر الزمـــن، فبقــي في الذاكــرة الثقــافــية العربية ومن يتعامل معها لأنه شــاعر عرف أن يتفاعل مع الحياة بشعره، إذ جعله جزءاً منها يتحرك بتحــركاتها في الوقت الذي عاش كشاعر، ومعرفته التعامل مع الشعر والحياة بالتفاعل بينهما، إنه كان يدرك معنى الفن ومعنى الحياة وكيفية المزج بينهما إلى حد الانــدماج في شريحة واحـدة متكامــلة، منها يمكــن النظر إلى الحدث الآني واللاحق في فترته، فهو قد امتاز عن سواه بالذوق، وحدة الذكاء، وسعة الاطلاع على فنون الحياة وآدابها مما هو موضــوع وما هو معرب، خصوصاً التاريخ والفلسفــة، إذ اشتهر بأنه من كبار المثقفين في عصره، وحبه للقراءة يجسده قوله:

«أعز مكان في الدنا سرج سابح

وخير جليس في الأنام كتاب».

وقد رافقت ثقافته طموحاته المتعددة وتنقلاته بحثاً عن المجد وعن مساحات الحرية التي يقول فيها مادحاً من يرى انه كفوء لذلك على أن يكون مدحه لذاته متماهياً مع ممدوحه فهو حاضر في نصه الذي يتقنه كصانع، إضافة إلى موهبته الفذة في تفصيل الحدث بالمقاسات اللازمة التي لا تحتاج إلى أي «رتوش» على أن (أناه) لا تغيب لأنها من صنعت له مكانة:

«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

واسمعت كلماتي من به صمم».

فثقافة الشاعر وحرصه على تحديد الزمكانية مع تفرده بخاصيته التي خلفها لنفسه بكده وجهده وقوة شخصيته مع فرضه إيقاعه الخاص على فترته، جعلته صورة ذات أبعاد مخترقة للآتي كمثال على الشاعر الذي يشعر بأنه شاعر فقولب نفسه في دائرته الشعرية حيث لم يبرح الشعر، ولم يذهب إلى فنون أخرى قد تؤثر على عطائه وتشغله عن شغله الشاغل (الشعر)، على رغم من قوله:

«الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم».

وسر بقائه يكمن في أنه نسيج وحده بحرصه على شعره ورفعه لنفسه، واعتزازه بها ويجيء ذلك بحكم ثقافته الواسعة، وتفرغه لشعره، واستفادته من الاطلاع على الثقافات الأخرى، وقدرته الخارقة على الهضم على تطعيم ذلك بسخرية لاذعة إذا اقتضى المقام:

«وما طربي لما رأيتك بدعة

لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب».

ويكفي أن فيلسوف عصره أبو العلاء المعري وصف شعره في كتابه الضخم (معجز أحمد)، الذي توجه إلى أن المتنبي بزّ من قبله وأحرج من بعده، إذ استطاع مخاطبة الخاصة والعامة بأسلوب راق واصل للجميع.

سعد الحميدين

 

- أهم ما يجعل المتنبي لقراء العربية مبهراً ومحط شغف كبير وتحيز يصل لحد الهوس أحياناً، إتيانه بإعجاز شعري في هذه اللغة، مؤسس على ضغط المعنى المحكم أو المتناقض بصيغ لغوية وشعرية، استطاع من خلالها كتابة أبيات شعرية وقصائد تكشف عما في النفس البشرية (وهي نفسه هو بالذات) من قلق وغربة وحكمة وعبث واستعلاء وشغف بالمجد واستخفاف بالناس أجمعين (حكاماً ومحكومين، ملوكاً وسوقة) وتحقيق ذاته العظمى المنتخبة على امتداد السلالات والأعراق وملء العالم بها من خلال الشعر. هو إنسان خارق شعري».

وأقول «قراء العربية» لأن شعره متصل اتصالاً عضوياً باللغة... ومن حيث ينزل المعنى في الصيغة والكلمات والإيقاع نزول الروح في الجـسد. فهو تـلميذ بـاديـة السماوة حيث العربية البكر، وتخرج على الزجاج والأخفش وابن دريد وأبي علي الفارسي كما تحزّب له أكبر فقهاء اللغة الذين عاصروه.

مشروع المتنبي ليس سياسياً، السياسة لديه جزء وتفصيل. مشروعه وجودي قائم على أنه هو السوبرمان المتحدر من قوم وأعراق ونفوس كأنها تأنف سكنى اللحم والعظم، وأنه من أجل ذلك لا بأس من تقتيل الناس (الذين يناديهم بهذا استخفافاً: «غيري بأكثر «هذا» الناس ينخدع...» وأن المجد هو القوة المطلقة «وتضريب أعناق الملوك»... وأنه هو السابق الهادي لما يقوله، وكأن جبران خليل جبران أخذ منه قوله في «السابق»: «أنت سابق نفسك يا صاح» فالمتنبي يقول:

«أنا السابق الهادي الى ما أقوله

إذا القول قبل القائلين مقول».

لم يمدح المتنبي سوى المتنبي... كل ممدوح آخر مستعار لأناه... حاول أن يكون نبياً فلم يستطع لأن ذلك لا ينبغي له أو لسواه بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلّم)... فكان شاعراً. لا ينبغي للنبي أن يكون شاعراً (تبعاً للنص القرآني) ولا ينبغي لأبي الطيب الشاعر أن يكون نبياً. هذه المناظرة تذوب في جسد النص اللغوي ذاته (سواء كان نصاً مقدساً كآيات الذكر الحكيم) أم قصيدة من قصائد المتنبي... ولكن ثمة ما يصل بين الحالين: النفس المصفاة والمختارة. قوة الكلمات. وبعد القرآن الكريم، من نعم وأعطيات العربية المتنبي.

ثمة في شعر المتنبي ما يخترق المناسبات، وتظهر أبياته على حد تشبيه الطيب الصالح لها، بمثابة كرات من نار تجتاز الآفاق والأزمنة.

وعلى رغم موت بعض أدواته، بفعل تطور التاريخ ومعه المفردات، فإن الرمز يبقى سارياً ولا ينتكس. لو أخذنا بيتاً من أشهر أبياته في الفخر: «الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم» ودققنا في كلماته اليوم كلمة كلمة لقلنا: الخيل اليوم للاسطبل أو لميدان السباق، ولم تعد للمعركة، والليل لم يعد ليل الستر والبوادي، كذلك البيداء، والسيف والرمح لمتاحف الآثار وحتى القرطاس والقلم تغيرا بفعل تطور التكنولوجيا والانترنت... ومع ذلك يبقى رمز الاعتداد بالنفس سارياً والبيت يذكره المعتدون بأنفسهم.

التناقضات جزء من عبقرية المتنبي. يضاف لذلك إحساسه المتفرد والحاد بالعظمة والغربة معاً. قطفه البلاغي العبقري للحكمة. تلاعبه بالمعاني تلاعباً يجعل قارئه دائم التأهب للمفاجآت والتوليد.

وهنا بعض ما يحضرني:

* «مَن لو رآني ماء مات من ظمأ

ومَن عرضت له في النوم لم ينم».

* «وإن أسلم فما أبقى ولكن

سلمت من الحِمام الى الحِمام».

* «صحبت في الفلوات الطير منفرداً...».

* «فشرّق حتى ليس للشرق مشرق

وغرّب حتى ليس للغرب مغرب».

محمد علي شمس الدين

 

- قبل عشرين سنة كتبت مقالا عنوانه «ما الذي يريده الشعراء؟» وكان مكرساً للمتنبي في شكل خاص، واليوم أجد نفسي أمام السؤال نفسه من جديد، لأن ظاهرة المتنبي تجاوزت حدود الماضي لتصبح ملمحاً أساساً في حياتنا الثقافية العربية المعاصرة في شكل واسع، ولذا، فبقدر ما يتعلق الأمر بالمتنبي وعلاقته بالسلطة، فإنه أحد أهم مظاهر الثقافة العربية اليوم، في حالة حيادها، إن لم نقل في حالة صمتها وركضها المحموم نحو الوصول لامتلاك السلطة، أي سلطة.

مما لا شك فيه، أن المتنبي كان المثال الأكبر الذي يجمع في داخله بين الشاعر الكبير والشخص الساعي لمنصب أقل من شعريته، وهو بذلك وجه من وجوه التراجيديا، حيث السلطة تتحول إلى عَقب، كما حدث مع آخيل ذات يوم. لكن المتنبي رغم ذلك لم يمت، بل عاش، لأنه في ظني أكثر تعقيداًً من الأمثولة الإغريقية، لا لشيء إلا لأنه مكوّن من طبقات كثيرة من النقائض الإنسان والمثقف مجتمعين، وهو بذلك صورة لنصه، الذي كلما وصلنا إلى طبقة جديدة من طبقاته، تبين لنا أننا لم نكتشف الطبقة التي سبقتها تماماً. إنه بعبارة أخرى شخصية روائية مثالية خارج التنميط المبسط، وهو بذلك ليس شاعراً فقط، بل سؤالا إنسانياً لم يزل يطرحه البشر على أنفسهم وهم يسعون بكل ما لديهم للوصول إلى السلطة، أي سلطة يعتقدون أن كينونتهم لا تتحقق وتكتمل إلا بوصولهم إليها.

هل كان المتنبي يريد حماية نصه وهو يسعى لامتلاك السلطة، أم كان نصه الذريعة التي لا بد أن يملكها وهو يرى أن السلطة من حقه هو أكثر من سواه؟

أما لماذا عاش كل هذا الزمن، فلعل ذلك يعود إلى سببين، الأول أننا لا نستطيع الاختلاف على شعره كثيراً، والثاني أن هناك ثقافة تَعبرُ فكرة الاختزال، لأن الاختزال يعني اكتفاءها بالواحد ويريحها من السعي للبحث عمن سواه، حتى وإن كان بمستواه أو ربما أفضل. هل تغير الزمن كثيراً؟ لا أظن ذلك.

إبراهيم نصر الله

 

- كان شوقي في مقدمة ديوانه، التي كتبها سنة 1898، ذكر أن المتنبي مات «عن نحو مئتي صفحة من الشعر تسعة أعشارها لممدوحيه». مر أكثر من قرن على هذا القول الصادر عن شاعر شاب، عاد من باريس بثقافة شعرية ابتدائية. ما ترسخ في الذهنية العربية هو هذه الرؤية القدحية التي اختتم بها شوقي كلامه على المتنبي. صورة ثبتت ونعمل يوماً بعد يوم على تخليدها، بما هي قراءة العرب الحديثين للمتنبي.

لكن لماذا غابت عن ذهنيتنا الثقافية «معجز أحمد» التي وصف بها أبو العلاء المعري ديوان المتنبي؟ ولمَ تناست هذه الذهنية ما كتبه ابن خلدون عندما وضع أبا تمام والمتنبي والمعري في مرتبة الحكماء؟ وأين ما كتبه ابن جني عن المتنبي؟ مجرد أسئلة.

صورة وضعها شاعر تقليدي. ثم جاء بعده مبتدئون في تطبيق معطيات عامة من علم النفس على الأدب فاكتملت الصورة بتضخم الأنا. وها هو المتنبي شاعر التناقضات في الحياة السياسية. كأن ما كتب من قبل أو ما كتب من بعد لغو. أو كأننا لا نريد للمتنبي إلا ما يعيده إلى الأحكام المتعجلة، التي هي صورة عن صنف من الثقافة العربية الحديثة قبل أن تكون قراءة حديثة للمتنبي، الذي لا يزال شاعر الكلمة الكبرى.

لا يمكننا أن نعيد قراءة أمداح المتنبي إلا في ضوء هذه الوظيفة الإبداعية للشاعر في الحضارات الشرقية القديمة، كالصينية مثلاً. أو في ضوء رسامي بداية الحداثة الأوروبية لصور الشخصيات، كما لدى ليوناردو دافنشي ورامبرانت على الأقل. أعني تغيير مكان القراءة. لكن المتنبي هو صاحب تجربة المطلق الشعري في زمن انهيارات الحكم العربي في المشرق. وقد وجد عاشقاً له في المغرب، من أقصى الجنوب، المهدي ابن تومرت، الذي يعتبر نفسه محققاً لحلم المتنبي بإقامة دولة الموحدين. القدماء كانوا أقرب منا إلى فهم المتنبي. ولم يخطئوا. وذلك العلو الذي أقام فيه كان علو التائه، الذي أنشأ للعربية أرضاً شعرية في أقصى القول. أنا العلو، الذي للشعر. قديماً أو حديثاً. المتنبي، شاعر يبعد في القول حتى تبقى للعربية حياة، بها نتعلم من جديد كيف نكتب.

محمد بنيس

المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (4)

المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (3)

المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (2)

المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (1)

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...