الفن والمُقدس في أدب تيوفيل غوتيه

04-01-2013

الفن والمُقدس في أدب تيوفيل غوتيه

تشكّل أعمال الأديب الفرنسي تيوفيل غوتيه النثرية فسيفساء ثقافية تطرح مسائل فلسفية عميقة مرتبطة بالجمال والمطلق. انفتح هذا الكاتب من القرن التاسع عشر على مختلف الحضارات بفضل سفره الى لندن، إسبانيا، هولندا، بالجيكا، ألمانيا، روسيا، إيطاليا، أثينا والشرق، حيث زار القسطنطينية والجزائر. لذلك تميّزت كلّ من رواياته وقصصه القصيرة بجو خاص يرتبط في كل منها بإحدى الديانات أوالحضارات. بالفعل، برزت الحضارات الفرعونية والإغريقية، بالإضافة الى الديانات المسيحية والبوذية وغيرها في روايات تيوفيل غوتيه الخيالية. كما ظهر الفن بأشكاله المختلفة كالرسم، النحت، المسرح والهندسة المعمارية في تلك الكتابات. كان غوتيه رساماً قبل أن يصبح أديباً، لذلك هو يرى العالم من وجهة نظر فنية. وقد أطلق هذا الكاتب شعاره المعروف: "الفن للفن" ليؤكد على أن للتحفة الفنية غايتها بنفسها وليس لها أي تبرير آخر. وبما أن غوتيه جمع مختلف الفنون والحضارات في أدبه، يمكننا أن ننطلق من كتاباته لنطرح مسائل مرتبطة بجمالية المقدس في مختلف الثقافات، إذ أن لكل من الشعوب نظرته الخاصة حول الفن والمقدس، ولكنها تلتقي كلها ضمن نظرة كونية لجمالية المطلق.
نبدأ أولاً بعرض نقاط الالتقاء بين الفن والمُقدس. يرتبط الفن بالمقدس في كتابات غوتيه، إذ أنهما كلاهما باب عبور الى المطلق ووسيلة لتحدي الموت والهشاشة البشرية. فالجمال المقدس لا يفنى، بل يبقى راسخاً في المخيلة الجماعية عبر القرون، إذ أنه تعبير عن المطلق ذي الطابع السرمدي. يقول دونيز ويزمانس في "علم الجمال": "السعادة هي (...) في الفن، كما في الدين، انتصار على الوقت، خلود اللحظة وتجاوز للدنيوي (...) يردد رجل الدين والشاعر: ...أيها الوقت توقف!". بالإضافة الى ذلك، غالباً ما يتخطى الفن والمقدس حدود المنطق ليعبرا الى عالم الخيال. بالفعل، الدين والتحف الفنية هما نتاج الخيال البشري الذي يطوق الى التحرر من الواقع الدنيوي. وقد قال بودلير في هذا السياق: "الدين هو أسما أشكال الوهم التي أبدعها العقل البشري". حسب هيغيل، "استناداً لعلم الظاهرات، يظهر الفن وكأنه شكل من أشكال الدين، أي أنه إحدى تجلّيات الإلهي على الأرض". فكما خلق الله الكون يخلق الفنان التحف والرسومات التي تتجلّى من خلالها جمالية المُقدس. وبالفعل، يقول الفيلسوف نيتشه: "الفن هو بشكل أساسي (...) تأليه للوجود"، إذ أننا غالباً ما نعبد الله من خلال تأملنا لتحفة فنية تتميز بجمالها وبعدها الروحاني الذي يفتح أبواب المطلق. وبالفعل، تطغى الحلولية على أدب غوتيه فتجعل من الله كائناً متأصلاً في كل ما نراه في هذا العالم. في هذا السياق، تصبح التحف الفنية والجماليات شكلاً من أشكال تجلي الروح الإلهية المطلقة.
الرسم المسيحي
يلعب الفنان دوراً مقدساً في أدب غوتيه وتكتسب الأعمال الفنية منحى دينياً. حسب "المسيح الرومنسي" لفرانك بول برومان، "يشكل المسيح المثال الأعلى كنموذج للفن المسيحي، لا نجد ذلك فقط في اللوحات التي يظهر المسيح فيها إنما من خلال كل إنسان يرتبط به روحياً". يتناول تيوفيل غوتيه في روايته "أونيفريوس" رساماً يشبه المسيح بكونه روحانياً، بحالة صراع مع الشيطان وثائراً على مجتمعه إذ أنه يحمل رؤية جديدة. يبرز الفن في هذا السياق وكأنه الطريق الجديد الذي تفتحه لنا مخيلة الرسام وتواصله مع المطلق. كان أونيفريوس يرسم صورة جاسينتا المرأة التي يهواها، إنما يد شيطانيةً خفية كانت تتدخل لتدمر تلك اللوحة. تتماهى تلك المرأة مع صورة السيدة العذراء، إذ أنها كانت تحب أونيفريوس على غرار الأم التي تحب ابنها. وأهم ما يذكرنا بالمسيح في تلك الرواية القصيرة هو موت الرسام وعودته الى الحياة. وقد قال جاد حاتم في هذا السياق: "كل عبقرية كبيرة هي أداة عظيمة، قناة لغوية تستولي عليها روح الله". في هذه الرواية القصيرة، يتم استبدال رسالة المحبة المسيحية برسالة الجمال، إذ أن روح الرسام تتجه نحو متحف اللوفر خلال موته العابر وكأن ذلك المكان حلّ محل الجنة كفسحة تستقبل أرواح من فارقوا الحياة. وبالفعل، يتبلور أدب غوتيه حول التناقد بين الجمال والبشاعة وليس حول التناقد بين الخير والشر. وهكذا، تشابه الفنان أونفريوس مع المسيح في هذه القصة القصيرة، ولكنه يحمل رسالة الجمال بدلاً من رسالة الخير المسيحية. ونلاحظ أن في إحدى قصص غوتيه القصيرة "ممثلين لدور واحد" يمازج الفن المسرحي بالبعد الشيطاني، إذ أن الشيطان هو قرين الممثل وهو الذي يلعب دوره في المسرحية. ينتج الفن في هذا السياق نوعاً من الثنائية الشيطانية. فيرتبط الشيطان بوحيٍ متفوق يتجاوز الطاقة العادية للإنسان ويسمح له بإنتاج إبداع فريد من نوعه.
بالإضافة الى ذلك، يرتبط الفن بالمقدس في الرواية القصيرة "الجزّة الذهبية" حيث يبحث تيبورس عن المرأة المثالية. إنما تكتسب رحلة البحث عن المرأة بعداً إلهياً. بالفعل، يطوق هذا الرجل الى الانفصال عن الواقع سعياً وراء جمال خيالي. وأخيراً يجد بطل القصة القصيرة هذا الجمال الروحاني حين راح يتأمل مريم المجدلية في لوحة "إنزال عن الصليب". بات تيبورس يعبد بتلك الطريقة الجمال والمطلق في آن. إنها النشوة الروحية التي تسمو بالإنسان إلى أقصى حالات النقاء. إنها صلاة تتمازج بتأمل الفن المقدس لتتحوّل الى أجمل أشكال العشق الروحاني: "حين فُتح جناحي لوحة "إنزال عن الصليب"، شعر تيبورس بانبهار مُدوّخ، وكأنه رأى هاوية من النور؛ كان رأس مريم المجدلية يتألق منتصراً في محيط ذهبي"، "تطايرت أمام عينيه صورة مريم المجدلية البراقة على غرار بقع نورٍ، فبات وكأنه رأى الشمس؛ ارتسمت أقل طيّة، أقل تفصيل خفي بوضوح في ذاكرته، فباتت اللوحة حاضرةً في نفسه بشكل دائم". لا بد لنا أن نربط رمزية النور، اللون الذهبي والشمس بالسمو الروحي في هذا السياق. حملت تلك اللوحة تيبورس على أجنحة الجمال السماوي، فبات وكأنه متصوف غارق في عشقه لإلهٍ يحاكيه من خلال ألوان تلك التحفة الفنية المقدسة: "كان تيبورس يتوجّه يومياً الى الكاتدرائية ليستغرق في تأمل عشيقته مريم المجدلية، وكان يعود كل مساء أكثر حزناً وغراماً وجنوناً". بالإضافة الى ذلك، برز المسيح في تلك اللوحة الرائعة: "تظهر رِجل المسيح البيضاء، ذات البياض الباهت لشدة نزفها، النقية والكامدة كالقربانة، وهي تتسم بهشاشة الموت الجامدة". كانت مريم المجدلية تتأمل وجه المسيح بشهوة أليمة وكأنها تريد إشباع نظرها من هذا الوجه المعبود الذي لن تراه مجدداً. ويشير الكاتب في هذه الفقرة الى شجرة الخلاص. هكذا، يتناول غوتيه فكرة التضحية والانبعاث من الموت من خلال القربانة وشجرة الخلاص في هذا الجو المميّز من الجمال. إنها صورة الموت المقدس الذي تنبعث منه الحياة. تماشى فن روبنز مع كتابات تيوفيل غوتيه، إذ أن هذا الرسام يبتكر "حلولية" مسيحية (...) تبدأ بالألوان الغامقة وتنتهي بالألوان الفاقعة (...) وأخيراً اللون اللامادية (...) رأى روبنز طوال السنوات هذا السلام العالمي يستضيء. يشكل فن روبنز نقطة انطلاق لقصة حب في هذه القصة القصيرة، إذ أن بطلها يبدأ بعشق اللوحة الدينية ولكنه يقع في حب امرأة حقيقية على غرار العديد من شخصيات أدب تيوفيل غوتيه. ترتبط هذه الأجواء الأدبية بأسطورة بيغماليون، وهو ملك قبرصي صنع منحوتة رائعة الجمال ووقع في حبها. فحولتها الإلهة أفروديت الى إنسان كي يستطيع بيغماليون أن يتزوجها.
فانوس، الإلهة الملموسة
إنما جمالية المطلق في أدب تيوفيل غوتيه لا تقتصر على الديانة المسيحية، بل هي تكتسب طابعاً إنسانياً. يعلن هذا الكاتب في روايته "الآنسة موبان" أنه يفضل جمال الإلهة اليونانية - الرومانية فانوس أناديومان على جمال السيدة العذراء. بعكس العذراء ذات الشفافية الروحانية، تبرز فانوس أناديومان عارية بالكامل في لوحة شاسيريو وهي تخرج من الماء. شعرها طويل مُبلل وجسدها ذو بياض ناصع نقي. كما أن لون الأخضر الغامق يطغى على اللوحة بدلاً من الأبيض أوالأزرق الشفاف. تُبرز هذه اللوحة جمالية الفن الإغريقي الذي يتميّز بكونه ملموساً وأكثر ماديةً من الفن المسيحي. تظهر الإلهة فانوس بجسدها الإنساني العاري، هي إلهية إنما ذات جمال بشري مادي وليس روحاني. بالفعل، تخرج فانوس من الماء بدلاً من أن ترفرف في السماء كالملائكة. قد ذكر غوتيه هذه الإلهة في إحدى قصصه "الملك كاندول" في فقرة يصف فيها الملكة نيسيا ذات الجمال الفاتن: "طوبى للهواء الذي كان يعبر على ذلك الأرجوان وتلك اللؤلؤات، والذي وسّع تلك المناخير المرسومة بدقة والملونة بالزهري، على غرار صفد دفعت بها مياه البحر الى شواطئ قبرص على أقدام فانوس أناديومان". وبالفعل، يتعاطى الملك كاندول مع زوجته وكأنها تحفة فنية تجسّد الجمال المطلق، وذلك يزعجها كثيراً. يرتبط جمال نيسيا ببعد أسطوري، إذ أنها تتقارن بإيزيس الإلهة المصرية. ولكن نيسيا هي من البربر ولا تشارك زوجها الملك كاندول بطل الرواية نفس النظرة الثقافية حيال الفن والجمال: "لا يشارك البربر اليونانيون أفكارهم حول العفى؛ فبينما يعري شباب أشاي دون أي حرج صدورهم المدهونة بالزيت تحت أشعة نور شمس المدرجات، وبينما ترقص نساء سبارتا من دون أي حجاب أمام مذبح ديان، يولي شباب بيرسيبوليس، إكباتان وباكتر أهمية لعفة الجسد والروح، وهم يعتبرون تلك العادات اليونانية التي تمتع النظر مدنسة وذميمة"، "لولا تزوج الملك، بدل من نيسيا، إبنة ساتراب ميغاباز المتشبثة بالأفكار الشرقية، إمرأة يونانية من أثينا أوكورينتيا، فلكانت الملكة بلا شك موديلاً لأمهر رسامي ونحاتي البلاط". إنما نيسيا رفضت أن تلعب دور التحفة الفنية التي يؤلهها اليونانيون. وبالفعل، احتفظت الملكة بإرثها الثقافي، وهي التي تعتبر الجمال الروحاني غير المرئي مقدساً. لذلك، تنتهي هذه القصة القصيرة بمشهد تقتل فيه نيسيا زوجها الملك كاندول بسبب ذلك الصراع الثقافي حول الجمال والمقدس. وبالفعل، شعرت نيسيا نفسها مهددة لأن زوجها أراد أن يعرضها على صديقه وهي عارية وكأنها لوحة فنية. لذلك تآمرت مع صديقه عليه. فمات الملك وحل مكانه صديقه الذي كان معجباً بنيسيا منذ أول القصة القصيرة. فهل تنتهي مسألة الفن والمقدس بالعنف والموت؟
وجودية الإهرامات
إنما الشرق لا يقتصر على الروحانيات المنفصلة بشكل كامل عن الجمال المرئي، إذ أن المُطلق يتجلى بوضوح في هذا الشرق من خلال الإهرامات ذات الجمال والضخامة المميزتين. نذكر في هذا السياق التشابه بين الثقافة الإغريقية والفرعونية، إذ أن روبير توكان يقول في "شعائر شرقية في العالم الروماني": "لطالما أبهرت مصر اليونانيين. وكانوا أول من اعترف بالتشابه بين الديانة المصرية وديانتهم، وبتأثيرها على معتقداتهم وأهم شعائرهم". تبرز ضخامة الهندسة المعمارية في "رواية المومياء" التي تجري أحداثها في العصر الفرعوني. يقع الفرعون في حب تاهوزير التي تحاول الهروب منه لتعيش كعبدة في بيت الرجل الذي تحبّه. ولكن الفرعون يجدها ويتزوجها فتصبح تاهوزير ملكة مصر. تظهر الإهرامات في هذه الرواية على أنها إحدى أجمل أشكال التحدي الجماعي للموت. وهكذا، يتمازج الفن بالمُقدس في الهندسة المعمارية التي تلعب في هذا السياق دوراً هاماً على المستوى الوجودي. تشير الإهرامات الى رغبة الشعب المصري لبلوغ الأبدية من خلال ضخامة الهندسة المعمارية، سموها نحو السماء وجمالها المُميّز. تبرز أهمية الإهرامات، إذ أنها تجمع بين مختلف أشكال الفنون؛ الفن المعماري، الرسم والنحت. وقد شكلت كلها تحدياً للهشاشة البشرية، إذ أنها باتت أزلية على مر القرون. بالفعل، حين يعي الإنسان خطر الموت يصبح خلاقاً ومبدعاً، إذ أن الموت هو حسب دوما "من أول الألغاز. وقد وضع الإنسان على درب سائر الألغاز. رفع فكره من المرئي الى اللامرئي، ومن العابر الى الأبدي، ومن الإنساني الى الإلهي". بالنسبة للمصريين، تشكل الإهرامات "السلّم الذي يعبر من خلاله الملك المتوفى الى السماء أو قد تكون آخر قطرة من أشعة الشمس التي قد يتبعها الملك ليتمازج مع ذلك الكوكب". يصف تيوفيل غوتيه الإهرامات في الرواية على ذلك الشكل: "تميّز هذا البناء الضخم بحجمه الهائل وبرزت زواياه الكبيرة في قلب السلسلة، بقوة مخيفة ومظلمة. ارتبطت فكرة القوة المطلقة بهذه الكتلات الراسخة التي يبدو وكأن الأبدية انزلقت عليها كنقطة ماء تنساب على الرخام". كما برزت الضخامة في مختلف أبنية العصر الفرعوني في أدب غوتيه: "ضخامة قصر رعمسيس - ميمون، ببوابته الكبرى والشاسعة وجدرانه العالية، وعواميده الذهبية المزدانة بالرسومات (...) تمثالان ضمخان يبرزان بوضعية الأبدية الباردة كجبلين من الصوان ذي الشكل البشري". إذاً من الواضح أن لضخامة تلك الأبنية معنى وجودياً هاماً يفتح أبواب الأزلية. تجري أحداث الرواية في أوف التي تُقارن بالمدينة الميتة. يعيش في تلك المدينة الضخمة المرضى، المُعاقون والعجزة. وهكذا، ترتبط هذه المدينة بالإهرامات رمزياً إذ أنها مساحة كبيرة تتأرجح بين الحياة والموت. كما يرتبط شكل الإهرامات وضخاماتها بهرمية اجتماعية على رأسها الفرعون. بالفعل، يظهر في الرواية البعد الإلهي المرتبط بالفرعون الذي سيعبر بنفسه الى الخلود. الحاكم هو مرآة حال الحلم الجماعي، وهو الذي يجسد ذلك الطوق الى المطلق. ونلاحظ أن الفرعون يتمتع بقوة كبيرة ويسيطر على ما يحيطه، إذ أنه أجبر تاهوزير على الزواج منه.
بالإضافة الى ذلك، تجري أحداث القصة القصيرة "رِجل المومياء" في أجواء فرعونية. يعبر بطل تلك الرواية، وهو فرنسي في السابعة والعشرون من العمر، برفقة الأميرة إيرمونتيس الى الحقبة الفرعونية. تبرز جمالية الهندسة المعمارية في هذه الرحلة عبر الزمن الذي ينقلنا من حقبة تاريخية الى أخرى: "كانت الدهاليز المنحوتة بالصخر الحاد؛ كما ظهرت الجدران المغطاة بالألواح الهيروغليفية وبالزياحات الرمزية التي قد شغلت الملايين بتعميرها طوال الملايين من السنين؛ تُفضي تلك الدهاليز، ذات الطول اللامتناهي، الى غرف مربعة، شُقّت في وسطها الآبار، التي نزلنا فيها بواسطة أدراج لولبية؛ بلغنا بواسطة هذه الآبار غرفاً أخرى، تنطلق منها دهاليز أخرى مبرقشة كذلك بالصقور، الأفاعي ذات الشكل الدائري، الرسوم على شكل تاء، المنسآت". يصل أخيراً بطل تلك القصة القصيرة بصحبة الأميرة الى مكان تواجد والدها ليطلب يدها منه. ولكن الفرعون يرفض أن تتزوج ابنته من ذلك الشخص الذي لا يمتلك الحياة الأبدية. وهنا تبرز إشكالية الأزلية التي يكتسبها الفرعون وابنته من خلال جمالية المطلق. فللهندسة المعمارية معناها الوجودي على مستوى العلاقة بالحياة والموت، فبفضلها بات الفرعون شبه إله، بعكس الإنسان العادي الذي لا يبلغ من العمر في هذه الرواية سوى سبعة وعشرين عاماً.
نلاحظ أن الحوار بين الثقافات قلما يؤدي الى تفاهم في أدب غوتيه. إذ أن الفرعون يرفض أن تتزوج ابنته من الشاب الفرنسي، والملكة نيسيا تقتل زوجها الملك كاندول. فلكل شعب طريقته بعبادة المطلق. ربما الله واحد، إنما طرق التواصل معه تختلف من ثقافة لأخرى. بالنسبة للبعض، إن الجمال الذي نراه حولنا في الفن كما الطبيعة هو تجلي للمطلق الإلهي. أما بالنسبة للآخرين، فالله غير مرئي وغير ملموس بل هو منفصل بشكل كامل عن كل ما نراه. نجح تيوفيل غوتيه بجعل أدبه نقطة لقاء بين الحضارات والثقافات والأديان، إذ أن ذلك الكاتب يبحث عن الجمال ولا تعيقه الحدود المرسومة بين الشعوب. هو يتخطى تلك الحدود بسهولة سعياً وراء تجلي المطلق بأشكاله المختلفة في كل أنحاء العالم. هكذا، برزت الروحانية المسيحية الشفافة المليئة بالنور من خلال لوحة روبنز، وظهرت فانوس الإلهة اليونانية - الرومانية بجمالها الملموس، كما تألقت الإهرامات بتحديها الشامخ لمرور الوقت وللهشاشة البشرية. تلك هي جزء من فسيفساء تيوفيل غوتيه الثقافية التي تتضمن المزيد من الحضارات والأديان. فالأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر كان شديد الانفتاح على مختلف الثقافات، خاصةً على مستوى كتابات المستشرقين الذين وجدوا في حضارات وديانات الآخرين تجلياً لجمالية رائعة. فهل يكون الجمال نقطة التقاء لمختلف الثقافات الإنسانية؟

منيرة أبي زيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...