أثر الفلسفة اليونانية وحكمة الشرق الأقصى على ظاهرة التصوّف الإسلامي

23-11-2021

أثر الفلسفة اليونانية وحكمة الشرق الأقصى على ظاهرة التصوّف الإسلامي

Image
أثر الفلسفة اليونانية وحكمة الشرق الأقصى على ظاهرة التصوّف الإسلامي عبر القرون

*حاتم السروي:

مقدمة:

ظلت ظاهرة التصوف الإسلامي على مدار قرون عديدة محتفظةً بحضورها البارز باعتبارها إحدى أكبر الظواهر الثقافية في بلاد العرب والمسلمين، وبين الرفض الحاد والتماهي البالغ عاشت هذه الظاهر دون نظرة بحثية موضوعية في الأغلب الأعم، على أن بعض المصلحين – وعلى رأسهم الإمام محمد عبده- حاولوا أن يضعوا إطارًا عامًّا للفكر الإسلامي، يجمعون فيه بين التمسك بالتراث والترحيب بالمعاصرة، وذلك على نحوٍ سعوا أن يكون عقلانيًا معتدلاً بحيث لا يطغى جانبٌ على آخر، وبحيث يصبح فيه للتصوف مجاله في تهذيب النفوس وإصلاح أمراض القلوب، مع إزالة الشوائب التي عطلت مسيرة التقدم في بلاد العرب والمسلمين، والتي ساهم فيها متأخرو الصوفية بنصيبٍ وافر لا تخطئه عين البصير.


ثم خبا وهج ظاهرة التصوف – مؤقتًا- وانشغل الناس بمشكلاتهم الآنية المُلِحَّة، كما انشغلت النخبة بدراسة الفلسفة الحديثة وروادها من الغربيين، وبعد عقود من تراجع الاهتمام بالتصوف، رأيناه يعاود الظهور على أيدي بعض المهتمين بالتراث، وظهر في المقابل تيار تراثي موازٍ ومُضَاد جعل من التصوف كله إثمًا كبيرًا وخطأً عظيما، وفلسفة دخيلة على الدين الإسلامي، وقد أيَّد أتباع هذا التيار آرائهم بسيلٍ من الأدلة تنبئ كلها بأثر غير المسلمين من الفلاسفة الإغريق وأهل الكتاب بل وسكان الهند والصين وبلاد فارس على التصوف الإسلامي.


وكلامهم عن هذا الأثر – للأمانة العلمية- فيه جانبٌ من الصحة، على أن الذي استقر عليه رأي الباحثين الثِّقَات – على نحو ما سنبين لاحقًا- أن التصوف ظاهرة فكرية بدأت إسلاميةً خالصة، ثم تأثرت بالتصوف الهندي والحكمة الفارسية والطقوس المسيحية، ومع كل هؤلاء وبشكلٍ ملحوظ تأثر التصوف الإسلامي بالأفلاطونية المُحْدَثَة، والفلسفة اليونانية عمومًا.


هذا ما يدلنا عليه ويوضحه لنا ثلاثةٌ من أهم رواد الدراسات الفلسفية في مصر، وهم: الدكتور “عبد الرحمن بدوي” في كتابه “تاريخ التصوف الإسلامي” والدكتور “إبراهيم مدكور” في كتاب “في الفلسفة الإسلامية..منهجٌ وتطبيقه” والدكتور “أحمد فؤاد الإهواني” في كتابه “في عالم الفلسفة”.


ونبدأ بالدكتور “عبد الرحمن بدوي” والذي قدَّمَ للمكتبة العربية الكثير من الانتاج العلمي الرصين في حقل الفلسفة، وقوله وإن لم يحتمل الصواب دائمًا؛ إلا أنه دون شك يعتبر قرينةً مُرَجِّحَة في بعض الأحيان، وضوءًا كاشفًا يستهدي به الباحثون للوصول إلى نتائج لها نصيب من القوة والعمق.


وفي كتابه “تاريخ التصوف الإسلامي” والذي طبعته دار الشعاع للنشر أكثر من مرة، ونستند في النقل منه إلى الطبعة الثالثة وكانت عام 2008، نراه يقول في صـ49 ما نصه: “وآخر الاتجاهات في بيان التأثيرات في التصوف الإسلامي، القول بتأثيرٍ يوناني، وبخاصةٍ (هيلنستي) أي يوناني تالٍ لفتح الإسكندر للشرق سنة 331 ق.م حتى القرن السادس بعد الميلاد، ويندرج فيه الجانب السحري والصنعوي إلى جانب الأفكار الميتافيزيقية والغُنُوصِيَّة، والأفلاطونية المحدثة، مما يُجْمَعُ أحيانًا تحت اسم “التوفيق الهلينستي” أو “التوفيق الشرقي” كما يسميه “ماسينيون”.


وهنا يتسع المجال للحديث عن الأشباه والنظائر، والتأثير والتأثر، خصوصًا لأن لدينا النصوص اليونانية نفسها مُتَرجَمَةً إلى العربية منذ نهاية القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)”.


ويوضح لنا “بدوي” أهم النصوص اليونانية المؤثرة في مسار التصوف الإسلامي، وأهمها كتاب “إيثولوجيا أرسطوطاليس” والذي هو في حقيقة أمره فصولٌ ومقتطفات منتزعة من التاسوعات الأفلوطينية، وفيه نظريات الفيض والواحد، التي لها دورٌ محقق في التصوف؛ وبالأخص عند “السهروردي المقتول” وفيه أيضًا نظرية الكلمة أو “اللوجوس” التي لها تأثيرٌ ظاهر على “ابن عربي” لا سيما في نظريته عن “الحقيقة المحمدية”.


والذي عليه الباحثون وفقًا للدكتور بدوي، أن صوفية المسلمين ابتداءً من القرن الخامس الهجري حتى القرن العاشر، تأثروا بما في “إيثولوجيا” من آراء. وإنما الخلاف بينهم في: (هل وصل تأثير إيثولوجيا أرسطوطاليس إلى التصوف مباشرةً؟ أم أنه وصل عن طريق كتب الإسماعيلية التي تحفل جميعها بالتأثر به؟).


ويتلو كتاب الإيثولوجيا في الأهمية من حيث التأثير الواضح على التصوف، تلك الكتب المنسوبة إلى “هِرْمِس” والذي عقد له الدكتور بدوي فصلاً عن صورته في الكتب العربية، وذلك في كتابه “الإنسانية والوجودية في الفكر العربي” كما نشر بعض النصوص المنسوبة إليه مع ترجمةٍ له في تعليقه على كتاب “مختار الحِكَم” لمؤلفه “مُبَشِّر بن فاتِك”. وشخصية هرمس تبرز أمامنا في تأثيرها غلى السهروردي المقتول؛ خصوصًا في فكرة “الطباع التام” أو “النوس” وهي الفكرة التي تأثر بها كل الإشراقيين بعد السهروردي، ويسمى “النوس” أيضًا بالروحانية والطبيعة الكريمة، كما تأثر ابن عربي أيضًا وبشكلٍ واضح بكتب هِرْمِس، ويتصل بهذه الكتب ما يَرِد من علم الصنعة السحري أو “الخيمياء” عند صوفية المسلمين.
ويُضاف إلى ما سبق نصٌ مهمٌ تمت نسبته إلى هرمس، وهو رسالته في “مُعَاذَلَة النفس” وتعني كلمة المعاذلة: المحاسبة والتأنيب، وقد نشرها بدوي ضمن كتاب “الأفلاطونية المحدثة عند العرب” وهي تحليل للنفس ومناجيات لها، وتأنيب للنفس الأمَّارة بالسوء ودعوة لها إلى التطهر، ومن اليسير على الباحث أن يجد أصداءً لها في مناجيات صوفية المسلمين.


كما لا يمكن إغفال بعض النصوص المنسوبة إلى “سقراط” و”أفلاطون” وغيرهما من فلاسفة الإغريق، ومعظمها أقوالٌ وآداب، وفيها تشابه واضح أحيانًا مع أقوال تُنْسَب إلى كبار صوفية المسلمين، كما نجد في كتب طبقات الصوفية المختلفة عند (القشيري- السُّلَمِي- الشعراني- الهَرَوِي- طبقات الأولياء للعطار- نفحات الأنس للجامي…إلخ.). (انظر صـ 50 من كتاب “تاريخ التصوف الإسلامي/ عبد الرحمن بدوي/ دار الشعاع/ طـ 3/ 2008).


وينتهي بدوي إلى أربع نتائج على النحو التالي:


نشأ التصوف الإسلامي من التأمل المتواصل للقرآن والأحاديث النبوية، وبهذا تكون نشأته إسلامية خالصة، ومن داخل الإسلام نفسه.
ومع تطور التصوف والاتصال بالأفكار الأجنبية، أضيفت إلى التصوف الأول قسمات من أصولٍ أجنبية كانت بمثابة زخارف وتنويعات.


وإلى جانب الأصول الإسلامية العقائدية (القرآن والحديث) أثَّرَت في إيجاد النزعات الصوفية عوامل اجتماعية أو فردية، من أزمات سياسية أو أزمات نفسية.


وإن أبرز هذه السمات أجنبية الأصل، هذه المستمدة من التراث الفلسفي اليوناني، ومعظمها مصطلحات رأيناها في الانتاج النظري للصوفية، وتلك المستمدة من الرهبانية المسيحية، وهي عادات في التقوى. (صـ 56 من المصدر السابق).


ويوضح لنا الدكتور “إبراهيم مدكور” أثر الفلسفة اليونانية على التصوف الإسلامي في إطار دراسته لموقف الصوفية من مشكلة “الأوهية” والتي يظهر لنا أنها وثيقة الصلة عندهم بنظريتهم في المعرفة أو “الإبستمولوجيا” وذلك في الفصل الرابع من الجزء الثاني من كتاب “في الفلسفة الإسلامية..منهجٌ وتطبيقه” والذي طبعته مكتبة الأسرة منذ ثلاثة أعوام أي سنة 2019.


ويخبرنا “مدكور” بدايةً إن الصوفية ينشدون الوصول إلى الله عن طريق الذوق والعرفان، لا عن طريق الاستدلال والبرهان، وهي النظرية التي ناقشها “أبو الوليد بن رشد” الفقيه والفيلسوف، والمعروف بالحفيد الغرناطي، في كتابه ” الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة” وردَّ عليها، وقد فرَّق الصوفية تبعًا لقولهم بالذوق والعرفان بين توحيد الاعتقاد وتوحيد الشهود، وانتهوا إلى آراء لا تزال تجلب عليهم النقد والمعارضة عند بعض الباحثين، أو الحرب العوان عند بعض المتدينين والفقهاء، مثل الاتحاد والحلول والقول بوحدة الوجود.


وبحسب “مدكور” فنحن لكي نفهم موقف الصوفية من الحرية الإنسانية و(المسئولية) ونظرتهم في قضية (القدر) ومفهوم الإرادة، ورؤيتهم للتكاليف الشرعية؛ خصوصًا أنهم يقولون بالسُّكْر والصحو، والغيْبة والحضور؛ بحيث يدفعنا هذا إلى التساؤل عن التكاليف هل تبقى أيضًا في ساعات السكر والغيبة أو تفنى؟ وسؤالٌ آخر يطرحه “مدكور”: هل أفعال العباد عند الصوفية سبيل الهداية، أو أن الهداية فضلٌ ومِنَّة من الله؟ وحتى نفهم آراء الصوفية حِيَال هذه القضايا والمسائل على وجهها الأمثل، لم يكن بُد من إلقاء النظرة على المؤثرات التي امتدت إليهم، والظروف التي أحاطت بهم. (انظر صـ131 من كتاب “في الفلسفة الإسلامية منهجٌ وتطبيقه. جـ 2/طـ مكتبة الأسرة/2019).


وقد دارت مناقشاتٌ عميقة وأخذٌ ورد حول العوامل المؤثرة في التصوف الإسلامي منذ أُخْرَيَات القرن التاسع عشر، وقَوِيَت المناقشة واحتَدَّت في الثلث الأول من القرن العشرين؛ فقال جماعةٌ من الباحثين إن التصوف ليس إلا ثمرة لظروف ومؤثرات خارجية، وذهبوا في هذا الرأي كل مذهب؛ فمنهم من قال بالتأثير الهندي، ومنهم من رد التصوف إلى الحكمة الفارسية، ومنهم من حاول تفسير بعض ظواهر التصوف في ضوء الشعائر المسيحية (ومن ذلك هذه الشروط الصعبة لقبول دخول المريد في الطريقة؛ فهي شبيهة بالاختبارات التي يُوَاجَه بها طالب الرهبنة، ويمتنع بعض الصوفية لفتراتٍ معينة من تناول اللحوم حتى تصفو الروح، ويعتقد البعض أن التصوف رهبانية الإسلام) وبعض الباحثين رد الآراء الصوفية الدقيقة إلى الأفلاطونية المُحدَثَة.


ويقابل هؤلاء جماعةٌ أخرى ذهبت إلى أن التصوف ثمرة إسلامية خالصة نشأت وتطورت بمعزلٍ عن أية مؤثرات خارجية، وينبغي أن توضح في ضوء تعاليم القرآن وأعمال النبي وصحابته فقط لا غير.
ويعتقد “مدكور” أن كلا الطرفين مُغَالٍ، وأن اختلافهما لا طائل من وراءه، وقد استقر الرأي الأكاديمي على أن التصوف ظاهرة روحية وثقافية، تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عواملٍ ومؤثرات. (انظر صـ 132 من المصدر السابق).


والتصوف وإن كان قد نشأ نشأةً إسلامية، غير أنه يمكن القول بانقسام العوامل التي أثرت فيه إلى قسمين كبيرين؛ فهي إما داخلية أو خارجية؛ فلو تحدثنا عن المؤثرات الداخلية فسيبدو أمامنا بجلاء ما في الإسلام من ترغيب وترهيب، ودعوة إلى الطاعة والعبادة، وتحقير لشأن الدنيا، وتذكير بالآخرة، والصلاة وأساسها الخشوع والضراعة، وهي صلة بين العبد وربه ووقوف بين يَدَيِ الله، والصوم وما فيه من حرمان النفس وكبح جماحها لتتطهر، والحج وما فيه من جهاد وتجرد من الدنيا، وتفرغ للتهليل والتكبير، والاعتكاف وهو سنة محببة وضربٌ من الخلوة لمناجاة النفس ومحاسبتها، ويمتلئ القرآن الكريم بالآيات التي تدعو إلى الذكر والعبادة، وذم الدنيا والتحبيب في الآخرة.


وإذا تأملنا سيرة الرسول الكريم وجدناه قبل البعثة يعتكف زمنًا في غار حراء زاهدًا متأملاً متعبدا. وبعدها كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وسار من بعده صحابته على نهجه، وفي السنة أحاديث كثيرة صدر عنها أهل الزهد والعبادة، وعَوَّلَ عليها الصوفية في شرح المقامات والأحوال، ودعموا بها رؤاهم ونظرياتهم، ويأخذ عليهم البعض استشسهادهم بالأحاديث الضعيفة غير الثابتة في أحيان، وربما استشهدوا بأحاديث موضوعة، وكان هذا أحد أهم المآخذ على كتب الصوفية، ومن أبرزها “إحياء علوم الدين للغزالي” على أنهم في الجملة حاولوا دائمًا تأييد ما ذهبوا إليه بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية.


وإلى جانب ما سبق يؤكد “مدكور” تأثر الصوفية بالفقهاء، وعلاقتهم مع هذا القسم الكبير من علماء الدين كان فيها غير قليل من الجدل والحوار، ولم تخلُ من عنفٍ أحيانا، وفي ثنايا ذلك تعرض الصوفية لبعض قضايا الفقه؛ إذ بحثوا في الحلال والحرام، الفرض والنافلة، وماهية العبادة وجوهرها.


كما عالجوا بعض المشاكل الكلامية؛ فتحدثوا عن وجود الخالق ورؤيته، وبحثو في الوحدانية، وأخذوا بشيءٍ من تعاليم السلفية والمعتزلة والأشاعرة، والعجيب أن بعضهم كان سلفيًا مثل: “أبي إسماعيل الهروي” صاحب كتاب “منازل السائرين” و”عبد القادر الجيلاني” وهذا واضح لمن تأمل سيرته وقرأ كتابه (الغُنْيَة لطالبي طريق الحق) الذي دافع فيه عن تعاليم السلفية، وهو الوحيد الذي يستثنيه دعاة التيار السلفي من هجومهم على مشايخ الطرق! بل قد يتفاجأ البعض حين يعرف أن “ابن تيمية” كان صوفيًا له أوراد يتلوها كل يوم، وحين مات دفنه أصحابه في مقبرة الصوفية بدمشق! والحق أن غرائب وعجائب التراث العربي كثيرة، وهذه الحقائق ليست إلا نزرًا يسيرًا في تاريخ طويل يُعَدُّ من أعجب ما خلق الله.
كما انتمى بعض الصوفية إلى المعتزلة، وكثيرٌ منهم كانوا أشاعرة، ومنهم “أبو القاسم القشيري” مؤلف “الرسالة القشيرية” وقصته في “فتنة الكُنْدَري” بخراسان معروفة؛ حيث تم سجنه مدة من الزمان بسبب غضب الوزير وقتها على الأشاعرة، وألَّف كتابًا بعنوان “شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة”.


ومع كل ما سبق فإن الصوفيين في جملتهم لا يقرون المتكلمين على بحثهم، ويرون أن الدليل العقلي الذي جعلوه مسلكًا لهم يخطئ ويصيب، وقد ينقض دليلٌ عقلي دليلاً آخر؛ مما قد يورث الحيرة، بينما الطريق الحق لمعرفة الله وفق رؤيتهم هو الذوق والإدراك المباشر بعد الانغماس في العبادة والرياضات الروحية.


ويثبت مدكور تأثيرًا للفلاسفة على الصوفية، فنحن نرى عند الصوفية أبحاثًا تقربهم من أصحاب الفلسفة، وفيها تعرضوا لأحوال ومقامات النفس؛ حيث تكلموا بإسهاب عن الشوق والمحبة، الحضور والعينية، الخوف والرجاء، والبقاء والفناء. ومن الصوفية من نحى منحىً فلسفيًا واضحًا، وكانوا أقرب إلى الفلسفة منهم إلى التصوف، وهؤلاء النفر من فلاسفة الصوفية تأثروا بفلاسفة إسلاميين وغير إسلاميين، وعالجوا مشاكل فلسفية خالصة، كجوهرية النفس وخلودها، والوجود والمعرفة. وتأرجحوا بين الذوق والعقل، وإن كانوا إلى الذوق أقرب، لأن البحوث العقلية وفق رؤيتهم لا تخلو من حيرةٍ وبلبلة.


وأخيرًا امتدت إلى الصوفية آراء بعض الفرق الإسلامية، وعلى رأسها “الشيعة” وصلة التصوف بالتشيع كانت ولا تزال موضع درسٍ وبحث، وهما معًا يقومان على شيءٍ من السِرِّيَّة والتفرقة بين عالم الظاهر والباطن، وقد جارى الصوفية الشيعة في الرمز والتأويل، وأخذوا عنهم – غالبًا- فكرة الأوتاد والأقطاب، كما حظي التصوف الفلسفي بنجاحٍ كبير في البيئات الشيعية. (انظر صـ134 من “في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه” د. إبراهيم مدكور/ جـ 2/ مكتبة الأسرة/2019).


وقد نقل “مدكور” هذا القول بتأثير التشيع في التصوف عن كتاب “الصلة بين التصوف والتشيع” وهو من تأليف الباحث “مصطفى كامل الشبيبي” والمطبوع في بغداد سنة 1964، وعن هذا الكتاب أيضًا نقل الدكتور “عامر النجار” في كتابه “الطرق الصوفية في مصر” الذي طبعته دار المعارف، وفيه غير قليل من المقارنات وإلقاء الضوء على الأشباه والنظائر في كلٍ من التصوف والتشيع، وهو تشابه كبير نلحظه دائمًا بين الصوفية والشيعة، وبخاصة عند أتباع الفرقة الإسماعيلية التي تأثرت بالأفلاطونية المحدثة.


وخلافًا للدكتور “عبد الرحمن بدوي” يعتقد “مدكور” بتأثير خاص للثقافة الهندية والصينية على التصوف الإسلامي؛ فيوضح لنا: أن موقع مدينة “البصرة” في جنوب العراق، كان من قديم نقطة التقاء بين الشرقين الأقصى والأدنى. وبلاد فارس بابٌ مفتوح على الهند والصين، وقد تأثرت بهما ثم أثرت في العراق، والثقافة الفارسية – كما نعرف- تحمل كثيرًا من معتقدات الهند والصين وتعاليمهما، وعن طريقها انتقل الفكر الهندي أولاً إلى العالم الإسلامي. وكانت مدينة “بَلَخْ” الفارسية – وتقع حاليًا في أفغانستان- بوجهٍ خاص مركزًا للتصوف البوذي قبل الإسلام بعدة قرون، وفي “بلخ” نشأ عددٌ غير قليل من أوائل الصوفية، وفي مقدمتهم “إبراهيم بن أدهم”.


وفي “البصرة” بدأت مدرسة صوفية مبكرة في أواخر القرن الأول الهجري، ويعتقد “مدكور” بأنها تأثرت بما سرى إليها من أفكار الشرق الأقصى، ومن ذلك مثلاً أن صوفية البصرة كانوا يأخذون أنفسهم بمبدأ “تعذيب البدن” بالجوع والسهر والاقتصار في الملبس على ما يستر العورة، وذلك من أجل تطهير النفس وتخليصها من آفاتها والصعود بها إلى العالم العلوي، وفي هذا ما مَهَّد لفكرة “الفناء” التي قال بها “أبو يزيد البسطامي” وهي شبيهة بالنرفانا الهندية. (انظر صـ135 من المصدر السابق).


ويوضح “مدكور” أن الحكمة الإشراقية عند “السهروردي” وأقرانه كانت أوسع الفلسفات صدرًا لتقبل مختلف الآراء، وقد أخذ السهروردي المقتول المتوفى سنة 585هـ عن حكماء الهند وفارس وبلاد بابل، كما أخذ عن حكماء مصر وبلاد اليونان.


ويرفض “مدكور” القول بنزعات عنصرية عند المتصوفين الفرس – وهم كُثُر بين صوفية الإسلام- جعلتهم يبتدعون ظاهرة التصوف لتكون رد فعل (آري) ضد ديانة (سامِيَّة) حيث يرى أن هذا القول فيه خلط وجهل بالتاريخ، ومتصوفة الفرس كانوا مسلمين قبل أي اعتبارٍ آخر، وإذا كان للعصبية العنصرية دخلٌ في شئون السياسة والحياة الاجتماعية؛ فإن أثرها في ميدان التقرب والعبادة الروحية ضئيلٌ جدًا. (انظر صـ 135-136 من المصدر السابق).


ويواصل “مدكور” حديثه عن العوامل الخارجية المؤثرة في التصوف الإسلامي؛ فيؤكد أن تصوف اليونان وبخاصة عند “أفلاطون” و”أفلوطين” وصل إلى العالم الإسلامي دون شك؛ فقد انتقل شيءٌ منه إلى المدارس الشرقية في مدن (حران- نصيبين- جنديسابور) وبقيت منه مخلفات في مدرسة الإسكندرية حتى جاء الإسلام. وتصوف “أفلوطين” له مصدر ثابت معروف، وهو كتاب “إيثولوجيا” أو “الربوبية” والمنسوب خطأً إلى أرسطو، مع أنه ليس إلا أجزاء من تاسوعات أفلوطين. ومن الثابت أن هذا الكتاب عُرِفَ أولاً في “اللغة السُريانية” وعنها نُقِلَ إلى اللغة العربية. ويضيف “مدكور” إلى هذا المصدر مصدرًا آخر من الممكن أن يكون له أثر، وهو كتاب “الخير المحض” أو “العلل” كما سُمِّيَ في ترجمته اللاتينية، وهو كتاب غامض التاريخ ينسبه البعض خطأً إلى أرسطو أيضًا، وحقيقته أنه تلخيص مُشَوَّه لكتاب “المبادئ الإلهية” الذي وضعه “بروقلِس” المتوفى سنة 485 م وهو رئيس الفرع الثاني للأفلاطونية المحدثة في مدرسة “أثينا”. وللكتابين معاً “إيثولوجيا” و”الخير المحض” شأنٌ في تاريخ الفكر الإسلامي، وفي تاريخ التصوف بوجهٍ خاص، ولا يستبعد “مدكور” أن يكون “ذون النون المصري” – وهو أحد أكبر مؤسسي التصوف الإسلامي بل يجعله البعض واضع هذا العلم، وكان مغرمًا بالعلوم القديمة- لا يستبعد أن يكون هذا العالِم قد وقف على شيءٍ من آراء الأفلاطونية المحدثة. (صـ 136 من المصدر السابق).


ونخلص من هذا العرض إلى أن “إبراهيم مدكور” يدفع القول الذي مؤداه أن ظاهرة التصوف الإسلامي تندرج ضمن عاملٍ واحد من التأثير الأجنبي، فهذا – كما يرى- افتراض لا تؤيده أدلة واضحة ولا يخلو من التعسف، والتوسع فيه يقترب من الظن والتخمين. والأولى بنا أن نبدأ أولاً بتفسير التصوف على أساس من الظروف المحلية التي نشأ فيها ضمن بيئات العالم الإسلامي التي شهدت ظهورًا لمبادئ الصوفية، وإن عَزَّ علينا ذلك فلنبحث عن الأشباه والنظائر في الثقافات الأجنبية. ويرجح أن التيارات الأجنبية إنما بدا أثرها واضحًا في التصوف بعد القرن الثاني للهجرة؛ حيث أخذ التصوف حينها يتجه إلى “التنظير” بعد أن كان مسلكًا في العبادة.


ويعتقد “مدكور” أن الإسلام في دعائمه الكبرى ليس دينًا صوفيًا، ولكنه لا يمنع التصوف، بل على العكس يدعو إلى شيءٍ منه، وغلو بعض المتصوفة هو الذي دفع أهل السنة إلى أن ينكروا عليهم جذبهم وشطحاتهم. والتصوف في النهاية ظاهرة إسلامية نبتت في جو الإسلام وبيئته، وتأثرت أساسًا بفعل النبي وصحابته، واعتمدت على ما جاء في الكتاب والسنة من الحكمة والموعظة الحسنة؛ على أن تلك الظاهرة مثل بقية الظواهر الإسلامية الأخرى تأثرت بعوامل خارجية سرت إلى العالم العربي.


وغير بعيدٍ عن هذا ما وصل إليه الدكتور “أحمد فؤاد الأهواني” في كتابه “في عالم الفلسفة” والذي صدرت طبعته الثانية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2019؛ حيث قال في صـ39 ما نصه: “والمهم عندنا أن نبين رأي الغزالي في تحصيل العلوم، ومنه نستخلص رأيه في نظرية المعرفة. والطريق إلى تحصيل العلوم عنده على وجهين:

التعليم الإنساني: وهو التحصيل بالتعليم من الخارج.

التعليم الرباني: وهو الاشتغال بالتفكر من الداخل.

والتعليم الإنساني واضحٌ لا إشكال فيه؛ أما التفكير فهو استفادة النفس من “النفس الكلية” والتي هي أشد تأثيرًا وأقوى تعليمًا من جميع العلماء والفضلاء”. وهذا الرأي عند “الغزالي” ينقله “الأهواني” من كتابه “الرسالة اللدنية” وفيها يقول أيضًا: ” والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الأرض، والتعلم هو إخراجها من القوة إلى الفعل” وهذا المذهب في غاية الأهمية لأنه يوضح لنا أن المعرفة فطرية مركوزة في النفوس. وليس ما يقوله الغزالي من ذلك مبتكرًا؛ فهذا مذهب ابن سينا أخذه عن الأفلاطونية المحدثة.


وقد مزج الغزالي هذه الآراء الفلسفية بما يقوله المتصوفة، أو بما لا يخرج عن قولهم وإنما بأسلوبٍ آخر؛ فنراه يقول في “الرسالة اللدنية”: “وقال قومٌ من المتصوفة إن للقب عينًا كما للجسد، فيرى الظواهر بالعين الظاهرة، ويرى الحقائق بعين العقل” مع ملاحظة أن (العقل والقلب) في اصطلاح الغزالي والصوفية هما شيءٌ واحد في أكثر الأحيان.

ثم يقول الغزالي: “والإنسان لا يقدر أن يتعلم جميع الأشياء، الجزئيات والكليات وجميع العلوم، بل يتعلم شيئًا ويستخرج بالتفكر شيئًا. وإذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طرق التفكير، وكيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب”.

ويعقب “الأهواني” على هذا بقوله: “وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحس أولاً، ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب “ابن سينا” كما هو موجود في “الشفاء” و”النجاة” وغيرهما من الكتب.” (صـ 94 من “في عالم الفلسفة”).

ومن هذا العرض الذي ساقه “الأهواني” نعرف أن الغزالي – وهو الممثل الأبرز للطائفة الصوفية، والقائم بالمصالحة التاريخية بينهم وبين الفقهاء التقليديين- وإن كان قد حارب الفلسفة إلا أنها قد أثرت فيه بشكلٍ كبير، ونحن لا نعدم في الوصول إلى هذه الحقيقة آراءً كثيرة بثها في كتبه حتى ما كان منها متأخرًا جاء بعد ركونه إلى التصوف واعتقاده “الولاية” في نفسه، ورأيه في المعرفة وكونها مركوزة في النفس بالقوة، والتعلم هو إخراجها إلى الفعل، ليس إلا تنويعًا لفظيًا على قول بعض فلاسفة اليونان “الجهل نسيان والعلم تذكر”.

خاتمة البحث:

من خلال هذا العرض المقارن بين ثلاثة كتب من أهم المصادر في مجال “الفلسفة الإسلامية” يبدو للباحث أن القول بـ “أجنبية التصوف الإسلامي” بمعنى كونه دخيلاً ولا صلة له بالثقافة الإسلامية؛ وإنما هو نتاج تأثيرات خارجية محضة، قولٌ تعوزه الدقة العلمية والبراهين اليقينية، ويماثله في المقابل ذلك القول الذي درج عليه كثيرٌ من الصوفية – والمتأخرون منهم خاصة- والذي يعزو كل نظرية أو مبدأ قال به المتصوفة إلى القرآن والحديث حتى لو اضطرهم ذلك إلى إخراج بعض الآيات عن ظاهرها بتأويلٍ لم يُسْبَقُوا إليه، أو الاستدلال بما لا يثبت من الأحاديث، على نحو استدلالهم على الحقيقة المحمدية بحديث “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر”! وهذا قولٌ لا يقل في تطرفه عن القول السابق.


والذي تطمئن إليه النفس أن التصوف بدأ إسلاميًا، ثم طرأت عليه تأثيرات خارجية، من أبرزها:

فلسفة اليونان؛ لا سيما ما كان منها أفلاطونيًا أو أفلاطونيًا محدثا.
حكمة الهند وبلاد فارس.

ويعتقد الباحث أن التصوف ظاهرة فكرية لها ميزاتها الوجدانية وعليها مآخذها العقلية، ويجب علينا بالتالي أن نتعامل معها بأسلوب نقدي لا يراها صوابًا مطلقًا أو حقيقةً كبرى ليس ورائها حقيقة، بل هي نتاج وثمرة لفكر بشري محض حاول أن يفهم الوجود الإنساني والوجود عامةً بشكلٍ مختلف؛ وبذلك يؤخذ منها ويُرَدُّ عليها وفق نظرة مُمَحِّصة ومنطقية ولها من التفكير العلمي نصيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه:

آثرنا في هذه الدراسة أن نجعل التوثيق المرجعي ضمن المتن؛ حتى يُسَهِّل ذلك على القارئ أن يرجع إلى المصادر المذكورة دون البحث في الهامش بعد انتهاء صفحات الدراسة. وهي طريقة معترف بها في الأبحاث الأكاديمية، وميزتها التيسير على القارئ، والتأكيد على نزاهة البحث وقيامه على التوثيق العلمي.

للقارئ أن يستزيد من البحث في موضوع “تأثير الفلسفة اليونانية على التصوف الإسلامي” من خلال الاطلاع المقارن بين (مبادئ الصوفية) و(نظرية المُثُل عند أفلاطون، ومبادئ الأفلاطونية المحدثة عند أفلوطين) فبينهما تشابه كبير في قضايا كثيرة، وهو تشابه يؤيد القول بتأثير الفلسفة اليونانية على الفكر الصوفي عند المسلمين، بالإضافة إلى قيام أدلة فصلناها في هذا البحث تثبت وجود هذا التأثير. وقد آثرنا عدم إغفال المراجع التي استندت إليها مصادر هذا البحث فذكرناها أيضًا كما ذكرها مؤلفوها.

آثرنا في هذه الدراسة الاقتصار على “تصوف أهل السنة” دون تصوف الفلاسفة كما هو عند “الفارابي” و”ابن سينا” ومن نافلة القول أن تصوفهما أوضح وأصرح في تأثره بفلسفة اليونان من تصوف أهل السنة.

((وانتهيت من هذه الدراسة في الثامن من أغسطس لعام 2021م))

 

المجلة الثقافية الجزائرية 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...