أدونيس: تلك المرأة، الصينيّة الوجه، العربية الشفتين

08-11-2012

أدونيس: تلك المرأة، الصينيّة الوجه، العربية الشفتين

ـ 1 ـ

أهو واحدٌ، أم اثنان، أم أكثر؟

كلٌّ سجنٌ للآخر. سجنٌ متعدّدٌ، حركةً وثباتاً. ومتنوّعٌ، يتّخذ جميع الأشكال: بيوتاً، أسرّةً، مدارسَ، كتباً، أقلاماً، طرقاً... إلخ. توائمُ أضدادٌ: يكذب كلٌّ على الآخر. يخون كلٌّ الآخر. ينام إلى جانبه، ويكون في الوقت نفسه نائماً مع آخر. غالباً، عندما يحمل أحدٌ زهرةً يحمل الثاني شوكةً. أحياناً يكون الواحدُ مجرّد ورقة، ويكون الآخرُ الحبرَ يكتب عليها ما يشاء. أحياناً يتحوّل الواحد مجرّد حبرٍ، فيما يتحوّل الآخر إلى مجرّد بيت من الرَّمل.

لكن، عن أي شيءٍ أكتب؟

عن الإنسان، مطلقاً؟ عن الفرد، محدَّداً؟ عن الوطن؟ عن الضحيّة؟ عن القتل ذبحاً؟ عن الحاضر؟ عن المستقبل؟ عن الحلم؟ عن الواقع؟

لا أعرف. لا أعرف.

«ربما عن الشعب»: قلت في نفسي، همساً. الشعب؟ كرّرتُ متسائلاً: أليس المعنى القديم، الأصلي لهذه الكلمة مناقضاً لمعناها الحديث، الشائع، الذي عمّمتْه الإيديولوجيات والسياسات؟ وهو إذاً، معنى يرتبط بالتركيب، والتلفيق، والحيلة.

علمُ «الشعب» إيديولوجيّاً، هو علمٌ في الحيلة. أقول ذلك، وأتذكّر ما قرأتُه سابقاً في معجم «لسان العرب». ولكي أكون دقيقاً، عدت إلى هذا المعجم وقرأت:

(«الشّعْب: الجمعُ، والتفريق/ والإصلاح، والإفساد: ضدٌّ. وشعبٌ صغيرٌ من شعْبٍ كبير: أي صلاح قليلٍ من فساد كثير. شَعَبَهُ يشعَبُه، فانْشَعَب، وشعَّبَه فتشعّب، أي فرّق أمْرَه. وقال الأصمعيّ: شعَبَ الرجلُ أمرَه، إذا شتَّته وفرّقه. والشَّعب: الصِّدع، وإصلاحُه أيضاً: الشَّعْب).

وفي الحديث: ما هذه الفُتْيا التي شَعَبْتَ بها الناس؟ أي فرّقْتَهم؟ والشَّعب: التفرُّق في الشيء، والجمع: شعوبٌ. وتشعّبَت أغصانُ الشجرة وانشعبَت: انتشرت وتفرّقت. والشعب: القبيلة العظيمة. والشَّعب ما تشعّب من قبائل العرب والعجم. وكلُّ جيلٍ شعْب.

وأشعَبَ الرجلُ إذا مات أو فارقَ فراقاً لا يرجع. وقد شَعَبَتْهُ شَعوبُ، أي المنيّة. شعَّبَه، فشَعَبَ وانشَعَبَ، أي مات. ويُقال للميت: قد انْشَعَب. وشَعوبُ من أسماء المنيّة، غير مصروفٍ، وسُمِّيَت شَعوب، لأنها تُفرّق.

ويُقالُ ظبيٌ أشْعَب، إذا تفرّق قرناه، وكان ما بينهما بعيداً جدّاً. وتيسٌ أشْعب، إذا انكسر قرنُه. وماءٌ شَعْبٌ أي بعيدٌ.

وانشَعَبَ عنّي فلانٌ، تباعَد. وشاعَبَ صاحبَه، أي باعدَه. وشَعَبَ البعيرُ يشعبُ شعباً: اهتضَمَ الشجرَ من أعلاه. وما شَعَبَك عنّي؟ أي ما شغَلَك؟)

«يكفي هذا الخوضُ في الكلمة»: قلت في ذات نفسي، دون ذلك، قد يأخذني الخوضُ إلى متاهاتٍ في الجذور والأصول والاشتقاقات والتراكيب. بينها مثلاً، هذه المعادلة: ش ع ب = ع ش ب ، وهلمَّ جرّاً.

هل أقول، إذاً، للقرّاء الأعزّاء: احذروا هذه الحروف الثلاثة؟ أو أقول تأمّلوا فيها جيّداً، قبل أن تطلقوا أحكامكم؟ أو أقول تجنّبوها؟

في كلّ حالٍ أعتذر للقرّاء إن كنت أدخلتُهم في مشقّة جديدة حول العلاقات بين اللغة والواقع.

ـ 2 ـ

اللغةُ، إعلاميّاً، سردٌ. سَرْدٌ ثانٍ على سرد الواقع: نَقْلٌ يُضخِّم الواقع، تمويهاً أو تعويضاً، أو يصغِّره، وفقاً للأهواء. هكذا تكون اللغةُ، غالباً سرداً يفتري أو يصطنع «واقعاً» لم يقع. هكذا «تُختَرَع» بالكلمات، حروبٌ وثوراتٌ وأنظمة. ويبدو الواقعُ في هذا السردِ توهُّماً يجسّدُ رغبات السارِد وأهواءه. خيانةٌ بائسة للّغة والواقع معاً.

السّردُ ثرثرةٌ لا تُعنى بالحقيقة. تُعنى بالتوهّم. الأرضُ التي وُلدْت فيها - وُلِدَتْ سرداً حوّلَته الإيديولوجيات وسياساتها إلى مجرّد ثرثرةٍ - داميةٍ وفتّاكة غالباً.

سببٌ آخر لكي لا أطيق السّرد الذي يشابه هذا السَّرْد.

ـ 3 ـ

ألتقي في باريس، وفي غيرها من المدن الأوروبيّة، أشخاصاً كثيرين متديّنين. عندما نتحدّث في أيّة قضيّة يبدون، في آرائهم وسلوكاتهم، أنّهم لا يعيشون في عصر هذه المدن التي يسكنونها، وإنّما يعيشون في الزمن الأوّل الذي احتضن تعاليم دينهم. هذا الزمن، بالنسبة إليهم، هو الأزمنة كلّها. وما نسمّيه الحداثة ليس إلاّ مناسبة تذكّرهم بقدامة هذا الزمن. زمنُ المتديّن هو الزمن الذي يرتبط عضويّاً بالفترة التي تأسّس فيها الدين الذي يؤمن به.

ليس غريباً، إذاً، أن تكون «الحريّة الحرّة»، وفقاً لتعبير رامبو، غائبةً كليّاً عن هؤلاء المتدينين، فكراً وسلوكاً، وأن يحاربوا كلّ من يقول بها، سواء كانوا أفراداً أو جماعات. ذلك أنّ هذه «الحرّيّة الحرّة» هي، وحدها، المحرّرة، وهي وحدها التي تؤسّس لحياة حقيقيّة، ومجتمع إنسانيّ حقيقيّ.

ليس غريباً كذلك أن تنشأ بين العقليّة التي تقود هؤلاء وأمثالهم،

و «عقلية» الطّغيان والطُّغاة، أحلافٌ دائمة ومتينة.

ثمّة في هذا الإطار معتقداتٌ يمكن وصفها بأنّها جهنّميّة.

 

الإنسان الحرّ معنيٌّ بالحرّيّة وحدها.

دون ذلك، تسيطر، حتماً آلة السياسة. تُسيطر لكي تلتهم الناسَ، يميناً ويساراً. وفيما تلتهمهم تعيد خلق المكان والزمان والتاريخ، على صورة ما مضى. تعيد كذلك خلق الموت نفسه في صور وأشكال جديدة. الوحشُ لا يذبح الكائن الذي يشبهه. الإنسان يذبح الكائن الذي يشبهه. يذبح المعنى الإنسانيّ فيه. الوحش الحقيقيّ هو هذا الإنسان الذابح.

وكيفما نظرنا أو نظّرنا، يبدو أنّ السياسات المؤسَّسة على التديّن، إنما هي الطريقة المثلى في الابتعاد عن الدين.

وكيف يصحّ، إذاً، أن يدّعي تحرير غيره شخصٌ هو نفسُه ليس حرّاً، وهو نفسُه طاغيةٌ في فكره وعمله.

 

ـ 4 ـ

كلّ ما تقدّم في هذه المقالة خطر لي، ورسمتُ خطاطةً له، وأنا في الطائرة بين هونغ كونغ وبكين (22 أكتوبر 2012).

كانت ألوان الخريف الذي يلبس قامة هونغ كونغ، أشجاراً وحدائق، تبدو كأنّما أرهقها النّعاس، وأخذت ترقد، لوناً لوناً، على وسائد الفضاء. وخُيِّل إليّ أنّ أشجاراً كانت تعلو حول أنهار النّجوم التي تحاول أن تغيّر مجاريَها لكي تقدر أن تصبّ في بحيرات الحلم، وأنها كانت تنثر بذوراً لملائكةٍ لم يقتنعوا بعد بالهبوط على الأرض.

وكنت قد لبّيت دعوةً خاصّة برفقة شعراء أصدقاءَ يتحلّقون حول الشاعر الصينيّ الكبير بي داو: دعوة وجّهها البحرُ والليلُ إلى الشعر. وأخذتُ أتخيّل كيف سأقول لبحر هونغ كونغ: كلاّ، لست مع الموج في غضبه عليك، ولستُ معك في مآخذك على الموج.

وأعترف أنني شعرت في الطائرة بنوع من الغبطةِ العميقة، لأنني لا أعرف أحداً فيها، ولا رغبة لي في الحديث مع أحد.

لكن، ما أجمل وأغربَ تلك المرأة الصينيّة الوجه، العربيّة الشفتين، التي تجلس إلى يساري، وحيدةً مِثْلي.

أدونيس

المصدر:الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...