أدب الأمراض النفسية والعقلية: حدود هشّة بين الخيال الأدبي والجنون

27-11-2009

أدب الأمراض النفسية والعقلية: حدود هشّة بين الخيال الأدبي والجنون

يقول نيتشه: «دوستُيوفسكي هو الوحيد الذي زادني معرفةً في علم النفس». بالفعل، لطالما سمحت الشخصيات الأدبية باكتشاف تعقيدات النفس البشرية. تداخل الجنون مع خيال بعض الأدباء كموباسان، نيرفال ومارغوريت دورا. فباتوا محلّلين نفسيين يضفون شيئاً من غرابة الهلوسات والهستيريا على كتاباتهم. الهولندي فان غوغ (1853 ـ 1890).
غالباً ما تجمّل الاضطرابات النفسية العالم الأدبي بغرابتها السحرية وتعبيرها العميق عن هشاشة النفس البشرية. إنما هي كذلك عامل تدميري، إذ أنها تجعل من جمالية الكتابة كابوساً تسكنه تعقيدات النفوس المضطربة. الأمراض العقلية والنفسية هي امتداد للمشاعر والغرائز الإنسانية التي تتضخم بسبب الكبت أو الصدمة. أليست الهستيريا حالة من الهيجان الجنسي الذي قد يبلغ درجة الجنون؟ وانفصام الشخصية؟ هو بكل بساطة ذلك الحوار السري الذي يتبادله المرء مع نفسه في خلواته. قد يتطور هذا الحوار الى مرض حين تتحول النفس الى آخر، ممّا يؤدي الى هلوسات وتشتت على مستوى الهوية. تتجلى هذه المبالغات في النثر والشعر، إذ أن الأدب بطبيعته يتجاوز الحدود العقلانية ليفتح أبواب الخيال. فما الحدود بين الشعر وهلوسات المجانين؟ كلاهما يتواصلان بسهولة مع اللاواعي. في هذا السياق، تتحول الشخصية الأدبية الى نموذج يخضع للتحليلات النفسية، ويسمح بتفكيك النفس البشرية ودراستها بعمق. هكذا، غالباً ما تتفاعل الآداب مع نظريات علم النفس أو تتكامل معها، فتتلاءم كتابات كلٌّ من الأدباء مع تحليلات أحد العلماء النفسيين في حركة تداخل بين النظرة العلمية وجمالية النثر والشعر.
في سياق حركة التفاعل بين مجاليّ العلم والأدب، نجح دوستُيوفسكي في لعب دور الكاتب والمحلّل النفسي في آن، إذ أنه آثر تحكيم فكره على الغوص في الوجدانيات وعالم المشاعر المجرّحة. فبرع في التعبير عن تجربة حقيقية قاسية من خلال نظرة واقعية وعميقة سلّطها على النفس البشرية. في 16 تشرين الثاني 1849، حُكم على دوستيوفسكي بالإعدام لأنه دافع عن حرية الصحافة، إلغاء العبودية وإصلاح القضاء. إنما أُعفي عنه وتمّ تخفيض الحكم الى 4 سنوات من الأعمال الشاقة في سيبريا. عانى في السجن من أول نوبة صرع. إنما تعرّف كذلك في هذا المكان المخيف على نفسية المجرمين الذين باتوا أصدقاءه في حياته اليومية. لدى خروجه من السجن، ألّف عدّة روايات من وحي سنوات الأعمال الشاقة. ساهمت هذه التجربة الصعبة في تطوير قدراته الذهنية وترسيخ شخصيته كمحلّل نفسي، فامتلك موهبة معرفة النفس البشرية. في «شاعرية دوستُيوفسكي»، يؤكد ميخائيل باختين على أن هذا الأديب العظيم نجح في إبراز حالة التناقض التي تعيشها شخصياته من خلال مقاربة سيكولوجية واقعية، إذ أنه غاص في عمق نفس كلّ من الشخصيات بدقّة، ووصف تفاعلها مع سائر الشخصيات الروائية ضمن ديناميكية معقّدة، فنجح في عرض حركة التبدلات النفسية وتحوّلها.
عام 1866، نشر دوستيوفسكي رواية Crime et Châtiment «الجريمة والعقاب» حيث برع في تجسيد حالة الشعور بالذنب المرضية. إذ أن بطل القصة يرتكب جريمة. يقتل امرأة عجوز ليسرقها، مبرراً جريمته بأفكار ترتبط بالعدالة الاجتماعية. على المستوى النفسي، يغوص الروائي في نفسية المجرم مسلطاً الضوء على عمقه الإنساني الذي ينمو فيه الشعور بالندم. بالفعل، يغرق القاتل في حالة تخبّط وضياع تؤثّر على صفاء ذهنه؛ «راودته حينها فكرة فريدة: قد تكون كل ثيابه ملطّخة بالدماء، أو ربما هي متّسخة ببقع الدم، وهو عاجز عن رؤية ذلك، ربما لم يلاحظها لأن قدراته العقلية تضاءلت وتشوّشت... غرق عقله في الظلمة...». كما أن اضطرابه تحوّل الى هلوسات؛ «تهيّأ له فجأةً أنه سمع وقع خطى أحدهم في شقة العجوز. (...) إنما كان الصمت مخيّماً: إذاً لم يكن ذلك سوى رؤيا». هكذا، تأسُر الجريمة القاتل، تسكنه، تصبح جزءاً منه. تلك الضحية المقتولة، التي رُميت جثّتها في مكان ما، تلاحق قاتلها، وتحطّم له نفسيته. وقد نجح دوستويوفسكي بالإحاطة بهذه الحالة في كتاباته بامتياز.
أما في رواية Le Double «المُزدوج» فيبرع الكاتب في إبراز حالة انفصام الشخصية، إذ أن بطل القصة السيد غوليادكين يرى قرينه أمام عينيه؛ لم يصرخ السيد غوليادكين، لأنه أدرك في قرارة نفسه أن ما يراه هو جزء من خياله، يريد التواصل مع ذلك الكيان المنفصل عنه، وهو ليس سوى مرآة نفسه. بالفعل، في أحد فصول الرواية، يحاول السيد غوليادكين ان يتكلم مع قرينه الذي يلاحقه في كل مكان، فيركض وراءه. ولكنّ قرينه السيد غوليادكين الشاب يهرب منه ساخراً. أخيراً، ينجح في إقناعه بضرورة لقائهما قائلاً: «جاكوب بياتروفيتش! لم أكن أبداً عدوك. بعض الناس الأشرار أساؤوا الظنّ بي... أنا حاضر للكلام معك... جاكوب بياتروفيتش، هل تريد أن نلتقي لنشرب القهوة معاً؟ حينها، وبكل صدق، كما قلت مؤخراً، بشفافية وكرم أخلاق، حين نلتقي في المقهى، سنتفاهم على كل شيء، أنا أؤكد لك ذلك، يا جاكوب بياتروفيتش! حينها بلا شك، سنفهم كل شيء...». يركض بطل الرواية وراء ذاته، ربما هو يعي أنه لن يشعر بتحسن إلا حين يتوصّل الى تفاهم مع نفسه. بالفعل، يؤكد ميخائيل باختين في كتابه على أن شخصيات دوستُيوفسكي الروائية تعي نفسها بالكامل، كما يُبرز لنا الحوار الداخلي التالي؛ «ربما قد أكون أنا رحت الى هناك، و... قد أكون ظننت نفسي شخصاً آخر... باختصار، هذه مسألة بغاية الغرابة». وما إن حسم السيد غوليادكين الأمر بأن هذه المسألة غريبة حتى ظهر غوليادكين الشاب في الغرفة بشكل مفاجئ، وكان يحمل ملفّات في يديه وتحت ذراعه. تلك هي لحظة الصدمة التي تفتح على تساؤلاته آفاقاً غير محدودة. بالفعل، يبدو بطل دوستُيوفسكي وكأنه الفيلسوف العاجز عن إيجاد أجوبة، هو يفكّر باستمرار. ولكنه هل يجد جواباً حاسماً؟ لذلك يؤكد ميخايل باختين على أن دوستويفسكي لا يبالي في ما تجسد الشخصية للعالم، بل ما يجسده العالم للشخصية. بالفعل، تغرق هذه الشخصية الروائية في نفسها، في أفكارها وهواجسها. نلاحظ في هذا السياق أن السيد غوليادكين لا يبدو وكأنه يتفاعل بعمق مع محيطه الذي يتحوّل الى مجرد ضجيج: «دوّى صراخ أعدائه الحاد والهمجي خلفه، وكان بمثابة وداع. خلال برهة زمنية، ظهرت بعض الوجوه حول السيارة التي كانت تقلّه، ابتعدوا شيئاً فشيئاً حتى اختفوا بالكامل. برز وجه السيد غوليادكين قرينه الوقح لمدة طويلة». إنها نفسه الطاغية على المشهد، يرى العالم من خلالها. يجب ألا ننسى إذاً أن دوستويفسكي تأثر بعمق بتجربة السجن، وهو مكان مُغلق مليء بالأرواح المعذبة المنفصلة بالكامل عن العالم الخارجي.
جنون الحالم
بعكس دوستويوفسكي، مزج جيرار دو نيرفال الجنون بالرومنسية الأدبية. فللهذيان سحره الخاص، إذ أنه يحمل الكاتب على أجنحة الخيال ويقدّم له صوراً ساحرة يصعب إيجادها في الواقع. لم يتعمّق نيرفال في تحليل الاضطرابات العقلية، بل اعتبرها امتداداً للخيال الشعري الغارق في صور وهمية وأحلام ملائكية. وقد قال ألبير باغين في هذا الصدد: «جيرار دو نيرفال هو بلا شك، من بين كل الأحياء، أكثر من ثبت باستمرارية في حالة الشعر». نيرفال هو إذاً شاعر في الدرجة الأولى، وليس عالم نفس. استمد من اضطرابه وحياً أدبياً منفلتاً من قيود الواقع. قد يكون قلبه الممزّق هو الذي دفع به نحو الجنون. إذ أنه وقع في غرام جاني كولون التي سخرت منه. إثر وفاتها، غرق في حالة من اليأس العميق. وبالرغم من سفره الى إيطاليا، ألمانيا، هولندا والشرق، عجز عن تخطي مأساته، ففقد صوابه عام 1841. بعد أن شفاه الدكتور بلانش، انكبّ على الكتابة مفجراً طاقته المكبوتة في المجال الأدبي. إنما، ظلّ الألم يلاحقه والاضطراب يشوّش أفكاره. وفي 26 كانون الثاني 1855، اكتُشفت جثّته المشنوقة الساعة السادسة صباحاً. تجلّى اضطراب جيرار دو نيرفال النفسي والعقلي بشكل خاص في روايته أوريليا، حيث يعرض رؤى الهذيان من دون أن ينكرها، أو يحاربها، بل هو يكتفي بتفسيرها، وتحديد علاقتها بالمكان، الظروف، الأحداث، الذكريات والأحلام. واجه نيرفال في قصائده هواجسه ومصائبه العاطفية، فتمازجت الصور والرؤى والأحلام في كتاباته. عبّرت آخر صفحات الجزء الثاني من أوريليا، الذي وُجدت نصوصه في جيبة الكاتب المشنوق، عن اضطرابه العقلي الذي حوّل حلمه الى كابوس.
تداخلت كتاباته باضطرابه كما تجلّى لنا في أوريليا. وقد جعله جنونه يشعر أن صورة جاني تلاحقه ليلاً ونهاراً، إذ تهيّأ له أن رأى شبحها يحلّق فوق رأسه. خلال أزمته هذه، خُيّل له أنه انتقل الى بيت رينان، ومن ثم الى شوارع المدينة الغامضة، وأخيراً الى بيت خاله في مورتفونتان، ممّا جعله يؤمن أن لا شيء ينتهي في هذا العالم. فصلته تلك الرحلة الخيالية عن الواقع الأليم، فحلّق على أجنحة السحر. تراءى له قرينه، فسكنه هاجس أنه يريد إبعاده عن أوريليا. عاش حينئذٍ حالة تقلّب بين الحلم واليقظة كما يظهر في أول فصل من الرواية: «الحلم هو حياة ثانية. لم أستطع عبور أبواب العاج أو السنديان الى العالم الخفي الذي يفصلني عنك من دون أن أرتعش». في هذه اللحظة الأدبية المليئة بالشغف، تجلّت أوريليا في أحلامه قائلةً: «أنا مثل أمك، ومثل كل النساء اللّواتي أحببتهن». بما أنها تتماهى مع أمه ومع العذراء، سهل على نيرفال الوقوع في غرامها. بالفعل، يقول الكاتب في هذه الرواية: «لقد فهمت أنني فضلت المخلوقات على الخالق؛ لقد ألّهت الحب وعبدت، تبعاً للطقوس الوثنية، المرأة التي كرّست آخر نفس لها للمسيح». في هذه الأجواء التي تأرجحت بين الوهم والواقع، تحلّ الملائكة السوداء وجنيّات عالم الشرق الساحر محل ملائكة سوادنبورغ البيضاء. تتحوّل الكآبة الى يأس، فبات التعب إرهاقاً. قريباً تنطفئ الشعلة، إذ لم يعد ينبعث منها سوى نور خافت يضيء وجوه مهرجين وأحلام مرعبة تذكرنا بصور منسية و غير مفهومة. دقّت ساعة الموت، وآخر ما رأته عينا جيرار دو نيرفال المحتضرتان هو أجنحة الغراب الأسود.
الذعر
أما غي دو موباسان فشكلّت كتاباته مرآةً لنفسه غير المتوازنة. وقد اختلف خياله الأدبي عن أجواء جيرار دو نيرفال، إذ أن عالمه الأدبي مجرّد من براءة الأحلام، وغارق في عالم الخوف واليأس الانتحاري. برع موباسان في عرض حالة المذعور من هلوساته من خلال أسلوبه الأدبي المميّز. وغي دو موباسان كاتب وصحافي لامع، إذ أن غوستاف فلوبير كان مرشده في مجال الكتابة. أشهر مؤلفاته حياة «Une Vie» الذي بيع منه 25 ألف كتاب في أقل من سنة. عادى هذا الروائي الدين بسبب التربية الكاثوليكية القاسية التي تلقّاها في أولى سنوات المراهقة. ومال في شبابه نحو العزلة والتأمل، فسافر الى عدة بلدان كالجزائر، إيطاليا وإنكلترا، ممّا أغنى خياله الأدبي. فبرع في الكتابة بين عاميّ 1880 و1890، قبل أن يغرق في حالة من الجنون. في آخر أيام حياته، عاش وحيداً، فنمت في ذاته غريزة بقاء مرضية وخوف متواصل من الموت. يبدو أن هذه العوارض مرتبطة بمرض وراثي، إذ أن والدة موباسان عانت من انهيار عصبي وأخوه توفي مجنوناً. كما أن مرض السيفليس الذي أصابه في شبابه أثّر تدريجياً على قدراته الذهنية. حاول الانتحار في أول كانون الثاني 1892، ولكن خادمه فرانسوا تاسار أفرغ مسدسه من الرصاصات. كسر موباسان حينئذٍ زجاجة إحدى النوافذ، فتمّ حجزه في عيادة الدكتور إميل بلانش حيث أمضى 18 شهراً فاقداً وعيه بشكل شبه كامل، ثم أصيب بالشلل ومات.
تجلّى الجنون، الانهيار والهذيان في روايتيّ غي دو موباسان Le Horla «الهورلا» وLa Chevelure «الشَعر»، إذ أن كلاًّ منهما تبدآن بكلمتي: «المجانين يجذبونني...». Le Horla رواية قصيرة، هي عبارة عن مذكرات كاتب في أول مراحل جنونه. «الهورلا» شخصية غير مرئية يشعر بطل الرواية بوجودها في كل مكان. إنما للهورلا شيء من مميّزات الجسد الانساني، إذ أنه يشرب الماء. من خلال هذه الصورة المجازية، نجح الكاتب في التعبير عن حالة الريبة والهذيان التي يعيشها المريض العقلي. إنه الذعر! الخوف الشديد، إذ أن المجنون ما زال يعي بشكل من الأشكال أن أفكاره خارجة عن المنطق، فيخاف من نفسه. يحرق بطل القصة بيته بهدف التخلّص من هذه الشخصية الوهمية، إنّما الخدم المنزليون هم الذين يلقون حتفهم، ويبقى الهورلا حياً في مكانٍ ما بين الحقيقة والوهم، أو ربما بكل بساطة في عقله المريض، إذ أنه يقول: «لا... لا... من دون أي شك...لم يمت...إذاً...إذاً... يجب إذاً أن أقتل نفسي!..». تتضمن الحالة المعروضة في هذه القصة القصيرة مختلف عوارض انفصام الشخصية، كالازدواجية، الهذيان والأفكار الانتحارية. نجح موباسان بالتعبير عن الجنون بشفافية من دون اللجوء الى التحليل النفسي أو الى ربط الاضطراب بجمالية شعرية.
أما في رواية La Chevelure («الشَعر») القصيرة، ذات السحر الغريب، فيحل التفاعل بين 3 شخصيات محل الازدواجية القائمة على علاقة مضطربة بين شخصيتين في Le Horla. ففي La Chevelure، تعرض الحبكة القصصية ثلاث شخصيات؛ سارد القصة، المجنون والطبيب. يعيش المجنون في حالة هوسٍ بشعر إحدى النساء الساحر. يترأى له أن الميتة صاحبة ذلك الشعر عادت الى الحياة وباتت عشيقته. يكتب هذا الرجل الغريب الأطوار قصة غرامه الوهمية على صفحات مذكراته، فيقرأها سارد القصة من دون التدخل بمجرى الأحداث. نلاحظ أن الروايتين القصيرتين Le Horla وLa Chevelure ترتكزان على مذكرات مجنون، إذ أن ذلك المريض الفاقد صوابه راح يكتب ليصف هواجسه وهلوساته. لذلك، غالباً ما يشك العلماء في أن بعض النصوص الأسطورية أو الدينية قد تكون نابعة من خيالات نفوس مضطربة. هل ذلك صحيح؟ وما هو الجنون؟ ومن قال إن المنطق الطاغي حالياً على العالم الانساني ليس ناتجاً عن وهم أو خيال؟ لا يمكن الحسم في هذا المجال.
هستيريا أدبية
يجسّد عالم مارغوريت دورا الأدبي الحالة النسائية المرضية بامتياز. دورا هي الأم التي صعُب عليها تخطّي وفاة ابنها لدى ولادته، كما أنها المثقفة السياسية والأدبية. نشرت عام 1943 أولى رواياتها Les Impudents «السفهاء»، وكان أدبها في تلك الحقبة ما زال ينتمي الى الأجواء التقليدية. ابتداءً من سنة 1955 بدأت كتاباتها تتأثر بمدرسة الرواية الحديثة «Nouveau roman». وعلى الرغم من أنها أبدعت في الستينيات في مجالات الأدب، السينما والمسرح، غرقت في إدمانها على الكحول. شاركت في ثورة 1968. لم تعجبها الأفلام المُقتبسة عن أعمالها الأدبية، فأخرجت بنفسها Détruire, dit-elle عام 1969. عاودها إدمانها الكحول في السبعينيات، ونشرت أفضل أعمالها الأدبية L’Amant عام 1984 الذي نال جائزة غونكور. أما في روايتها La Vie matérielle «حياة مادية» (1987)، فقد حاولت تحليل حالة الإدمان على الكحول.
تمّت دراسة روايتها Le Ravissement de Lol V. Stein إفتتان لول ف. شتاين على ضوء نظريات لاكان النفسية. تفقد بطلة القصة صوابها حين تكتشف أن خطيبها وقع في غرام آن ـ ماري ستراتار خلال حفلة راقصة. إثر هذه الصدمة العاطفية، ظلّت لول ف. شتاين غريبة الأطوار وخائرة القوى لمدّة طويلة، فتزوّجت من رجل يدعى جان بدفورد، وأنجبت منه 3 أولاد، إنما لازمتها هشاشتها حتى خلال حياتها الزوجية. وتؤكد صديقتها تاتيانا أنها كانت مضطربة منذ سنوات الدراسة. تُروى قصة هذه المرأة من وجهة نظر رجل مُغرم بها، يُدعى جاك هولد. وقد تمكّن هذا الأخير من تحليل شخصيتها بذهن صافٍ، إذ أنه يسرد الرواية من دون أن يعيش الاضطراب. يظهر جنونها وكأنه ناتج عن تفكّك تدريجي للشخصية الروائية. إنه ضياع الهوية الذي يؤدي الى تشرذم الذات البشرية. في هذه الأجواء، تؤثر الحالة المرضية على العلاقة بمرور الوقت. يتجلّى لنا ذلك بفضل أسلوب الكاتبة الذي يسمح بتداخل الحاضر بلحظة الماضي المرتبطة بمشهد حفلة الرقص. غالباً ما تتحكّم الصدمات العاطفية بشعور المريض بمرور الوقت. فالإنسان المضطرب أسير لحظة، يعجز عن تخطيها على الرغم من مرور السنوات. وقد نجحت الكاتبة في تجسيد هوس العودة الدائمة الى لحظة الانهيار من خلال هذه التقنية الأدبية.
ويترافق الاضطراب برغبة تدمير الذات في روايات مارغوريت دورا L’Amante anglaise «العشيقة الانكليزية»، L’Amour «الحب»، Le Vice-consul «نائب القنصل»، Détruire, dit-elle «قالت، تدمير». تتبلور الأزمات النفسية في مختلف الأجواء القصصية، فيبرز إدراك دورا الحدسي للهستيريا. وقد أدّت الدراسات عن العصاب النفسي والجزع لسيغموند فرويد الى استنتاج أن هذه الحالة ناتجة عن رغبة جنسية مكبوتة، تتسامى عن الشهوة الغرائزية. تحبّ مارغوريت دورا شخصياتها الفاشلة والتعيسة التي تجذبها وتخيفها هوّة الانهيار؛ إذ أنها تقول: «لا أحب سوى الشخصيات الهشة، هم وحدهم أحياء في الحقيقة!». ومن جمالية الجنون الى واقع المرض العقلي الرديء، تتعدد الحالات وتختلف الأجواء. وتبقى في نظرة الأديب تلك الرحمة المطلقة على الكائن البشري الذي يقرأ الروايات لأنه يجد فيها شيئاً من التفهّم والكثير من الجمال.

منيرة أبي زيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...