أبناء سيزيف يفضّلون السفرجل

05-03-2016

أبناء سيزيف يفضّلون السفرجل

هناك تفريق استشراقي بين غرب عقلاني وشرق روحاني. ذلك ينتهي في الشرق إلى تقديس للوطن مقابل العجز عن إقامة الدولة، الحنين إلى الوطن لا يفهمه الغربي الذي يستغرب كيف يحن الشرقي إلى بلاد هجرها، الدولة الشرقية استبداد وعنف ودم بينما دولة الغربي مصالح وأرقام، هكذا تقوم من ناحية جماعات سلفية ومن ناحية أخرى مثقفون يصنمون الوارد الغربي من أمثال الحداثة وما بعد الحداثة.

ثمة تعريف من التعريفات المهمة للاستشراق، يرى فيه أسلوباً فكرياً قائماً على التمييز الوجودي والمعرفي بين «الشرق الروحي» و «الغرب العقلي».
البون الشاسع ما بين هذا «الشرق الروحاني» وذاك «الغرب العقلاني» أكثر ما يوضحه هو طريقة تعاطي المنتمين إلى كل منهما مع فكرتي الوطن والدولة، إذ يبدو أن تمسك الشرق (العالم الثالث عموماً) بفكرة الوطن «كإيمان» يعكس محدودية قدرة المنتمين إليه (كي لا نقول عجزهم) عن التعاطي مع فكرة الدولة «كبنيان»، فكرة أسس لها العقل الغربي، وأخضعها إلى جملة من الشروط لا نجد فيها أثراً لأي بعد روحاني.
وعليه، فحالة التمايز الحاصل بين «الدولة» و «الوطنْ»، أو ثنائية «الدولة الظالمة» و «الوطن المظلوم» والتي يبرع أبناء الشرق في إيجاد الفوارق بينهما؛ تبدو حالة غير موجودة لدى مواطني «المليار الذهبي»، وخير ما يوضح هذه الفكرة هو موقف كل منهما من فكرة «الحنين إلى الوطن»، فإذا صادفَ واستمعتَ إلى حوارٍ يدورُ بين شخصين ينتمي كل منهما إلى أحد هذين العالمين ـ وقد التقيا صدفة على رصيف محطة قطارات في مدينة أوروبية ـ فإنكَ قد تهجر ـ إلى غير رجعة ـ فكرة «حوار الحضارات» لتعتنق ـ دونَ أنْ يرف لكَ مُعتقدْ ـ فكرةَ «صراع الحضارات».

العملة الصعبة وقتل البشر
في حوارهما المفترض سينبري «العالمثالثي» شارحاً حالةَ الحنين إلى وطنهِ وكأنما علقَ في حلقهِ سفرجل منتظراً لفتة مواساة يمنُّ بها عليه ذلك القادم من الغرب؛ حيث تنتشر آلات صكِ العملة الصعبة وقتلِ البشر، لكن صاحبنا سيُصاب بالذهول عندما يسأله الغربي ببرود لا يرقَى إلى حرارة المشهدْ:
ـ «إذا كانَ هذا هو الحنين إلى الوطن فلمَ تريدهُ أنْ يقتلك، اقتله أنتْ وعدّ إلى بلادك».
عندها سيقول سليل الشرق في سره: «يا لقسوتكم معشرَ الفرنجة فحتى الحنينُ لا يعرف إلى قلوبكم سبيلاً»، وبعد ذلك سيبتلع آخر غصة من سَفرجل الحنين شارحاً أسبابَ تشرده على أرصفة الغربة:
ـ «إنَّها البطالة وانعدامُ الأمن في وطني، إضافةً إلى سقفِ الحريّات المتداعي أو الواطئ مصحوباً بانعدامِ الديموقراطية، ثم إنه من حقي أنْ تكون لي حياة وادعة هنا، ولكنْ عليّ الحصولْ على الجنسية الأجنبية أولاً، ليس لغاية الحصول على معونة البطالة، بل لأحمي نفسي إذا عُدتْ إلى وطني».
يستوقفه «الغربي» بملامح حياديّة
ـ هل أفهم أنّ المشاكلَ التي تمنعكَ من العودة إلى وطنكَ هي نفسها التي تسببها دولتك؟ أنت تذكّرني بقصيدة لبودلير يقول فيها: أنا الجرح والسكين، أنا الصفعة والخد، أنا الأطراف ودولاب التعذيب...».
سينتهي الحديث هنا، إذ قبل أن يُكمل الغربي القصيدة؛ سينهض صاحبنا مدمدماُ أغنيةَ من شعر (مظفر النواب) يغنيها (ياس خضر) بصوت هو من البؤس الأزلي استثناء. بدوره، سيغلق الغربي «الآي باد» المدموغ بعَلمِ دولته ويمضي خفيفاً كعصفور.
هذا المشهد يتكررُ يومياً ـ ولعشراتْ المراتْ ربما ـ في باريس وبرلين ولندن، وربما عاشَه البعض كلاعبٍ أساسي، والبعض الآخر كمجرد شاهد، مبدئياً هو مشهدٌ رديءٌ لجهةِ اللغة المسرحيٍّة، وربما سيزدادُ تواضعاً لو تم ّ إخراجه بالطريقة ذاتها التي أُخرجتْ بها مسرحية: «أمامَ بابِ السفارة كان الليلُ طويلاً» لنضال الأشقر، لكنه سيبقى مشهداً يعكس حالة الفصّام بين فكرة الوطن من جهة، والدولة من جهة أخرى، لدى السواد الأعظم من مواطني العالم الثالث، مقابل حالة التصالح بينَ هاتين الفكرتين لدى مواطني المليار الذهبي، أولئك الذين تلقّوا الوطن مُغلفاً بقشرةٍ صلدةٍ منَ الدولة بوصفها مؤسسة راعية، فغابَ لديهم كلّ فارقٍ بين مفهومي «الدولة القائمة» و «الوطن المُشتهى»، ولهذا السبب لا نلمح في نظرتهم للوطن أبعادَ «العِتّالة» بمعنى: «مَن يحمل مَن؟» لأنَّ مبدأ دولة القانون ـ وليس مبدأ «إن لم تكن ذئبا أكلتكَ الذئاب» ـ تولّى حلّ تلكَ المُعضلة، فباتَ الجميعُ يحملُ الجميع، وبات حديث أهل الغرب عن دولهم ينحصر بلغة الأرقام التي لا تفوحَ منها رائحةُ الدمِ و «التعتير» التي تميز حديث أبناء «سيزيف» عن أوطانهم، أوطان مُعاقة تنوء من حملها الظهور، البعض منهم يحملها ليحميها من عسف الدولة البوليسية، والبعضُ ليتاجر بعاهتها، والبعض يحملها ليتذكر ـ وفقط ليتذكر ـ أنَّه بلا ظهر.
ربما تكون جملا قاسية تلك التي أسوقها هنا، لكنها جملٌ يصلُح معها قول الفيلسوف الفرنسي ديدرو: «الجمل القاسية أشبه بالمسامير الحادة، تفرضُ الحقيقةَ على ذاكرتنا»، حقيقة تقول أنه في غياب مشروع تنويري واضح المعالم لا يملك الشرق في مواجهته مع العقل الغربي ومنتجاته إلا واحداً من ثلاثة خيارات: إما اللجوء الى روحانيته واستخدامها لشيطنة كل ما ينتجه العقل الغربي، أو أن يذهب نحو التبني المطلق للفكر السلفي وبالتالي، يُكفر كل ما يقترحه العقل الغربي من قيم لها علاقة بالدولة المدنية ومفهوم المواطنة وتداول السلطة، أو أن يذهب إلى درجة التبني الصنمي لكل ما ينتجه الغرب من أفكار يعجز هو عن المساهمة بها؛ اللهم إلا من خلال الدفاع المستميت عنها وذلك على غرار تعاطي النخب العربية مع مفاهيم مثل «الحداثة» و «ما بعد الحداثة» و «السوريالية» و «صراع الحضارات» وغيرها.
خطورة هذا الخيار تكمن في أنه يفسح المجال أمام إعادة تعريف الشرق من منظور استشراقي بحت، تماماً كما حصل في عام 1492 عندما اكتشف السكان الأصليون للقارة الأميركية ـ بحسب تعبير ادواردو غليانو ـ أنهم كانوا هنوداً حمراً، وأنهم كانوا يعيشون في أميركا، وأنهم كانوا عراة، وأنه كانت هناك خطيئة، وأنهم مدينون بالطاعة لملك وملكة من عالم آخر، وإله من سماء أخرى، إله اخترع الخطيئة، وأمر بحرق كل من يعبد الشمس أو القمر أو الأرض، أو حتى المطر.

 

عصام التكروري: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...