«مشتى الحلو» عرض للهواة بمعايير محترفين

03-03-2016

«مشتى الحلو» عرض للهواة بمعايير محترفين

يعرف السّوريّون مشتى الحلو جيداً، فاسم المكان يُذكّرهم بحركةٍ سياحية استثنائية ميّزت المنطقة قبل الحرب، لكنّ ربيع المشتى انحسر حين علا صوت الرّصاص في البلاد، وبدلاً من الإعلانات الترويجية للحفلات والفعالياتِ الترفيهية، صار زائر القرية الجميلة يُشاهد صورَ الشّهداءِ معلّقةً على الجدران وواجهات المحلات.
وُلدت منصّة «الملتقى الثقافي العائليّ في مشتى الحلو» من رحمِ حرب السنوات الخمس، وتحوّلت سريعاً، كما شجرة «الدّلبة» في مركز القرية، إلى هويّةٍ تُميّز المشتى وتجلب إليه مثقّفي سوريّا وفنّانيها بصورةٍ دوريّة. بسّام كوسا كان حاضراً في الملتقى يوماً، كذلك فعل كلّ من نزيه أبو عفش ومحمد عبد العزيز، جميعهم خرجوا بانطباعاتٍ إيجابية، وتلمّسوا حراكاً خاماً لم تلوثّه صحافة صفراء ولم ينل منه تنظير «مثقّفي» العاصمة.
يحصل الملتقى، الّذي يُديره الشاب وائل صبّاغ، على تمويلٍ خجولٍ (جدّاً) من مغتربي القرية. هذه الهبات البسيطة تُسهّل تنظيم أنشطةٍ ثقافيّةٍ بميزانيات محدودةٍ للغاية، فيحتضن المكان أمسياتٍ شعرية وموسيقية ومعارض للنّحت والفنّ التشكيلي. هذا كلّه يحدث في غرفتين متواضعتين لا تزيد مساحة الواحدةِ فيهما عن عشرين متراً مربّعاً.
مؤخّراً، قدّمت فرقة مشتى الحلو المسرحية، الّتي تأسست في العام 2013 بمساعٍ من المسرحيّ الحمصيّ بسّام مطر، عرضاً للهواة حمل عنوان «لَو على لَو» فكرة وموسيقى وإخراج حسام الشاه.
هناكَ صنفٌ سهلٌ، نسبيّاً، من مسرح الهواة، يقوم على تحويل «الممثلين» إلى لاعبين يشتغلون وفق مبدأ المجاميع، حيث يعمل المخرج على توظيفهم كأداةٍ لصناعةِ تشكيلاتٍ بصريّة وحركيّة تُحقّق عنصر الفُرجة. هنا لا يجد الممثل نفسه مضطراً للتعامل مع شخصيّة ذاتِ عوالم وتاريخ ومفرداتٍ وسلوك، كما أنّه، في هذا الصنف من المسرح، يكون مجرّداً من خياله، حيث تقتصر وظيفته على خدمة «ميزانسين» المشهد كما جرى رسمه في ذهنِ المُخرج.
لم يذهب حسام الشّاه نحو ذاك الفضاء السّهل، بلّ «ورّط» فتياناً وفتياتٍ في مقتبلِ العمر بوظائف تمثيلية تُشكّل جوهر دراسة طلّاب السنة الثانية في المعهد العالي للفنون المسرحية/ قسم التمثيل، حيث أسند إلى فريقه مهمّة الشغل على «أنماطٍ» تمثيلية فاقعة. بعضهم نجح في تقديمِ أداءٍ يُدلّل على وجودِ موهبةٍ يُمكن أن تقودَ صاحبها إلى عالمِ الاحترافِ إذا صُقلت كما يجب. هذه مغامرةٌ تُحسب لمخرج المسرحية.
في مسرح الهواة، لا نستطيع أن نُحاكم العرضَ وفق معايير احترافية. شرط «الغروتسك»، مثلاً، لم يكن كاملاً في «لَو على لَو»، ولم يكن استكماله ممكناً مع فريقٍ لم يطأ الخشبة قبلاً. هُنا، يُمكن لأيّ ناقدٍ أن يصطادَ العرض ويغمزَ إلى خللٍ بُنيويّ ما، لكنّ ذلك لا يُلغي حقيقةَ أنّ الشّاه وممثّليه قدّموا عرضَ هواةٍ يستحقّ أن يُقال عنه، من دون مبالغةٍ أو محاباة، إنّه جيّدٌ ضمن صنفه وظرفه.»لو على لو... صارت لو كبيرة... لو ما قلنا لو.. ما كنّا فتحنا هالسيرة» هكذا يقولُ مطلع الأغنية الّتي اختتم بها الشّاه عرضه، والّتي تلخّص، بطريقةٍ ما، محتوى المسرحيّة ورسالتها، حيث أنّ جميع شخوص العمل تطوفُ حولَ افتراض «لَو» القدريّ، فلو لم تصدم السيّارة أحد الممثلين (منذر عيد) لما صار من ذوي الاحتياجات الخاصّة، في حياته وعلى الخشبة، ولو لم تقيّد طُقوسُ العزاءِ وتقاليدها ممثلة ثانية (كاترين خوري) لما صارت تكره أفراحَ النّاس وتلعن أعيادهم، ولو لم تُحَطْ الممثلة الشابة (إيلينا ميخائيل) بأسباب الذكورة لما تحوّلت إلى صبيّة فظّة مهووسة بتكسيرِ أسنانِ النّاس، ولو لم يُختطف أحد الممثلين (كرم بعّاج) أثناءَ توجّهه إلى امتحانِ قبولِ المعهد العالي للموسيقى لصار عازفاً محترفاً، ولَو لم تقم هذه الحرب في سوريا، لما كان هناك مسرحية يقول جميع ممثّليها «لَو».
في المجتمعات المنكمشة، كمجتمع مشتى الحلو، يكون مفعولُ عرضٍ مسرحيّ كهذا مضاعفاً ووازناً. بين الممثلين صبايا من أبناءِ القرية، وبينهم شبابٌ من دير الزور، وآخرون من حمص ومدنٍ سوريّةٍ عدّة، عملوا معاً فكان العرضُ حسب ما كُتب على «بروشّوره» من بطولةِ «شباب وصبايا من هالبلد» لا شكّ أنّ حياتهم قبل «لَو على لَو» لن تكون كما بعدها. هذا أيضاً يُحسب للشاه، الّذي عاف صخبِ دمشق واحترافها إلى حين، وقرّر تقديم بعض ما لديه من جهدٍ ومعرفةٍ في عملٍ طوعيّ ضمن مربّعٍ لا ضوء فيه ولا ميديا تمجّده.

رامي كوسا

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...