«كذبة» تخفّف وقع الغياب القاسي للحبيب

01-01-2009

«كذبة» تخفّف وقع الغياب القاسي للحبيب

«اذكريني»، كتبها ورمى بنفسه من أعلى صخرة على قمة جبل قاسيون الشامخ المطل على مدينة دمشق. عاشق متيّم لم يتحمل أن تفارقه حبيبته، التي فضلت رجلاً آخر عليه، فاختار الموت بعدما خطّ كلمة «اذكريني» على الصخرة الشاهقة، التي رمى بنفسه من عليها انتحاراً. تناقلت الألسن الرواية فسمّيت هذه الصخرة صخرة «اذكريني»، وتحولت إلى ملتقى حميمي للعشاق، بعيد من عيون الناس وأفواههم الفضولية.
التقى المتضادان، الحب - الحياة والحب - الموت. التقيا في لحظة ضعف وانتقام، ليُسكتا دقات قلب العاشق الدمشقي الحارة. هذا العاشق ليس الأول من نوعه، إذ تتابعت لقاءات الحب والموت منذ أن لجأ كل من الشهيرين روميو وجولييت للموت دفاعاً عن حبهما، وأسفرت مأساة الحب المستحيل عن نتائج مؤلمة للكثيرين، وإن من دون أن يحققوا شهرة عالمية كتلك التي حققها المغرم روميو.
«لا أدري إن كانت كلمة مؤلمة تصف ما مررت به»، يقول أبو سلمى (56 عاماً) بأسى عن الذكريات. ويتابع: «نعم لقد فقد الكثير من الشبان حياتهم ثمناً لحب مستحيل، وهذا ليس بالقليل، ولكن أنا أيضاً دفعت أجمل لحظات عمري ثمناً للموت... أعيش موت شريكة حياتي وزوجتي الراحلة كل يوم».
تنكمش تجاعيد العمر المتبعثرة على جبينه، ويسدل جفنيه متجاهلاً الدموع ويضيف: «أشتاق اليها في كل لحظة، أفتقد وعودها بأن نكمل مشوار الحياة معاً، لا أدري كيف سرقها الموت غفلةً وتركني وحيداً مع ابنتين صغيرتين».
توفيت زوجة أبي سلمى بعد خمس سنوات من زواجهما، وبقي وفياً لحبهما ولم يرضَ أن يتزوج، بل أصبح لابنتيه الأب والأم معاً، كرس لهما وقته بالكامل. وبعد نهار عمل شاق ينفرد وحيداً في غرفته مع طيف زوجته الجميل، تمرّ الأعياد والمناسبات، عيد زواجهما، ذكرى خطوبتهما، ذكرى أول قبلة... إلا أن ذكرى وفاتها الباردة الكئيبة تطغى على كل مناسباتهما معاً.
يقول ابو سلمى: «طيفها لم يفارقني. هو الذي أعانني ودفأني في ليالي وحدتي. تعايشت مع رحيل جسدها مستعيناً بروحها. كنت أشكو لها دائماً. أحكي لها يومياً عن ابنتينا الجميلتين، عن مدرستهما، أصدقائهما، عن كل شيء... أخبرها أيضاً عني، عن روحي التعبة من دونها. عن فرحتي التي سرقها غيابها... أخبرها كيف أتخيلها دائماً في زوايا البيت، كيف أذهب إلى مطعمنا المفضل وأختار الطاولة التي اعتدنا الجلوس عليها، أطلب لها قهوتها وأنتظر... أنتظر من دون جدوى».
يضيف: «استنفد الانتظار قواي، نعم ربما كان الأجدى بهذا الموت الغدار أن يأخذني أيضاً، فكرت كثيراً في الانتحار ولكن لم أقدر، منعني وجود ابنتيّ، منعتني إرادتي، والأهم منعني حبي لزوجتي من أن أتهور». تلمع عيناه جرأة وتصميماً، تختلط الكذبة بالحقيقة ويضيف بإصرار: «نعم أحبها وسأبقى أحبها. ولو كلفني ذلك عمراً آخر من الوحدة والألم الصامت».
لم يرمِ أبو سلمى بنفسه إلى الوادي السحيق، لم يختر أن يكون بطلاً كأبطال روايات العشق والغرام. يتحمل عتاب الكثيرين من أصدقائه وأهله، ممن ينصحونه بالزواج مرة ثانية، فهو رجل وتسهل عليه مهمة أن يجد زوجة أخرى تملأ عليه حياته وتعينه على تربية ابنتيه. يتحمل بصمت، يفضل العيش في الكواليس المظلمة مع ذكرى زوجته المضيئة، لينتصر «الحب - الحياة» على «الحب - الموت»، «الحب - المواجهة» على «الحب - الهروب».
تمر الأعياد تلو الأخرى، ويمر هذا العيد وأبو سلمى حبيس ذكريات الحب والحياة، ابنتاه كبرتا وأصبحتا والدتين، وبينما تعيش كل منهما في منزلها مع زوجها وأطفالها، يعيش هو في بيته مع طيف حبيبته الغالي على قلبه. يقضي أيام العطل والأعياد مع ابنتيه وأحفاده، ينشغل بهم لبعض الوقت، وما إن يحلّ الظلام من جديد، يعود أبو سلمى وحيداً إلى سريره، وحيداً مع تلك «الكذبة» التي حولها إلى حقيقة.

بيسان البني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...