«أورانوس» لمارسيل إيميه: سفر ليليّ الى كوكب بعيد

06-08-2015

«أورانوس» لمارسيل إيميه: سفر ليليّ الى كوكب بعيد

هل كان مارسيل إيميه متعاوناً مع النازيين أم لا؟ هل كان هو نفسه فاشي الهوى أم لا؟ من الصعب على المرء أن يستشفّ إجابة قاطعة من روايات هذا الكاتب الفرنسي، الذي يُعتبر أحد أكثر الكتّاب شعبيةً من بين المجدّدين في الأدب في زمنه، إذ إن رواياته تُطبع وتباع وتُقرأ من دون هوادة منذ عقود عديدة، وتفرض على طلاب المدارس، سواء كانت تلك التي كتبها قبل الحرب العالمية الثانية، أيام صعود النازية وافتتان بعض المثقّفين الأوروبيين بها، أو خلال الحرب يوم كان النازيون يحتلّون ألمانيا، أو بعد الحرب يوم بدأت محاسبة كل أولئك الذين تعاونوا مع المحتلّ. ومن الصعب على المرء أن يجد، حتى في سيرة إيميه خلال تلك المراحل كلّها، ما يشير الى عواطفه السياسية في شكل واضح. ومع هذا، من المعروف أنه كان صديقاً حميماً لروبر برازيلاك ولوي فردينان سيلين، اللذين كانا، وكلّ على طريقته، من «المفتونين» بالنازية والساعين لكي يسير مجتمعهم الفرنسي على هدى أفكارها وتعاليمها. كما أن إيميه سعى بكل جهده، يوم حكم الفرنسيون على العميل النازي برازيلاك بالإعدام لتعاونه مع المحتلّ، الى استصدار عفو خاص عنه، فلم ينجح مسعاه. وإضافة الى هذا، كان إيميه طوال الفترة السابقة يكتب، في شكل شبه منتظم، في مجلة «أنا في كل مكان» التي كان الفرنسيون النازيون يصدرونها. إذاً، هل كان إيميه نازياً أم لا؟


> عرف مارسيل إيميه بوصفه كاتب سيناريو للعديد من الأفلام الفرنسية، كما عرف ككاتب حوارات بالغة الرقة والشفافية، هذا عدا عن شهرته الواسعة في مجال كتابة الرواية والقصة القصيرة. ومع هذا، ربما يكون مستحيلاً استكشاف عواطفه السياسية في أعماله الإبداعية، فهل لأن الإبداع الحقيقي لم يكن في إمكانه أبداً أن يكون نازياً؟


> سؤال يطرح نفسه بقوة، ويعاد طرحه في كل مرة يجري فيها الحديث عن أعمال أدبية أو فنية تنتمي الى تلك المرحلة الصاخبة المحيرة. وهو يطرح بخاصة حين يدور الحديث حول إحدى أشهر روايات مارسيل إيميه: «أورانوس» التي صدرت عام 1948، لتتحول بعد عقود من السنين الى فيلم شعبي حقّق حين عُرض نجاحات كبيرة، إضافة الى أنه أعاد طرح قضية النازية والإبداع في فرنسا أواسط القرن العشرين.


> «أورانوس» رواية ساخرة، وفي جانب أساس منها رواية غرائبية، كما حال روايات كثيرة لإيميه نفسه. غير أن غرائبيّتها لا تنفصل عن واقعيتها الاجتماعية. ذلك أن «أورانوس» هي في الأساس أمثولة اجتماعية همّها أن تدرس أخلاقيات فئات معيّنة من الفرنسيين خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يوم كان كل شيء يختلط بكل شيء. وتكفي وشاية عابرة لقتل إنسان بتهمة «التعاون»، أو تدخّل شخص ذي نفوذ لإنقاذ متعاون حقيقي من حبل المشنقة. ونعرف أن مثل تلك الحقب في حياة الشعوب والأمم تكون الأكثر كشفاً عن الأخلاقيات والذهنيات. والحقيقة، أن «أورانوس» تفعل هذا... بل إن هذا هو مجالها الأساس، إذ إن لا حبكة فيها أصلاً ولا «قلبات» مسرحية كبيرة. كل ما فيها هو رسم لواقع اجتماعي تحت ظروف ضاغطة.


> الحدث الأساس الذي يهيمن على الرواية ككل، هو حدث ممهّد لها: إن سكان بلدة بليمون الصغيرة الواقعة في منطقة النورماندي، لا يزالون يعيشون تحت وطأة الدمار، من طريق قصف الطيران الذي أصاب بلدتهم نتيجة ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة للحرب. لقد دُمّر معظم البيوت... ولكن في المقابل، بقيت هناك بيوت عدة لم تدمر. ولذا، ها هم أصحاب البيوت التي لم تدمر كلياً، مجبرون على استضافة أصحاب البيوت المدمرة. ومن بين الذين يلعبون الآن دور المضيفين، المهندس آرشامبو الذي يستضيف في بيته المؤلف من 5 غرف، عائلة غانيو، والبروفسور واترين. أما الجو العام المحيط بذلك الوضع كله، فكان جو الحذر والفوضى، ذلك أن لجان التحرير لم تكن قد أنجزت بعد تصفية كل المتعاونين وتحديد الخونة والعملاء في شكل نهائي. صحيح أن الأهالي يعرفون بعضهم بعضاً ويمكنهم أن يفرّقوا، غير أن الجانب الرسمي من الأمور لم ينجز بعد... والحذر واجب، لكن الوصول إليه دونه عقبات. ومن هذه العقبات مثلاً، حال المهندس آرشامبو الذي يجد نفسه ذات لحظة في حيرة من أمره، إذ يُطلب منه أن يُلجئ في بيته المدعو ماكسيم لوان، المعروف أصلاً بوقوفه الى جانب النازيين، فكراً وعملاً، خلال الحرب والاحتلال. في الحقيقة، قد لا يكون هذا الأمر محيراً لآرشامبو أصلاً، فهو إنسان هادئ الطباع، لا يحب أن يفتح جراحاً قديمة... ولكن في المقابل، ثمة من بين ضيوفه في بيته الآن السيد غانيو، وهو المعروف بانتمائه الى المقاومة وبعمله في مجال تطهير البلد كلّه من الخونة والعملاء، فكيف سيمكن غانيو أن يتعايش مع ماكسيم لوان؟ في نهاية الأمر، لن يكون في وسع آرشامبو أن يقاوم طويلاً... إن عليه أن يقبل بإيواء لوان في بيته وليكن ما يكون.


> طبعاً هذا الجانب ليس هو الجانب الأساس الوحيد في «أورانوس»، بل نحن ركّزنا عليه هنا، لأنه الجانب الذي يجده المرء مرتبطاً بالحديث عن مارسيل إيميه ومواقفه السياسية، التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها محيرة... لكنها قادرة على المجابهة في الأحوال كافة. أما الجانب الآخر في الرواية فهو، طبعاً، ذلك المتعلّق بعنوانها. فـ «أورانوس» كما نعرف، واحد من الكواكب السيارة، فما علاقته بتلك البلدة الفرنسية الصغيرة التي تعيش آمال وآلام ما - بعد - الحرب والاحتلال؟ إن أورانوس هو الكوكب الذي يخيّل الى البروفسور واترين أنه يسافر إليه ليلاً في كل مرة ينام فيها. وهو، من هناك، يتاح له أن يراقب كوكب الأرض وما يحدث فيه، من دون أدنى ضغوط خارجية، مكوّناً لنفسه، وللقراء بالتالي، فكرة ما عن أحوال عالم الأرض هذا. غير أن واترين الذي كان أصابه القصف خلال الحرب في شكل غير مباشر، لا ينظر الى الأرض من عليائه إلا كما ننظر نحن أهل الأرض الى جنة عدن. فهو، بعد كل شيء، يراها كما يحب لها أن تكون... وذلك طوال الليل، وحتى إطلالة الصباح حين يحدث له في كل يوم أن يستيقظ من جديد، بعد أن يكون نام طوال ليله ذلك النوم الغريب الذي يقوده الى ذلك الكوكب البعيد.


> مهما يكن من أمر، سيقول مارسيل إيميه لاحقاً أن البروفسور واترين، هو أناه/ الآخر، أي أنه صورة منه، إذ إنه أي الكاتب يعتبر نفسه بعد كل شيء إنساناً سعيداً ومتفائلاً طالما أن ثمة في زاوية فؤاده، وفي زوايا ليله الحميم، إمكانية ترفّعه بعيداً من صغائر هذه الأرض وصراعاتها. ولعل هذه هي الرسالة الأساس التي أراد أن يوصلها الى قرائه، سنة 1948، كاتب كان يعرف جيداً أن قراءه هؤلاء لا يتوقفون بينهم وبين أنفسهم عن طرح أسئلة على تاريخه وماضيه. وهو، إذاً، من خلال هذه الصورة، يحاول أن يعطي الإجابة: إنه ليس أكثر من شاهد غير متورّط على هنات البشر وهواجسهم ونواقصهم. أما ما يفعله في أدبه فإنما هو تقديم صورة لهم، قد تكون قاسية وعنيفة، وقد تكون دامغة في شكل أو في آخر، لكنها في نهاية الأمر، صورة لا تخلو من مودة وحنان، صورة تقوم على التسامح واستجرار الغفران لمن أخطأ من دون أن يعرف أنه أخطأ.


> عاش مارسيل إيميه بين 1902 و1967، وهو وُلد في جوانيي ومات في العاصمة الفرنسية باريس. وقد بدأ المعجبون بأدبه، الذي سيقال عنه دائماً أنه يكاد يكون صورة ما، لأدب ذي طابع شعبي جماعي يرتبط بالمخيّلة بقدر ما يرتبط بالواقع، منذ روايته الأولى «برولبوا» التي صدرت سنة 1927. وهو بعد عامين على ذلك، نال جائزة رينودو، ليصل الى ذروة شهرته سنة 1933، مع «البغل الأخضر»... أما أعماله الأكثر شعبية، فهي: «خارق الجدران» و «رأس الآخرين» و «حكايات الهر المعلق» (للأطفال).

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...