ما الذي تقوله الفنون الجديدة؟

23-09-2010

ما الذي تقوله الفنون الجديدة؟

من يتابع شؤون الفن واحواله في العالم لا بد أن يعترف أن ليس هناك اليوم في العروض الجديدة، سواء جرت تلك العروض في المتاحف أو في القاعات الفنية، ما يمكن أن يذكّر بالرسم أو النحت. هناك اليوم فنون جديدة، صارت هي التي تجذب الجمهور وهي التي تؤثث ذائقة ذلك الجمهور بالمعاني وتؤنس مزاجه المتوتر. وإذا كنا في البلدان العربية لا نزال نواجه تلك الفنون بنوع مستفهم من سوء الفهم في أحسن الحال، وبالسخرية في اسوأها، فذلك متأتٍّ من ضعف المعرفة وقلة المعلومات، وقبلهما الخضوع لفكر مثالي يضع الفن في مكان لا تناله أسباب العيش المباشر.
الحياة جميلة ولكن
تأكل مارينا ابراموفيتش رأس بصل كبيراً أمام الجمهور. يحنّط داميان هيرست شاة ويضعها في صندوق زجاجي، مغمورةً بمحلول حافظ. تعرض تريسي امين سريرها الشخصي على الجمهور وتنال بسببه كبرى جوائز الفن في بريطانيا. يعبئ كوبر كيساً بالرمل ويحدث له ما يشبه الثديين. يصنع ريتشارد لونغ دوائر كبيرة من الحجارة ومن الأخشاب. تلقي انجيلا دي لا كروز أبوابا خشبية عتيقة، بعضها فوق البعض الآخر. يصنع أنيش كابور مرآتين عملاقتين واحدة في شيكاغو والأخرى في نيويورك، كلفة كل واحدة منهما عشريتشارد لونغرة ملايين دولار. هناك كراسٍ وأسرّة لا تصلح للجلوس ولا للنوم لأنها غُطيت بالمسامير تُعرَض باعتبارها أعمالا فنية. ترسم دوريس سالسيدو صدعاً بطول 300 متر على الأرض، يتوهم المشاهدون أنه صدع حقيقي فيخشون الاقتراب منه. يجلب جيف كونز دمىً من أسواق الأشياء المستعملة وينسبها إلى نفسه. يصمّم ارنستو نيتو وسائد وجدرانا من القماش ويصنع منها متاهة يضيع الجمهور في دروبها. حشود من الكائنات الطينية الصغيرة يضعها انتوني غورملي على الأرض. تطلق جانيت اشلمان شبكات خيطية هائلة في الهواء. ترسم جانين انطوني برأسها على الأرض. كارين فينلي تمسح جسدها بالحليب امام الجمهور. منى حاطوم تصنع حاجزاً من الأكياس الرملية تنمو الأعشاب من خلاله، وفوقه. تعلّق سارة سسز سلالم جاهزة في الهواء. تارا دونفان تطلق غيوماً من مواد خفيفة. أشياء كثيرة سواها تبدو كما لو أنها دخلت خطأ إلى قاعات العرض، ولكن الكثير منها يقيم الآن في المتاحف ويمكن أن نرى صوره في المجلات والكتب الفنية. البعض تسلل إلى الساحات العامة. ما من خطأ إذاً. علينا أن نقتنع بأن الفن تغيّر. أن نؤمن بما يجري أو لا نؤمن، فذلك شيء آخر. ما يحدث من حولنا يمكن تشبيهه بطيّ سجلّ قرون من الفن. لقد ذهب كل السحر القديم إلى المتحف. لم يعد في الإمكان الحكم على الوقائع الفنية من خلال الأدوات النقدية، الفلسفية والانطباعية، الراسخة. بل أن ما يجرى تكريسه منذ نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين، يتفادى إنتاج أدوات نقدية ترافقه لتكون مقياساً له. وكما أظن، فإن النقد لم يعد نافعا. لقد استهلكت النظريات النقدية نفسها، مثلما فعل الفن القديم. نحن إذاً نقف إزاء وعي جديد بالفن يستلهم خلاصاته من حيوية فكرة جديدة للعيش. وهي فكرة نقدية يهمّها كثيرا أن تعبّئ عقول الجمهور بأثرها المتمرد والمشاكس والمدمّر. إذاً، لم تعد الذائقة الفنية هي المقصودة بالهجوم، ذلك لأن فن اليوم لم يعد معنياً بالجمال إلا باعتباره شرط حياة إنسانية مستقرة. "الحياة ينبغي أن تكون جميلة بما يكفي لإنتاج اسباب التمسك بها"، هذا ما يذهب إليه الفن الجديد باعتباره هدفاً. ولكن كيف يمكن التفكير في ذلك الهدف؟
حين يكون فعل العيش فناًدوريس سالسيدو
ما نشهده من أحداث كبيرة، لا يدفعنا إلى التفاؤل بمستقبل البشرية. هناك نوع صارخ من التمييز: أقلية بشرية محمية من كل خطر متوقع، فلا جوع ولا تشرد ولا عوز ولا حرمان ولا فاقة ولا تهديد بالإبادة ولا منع ولا سجون ولا عزل ولا كبت ولا نقص في الحريات ولا استهانة بمستوى الكرامة الإنسانية، في مقابل أكثرية مهددة بالإبادة والكوارث والحروب والمجاعات والفقر وأمراض سوء التغذية والتشرد والذل وسواها من الفظاعات التي تصلح مادة لأفلام الرعب. في هذه الحالة - وهي واحدة من حالات كثيرة يعيشها عالمنا المعاصر - لن تكون الحياة جميلة. كيف يمكننا أن نتخيلها جميلة؟ كل هذا القبح الذي يحيط بنا، ينبغي له أن يدفعنا إلى التفكير في وظائف أخرى للفن غير إنتاج نوع من الجمال يمكن أن يلتهمه القبح بكل يسر ويمكن أن يكون وسيلة للكذب. هذا ما جرى فعلا. فالطبقات الثرية، وهي المستفيدة من الوضع القائم، استطاعت أن تستولي على كل ما أنتجه الرسّامون والنحّاتون من أعمال جميلة، وفق المفهوم النقدي السائد، لتكون تلك الأعمال مصدر تسليتها ومتعتها. ولكن ذلك ليس كل شيء. فالفن لن يتمكن من اعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي، ولا يمكنه أن يصلح شيئاً في معادلة هي من صنع تاريخ ظالم. اعتقد أن الفن هو الآخر يعاني من حالة نفي. هناك قدر هائل من الوضاعة في استعمال الفن باعتباره مظهراً للزينة والأناقة الفائضة والتبرج والتباهي والتنافس الاستعراضي. صارت إهانة فنسنت الذي مات فقيراً، ممكنة بملايين الدولارات التي تقدَّم مقابل لوحته. ما كان يفكر فنسنت فيه شيء، وما انتهت إليه لوحاته من مصير شيء آخر. لقد استعملت إنسانيته لتكون غطاء لتهريب الأموال من حالتها السائلة إلى حالتها الهوائية. أمام قسوة من هذا النوع، صار الفنانون يفكرون في مصائرهم المتخيلة. هناك خيار ثالث. خيار ديموقراطي لا يقاسم فنسنت عزلته وموقعه الهامشي، ولكنه في المقابل لا يُظهر أيّ قدر من الاحترام للسلوك المافيوي الذي جعل الفن سلعة مستباحة في سوق العرض والطلب. الآن يقيم الفن في المسافة الغامضة التي تفصل بين الفن والنخبة التي تسعى إلى استمالته إلى صالحها، ومن ثم استعماله في ترويج مصالحها. هناك قدر عظيم من التمرد، هو ما يضفي على كل فعل إنساني نوعاً من الجمال الذي لا يذكّر بالروائع، غير أنه ينتمي إلى جمال الحياة. في الكثير من الأعمال الفنية الجديدة، يكون فعل العيش في حد ذاته فعلاً فنياً. نرى الفنانين يروون في أفلام الفيديو مقطعاً من سيرة حياتهم ليتيحوا لنا النفاذ إلى تلك الحياة وفهم ما يتخللها من أسرار. في هذه الحال، لا يكون العمل الفني وسيطاً بل مختبرا تمتزج فيه قوتان: الفن وتلقّيه. وهما قوّتا استلهام لا تكفّان عن الحركة.
بابتذال لكن بحكمة
فن بلا هوية. قبل سنوات كان صعباً علينا أن نفكر في فن لا ينتمي إلى جهة في عينها. إلى مكان ما. إلى ثقافة ما. كان هناك تفكير مختلف في الفن، من خلاله، وصولا إلى وظائفه والهدف منه. شيء ما تغيّر خلال العقود الماضية، يسّرَ عملية تفكيك علاقات عديدة، اتضح في ما بعد انها لم تكن بالقوة التي تؤهلها للمقاومة والصجيف كونزمود والدفاع عن نفسها. ذلك الشيء هو مزيج من وقائع، بعضها كان مادياً فيما كان البعض الآخر روحيا. على المستوى المادي نلاحظ اتساع رقعة استعمال التقنيات الرقمية وغزارة الثروة المعلوماتية وتوزع اهتمام الذهن البشري بين ما هو مرئي وما هو افتراضي، وكلاهما حقيقي، حيث بدا أن مفهوم الواقعية قد جرى سحبه من التداول المعرفي. هناك أيضا العلاقة المستحدثة بين اللغة والصورة. وهي علاقة قديمة، غير أنها لم تخرج إلى العلن إلا بعدما اتخذ الهذيان الفضائي طابعا شعبياً من خلال قنوات التلفزيون. صار الناس يشعرون انهم موجودون في كل مكان، وقد يكون ذلك الشعور مصدراً لغربة من نوع جديد. ثم هناك أيضاً سرعة التنقل بين الأماكن، حيث صارت الحركة لا تتوقف في المطارات ولو لثانية واحدة. ومن وجد نفسه مضطرا للجلوس في انتظار طائرته في مطار هيثرو مثلاً لساعات طويلة، سيدرك ان ملايين البشر تغيّر أماكنها كل يوم. بسبب كل هذه التغيرات، وجدنا انفسنا في مواجهة ثقافة بصرية جديدة تقوم أساسا على ذاكرة بصرية قادرة على الحذف والاضافة بسرعة فائقة. اما على المستوى الروحي، فقد حل فراغ كبير بعد تفتت العقائد الفكرية الكبرى وانحسار تأثير النزعة الثورية المتمردة وسطوة السلوك النفعي الذي يقدّم المصالح على المبادئ. وهو الامر الذي مهّد لنشوب حروب شريرة، غلب عليها طابع النفاق السياسي والكذب الاعلامي، فيما كانت رغبة الأقوياء في مزيد من السلطة العالمية لا تُخفى. لقد أصبحت أمّنا الأرض أقل أمناً وازدادت مظاهر العزل الحضاري بقوة التدمير، وانتظارا لما يمكن أن ينتج من الفوضى الخلاقة. هناك نوع صامت من اليأس، هو ما دفع بالكثير من الفنانين إلى اللجوء إلى الاساليب المباشرة، المبتذلة والسوقية، في محاولة منهم للفت النظر إلى الكارثة التي تحيق بالمصير البشري وبالطبيعة من حولنا. قسوة متبادلة يعيشها الفن، مستفزاً ومنفعلاً وأخوياً. هل صار العالم واقعياً أكثر مما يجب؟ وايضاً، هل تخلّى العالم عن واقعيته بشكل مطلق؟ يتطلب فن يجاري الواقع في مبالغته أو في تخليه، قدراً من النسيان، نسيان ماضيه التقني والفكري. صار علينا أن نرضى بفنّ لا نعرفه مثلما نعيش واقعاً نحن غرباء فيه. لهذه الأسباب صارت مسألة هوية الفن من المنسيات بعدما تعرضت هوية الفرد إلى التعدد، إذا لم نقل إلى التشظي.
هبات ناقصة
يمكننا الحديث بيسر عن قطيعة نسبية مع الأنواع الفنية التي صارت تقليدية (الرسم والنحت، في الأخص)، ولكن لا يزال الوقت مبكرا أيضا على الحديث عن أنواع فنية متماسكة جديدة. ما هو جاهز أمامنا ليس سوى تقنيات: الفن الجاهز. فن التجهيز والإنشاء والتركيب. الفن المفاهيمي. فن الفيديو. فن الحدث. فن الأداء الجسدي. فن الأرض. كلها تسميات استنبطت من التقنية المستعملة من أجل التعبير عن فكرة أو العمل من خلال تلك الفكرة على الوصول إلى يقين مشترك بالتحول. فلا يزال هناك في الممارسة الفنية الجديدة، الشيء الكثير من الرسم. لا يزال هناك الشيء الكثير من النحت. وفي كثير من الأحيان، تستظل الأعمال الجديدة بالعمارة وتحتمي بها وتستعمل فضاءاتها. على سبيل المثال، فإن ما تقدمه كيكي سميث يمكن أن ينضوي تحت مفهوم النحت، لكنه نحت مزاح عن قيمه التعبيرية والادائية السابقة. بالطريقة نفسها يمكن النظر إلى رسوم تريسي امين المقتضبة والمتوترة. لكن ما حدث يتجاوز كل إمكان للعودة إلى الوراء. ذلك لأن الفنون الجديدة وهي تقدّم الفكرة على الجمال، صارت تعنى بالمعنى أكثر من عنايتها بالشكل. هل يولد الشكل من المعنى؟ ولكن لا حاجة إلى التفكير في هذه الثنائية من جديد بعدما صارت الصورة متاحة أكثر مما ينبغي. أفكّر في الزيف التزييني الذي كان يتبدى من خلال الرسوم والمنحوتات بحجة العناية بحساسية المتلقي ورعايتها جمالياً. كان ذلك الزيف واحداً من أهم الينابيع التي انبعثت منها شكلانية احتلت جزءاً من خيالنا، غير أنها قرّبت الانواع الفنية من ساعة موتها. دفعتها إلى الخواء في مواجهة عالم حائر، كان يشعر أن هناك خطراً قد شقّ الطريق في اتجاه معنى وجوده. وكما أرى، فقد عثر الهائمون من البشر على ما يمكن أن يجعل لتيههم معنى. تلك الأشياء المهملة والمنسية والمبتذلة التي صارت تجتاز فضاء تخيليا بقوة المعنى، لا لتعبّر عن حاجتنا إليها (وهو ما كان يفعله الرسم والنحت في أوقات سابقة)، بل لتذكّر بوجودنا، كائنات تمارس فعل العيش كما لو أنه هبة ناقصة. الدفاع عن طريق المعنى هو خير وسيلة لتفسير جدوى المقاومة ومواجهة خطر القبح. وهو خطر لا تقاومه الصور الجميلة. تلك الصور التي تنسينا موقتاً ما يحيط بنا من قبح مادي وروحي، تمثّله حملات الإبادة المنظمة والفقر والجهل والحرمان والعزل والكبت والقمع والتمييز والاستغلال الجنسي والعنصري وتسليم شعوب للأوبئة والكوارث الطبيعية. أعتقد أن البشرية وهي تعيش أزمة ضمير، لا غنى عن الاعتراف بقصورها، بضعف حيلتها، بفقر خيالها، بنقص قوتها، وهذا ما يفعله الفن الجديد تماماً. في كل عرض فني، هناك دعوة الى نقض فكرة الكمال والتماهي مع رغبة عميقة في هدم الصورة التي تشمّ من خلالها رائحة الخيانة. خيانة الوعي من طريق جمال زائل ¶

فاروق يوسف

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...