العقل العربي المهزوم في مواجهة الاساطير والخرافات

14-06-2010

العقل العربي المهزوم في مواجهة الاساطير والخرافات

تحمل الشعوب في تاريخها وتراثها اساطير تمثل في مراحل محددة من تاريخها لغتها التعبيرية، وتشير الى تجربة وجودية عاناها الانسان في مراحل تطوره، وخصوصا في علاقته بعالم الغيب، مما اسبغ عليها صفة القداسة. على رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي كشف عن الاسباب الحقيقية للعوامل الطبيعة وللتفسير الغيبي لها، وعلى رغم اكتساح العقل للكثير من المفاهيم السائدة وتقديمه تفسيرا للمجهولات، لا تزال الاساطير تغذي الثقافة الشعبية وتدخل اليها عناصر جديدة تتصل بالتطورات الاجتماعية او السياسية التي يمر بها المجتمع. في المراحل التي يسيطر التخلف على المجتمعات، ببناها وثقافاتها وسياساتها واحوالها الاقتصادية والاجتماعية، تنحدر الاساطير لتتحول خرافات بحيث يصعب عندها التمييز بين ما يعود الى تراث شعبي وجداني، وما لا يمت الى التجربة الوجودية التي عبّرت عنها الاسطورة. شكلت الاسطورة مادة غنية عكف علماء الاجتماع والانتروبولوجيا على دراستها بوصفها علماً قائماً في ذاته، وجرى ايلاؤها ما تستحق من اهتمام في الفكر العالمي، القديم منه والحديث. لا تزال الدراسات المتصلة بهذا الجانب قليلة في العالم العربي، على رغم هيمنة الاسطورة والخرافة على الكثير من مظاهر حياته وثقافته، لكن كتاب خليل احمد خليل "مضمون الاسطورة في الفكر العربي" الصادر عن "دار الطليعة" في بيروت اتى ليملأ فجوة في هذا الجانب

يغلب على الاسطورة في الثقافة العربية ارتباطها بالغيب، وهو يتعلق بالحياة الآخرة والصراع بين الانس والجن، وتدخل الملائكة ايضا في هذا الصراع لتضفي على الاسطورة مخيالات واسعة. كما ان الاسطورة تتصل وثيقا بنمط الحياة السائدة وما تفرزه من متطلبات وما تثيره من مشكلات وصعوبات. "فالموضوع الاساسي للتمثلات الاسطورية والسحرية والفلسفية والدينية عند العرب يتصل بشؤون معيشتهم وانتاجه ووسائله (الحيوانات والارض والنباتات)، وتطورهم في اتجاه التبادل التجاري ولا سيما بين القبائل والحواضر، وبين الحواضر العربية والحواضر الاخرى". لكن الكاتب يشدد على انّ التكون القدسي للكون يمثل المضمون الجوهري للفكر الاسطوري عند العرب، فالكون من صنع كائن قدسي اعلى، مما يجعل من القدر اول المخلوقات في الاسطورة. هكذا، فكل ما يحدث للانسان العربي مقدَّر له سلفا، بل ان هذا الامر لا يحدث له الا لأنه مقرر مسبقا ولا امكان لرد هذا القدر. يرتبط هذا التكون القدسي بتضخيم اسطوري لمشاعر الخوف والرعب والترهيب، وبوجود كائنات عليا يرتبط مصير العرب بصراعها، من قبيل عوالم الملائكة والجن والشيطان. مع التركيز على الموقع الذي يحتله الجن، الذي يتشابه مع عالم الانسان لجهة تكونه في جماعات وامم، ومن خلال تصنيفه ذكورا واناثا. تزيد من وطأة هذا العالم المخيف، مسألة الجنة والنار والوعد والوعيد، ومدى تحكمها بالعقل العربي والاثار التي تتركها على سلوكه. اذا كانت الاسطورة في الفكر العربي تتغذى من الموروث الشعبي التاريخي، الا انها ترتبط بشكل وثيق بما ورد من نصوص دينية وخصوصا في القرآن والاحاديث، والحجم الذي تحتله الملائكة والجن والشيطان والجنة والنار في النصوص الاسلامية المقدسة.
يحتل "المكان" موقعا مهما في المقدس الاسطوري عند العرب. تتعدد المقدسات المكانية، فهي جبل ومعبد ومقام وصنم ناطق، فترمز الى مقدسات زمانية، من قبيل العيد او العام او الشهر الحرام. لكن هذا المقدس يستمد قدسيته من حدث خارق، وليس من كونه شيئا قائما بذاته. فالحجر المتمثل بالكعبة لا يكتسب قدسيته من كونه حجرا، بل من الموقع الديني القدسي الذي يرمز اليه عند المسلمين، ويمثل لهم واحدة من فرائض دينهم اي الحج الى بيت الله الحرام. كلمة "البيت" ترمز اسطوريا الى الجسد (الجسد المقدس)، والى الكون (الكون المقدس)، وهو في المنظور العربي يسمّى "بيت الله"، فيشمل الاماكن المقدسة كما يطاول مفهوم المسجد الذي يطلق عليه بيت الله.
على خلاف كثير من من المجتمعات، تحتل الاسطورة في الفكر العربي موقعا مهما، سواء أكان الفكر الذي يحملها ينتمي الى التقاليد القديمة والموروث، ام يتصل بالعصر الحديث. فدرجة التطور العلمي والثقافي، والحدود التي حصلتها المجتمعات العربية في علاقتها بمنجزات العلم وكشفه عن الكثير من الخوارق الطبيعية وتقديم تفسير لها، وكذلك في تحليل البنى والتشكيلات الاجتماعية لتعيين اسباب التخلف وعوامله، كلها عناصر ساهمت، وتساهم، في تغليب الفكر الاسطوري عربيا، بدل ان تحدّ من سلطة هذه الاساطير. يصبح الفكر الاسطوري ذا سطوة اكبر عندما ينجدل بالسياسة ويتحول ثقافة قائمة بذاتها يستخدمها النظام القائم لتبرير ممارساته وسلوكه، بحيث يرمي مسؤولية الاحداث على القوى الغيبية، ويستحضر تفسيرات لا علاقة لها بالعلم والمنطق. "فالفكر الاسطوري يشكل خلفية سياسية واضحة واحيانا غامضة لمعظم الانظمة العربية التي لا تزال في مرحلة الانتقال المتأزم من الاستعمار الى الاستقلال... والسياسة العربية حافظت على استمرار الفكر الاسطوري وصانت وجوده عبر ممارسات غيبية اسطورية، وفي رمزيات شتى، وشجعته في كل الميادين الشعبية الفعالة، في المدرسة والجامعة، في الاقتصاد والاحزاب والنقابات، وحتى في الجيش او المقاومة"، على ما يشير اليه الكاتب. يتذكر المواطن العربي جيدا التفسيرات الخرافية التي اسبغها الحكام العرب على هزائمهم منذ الخمسينات حتى اليوم، واحالتها على القضاء والقدر، وعلى عوامل غيبية لا امكان للتحكم بها، مما يجعل تخلفنا وتأخرنا وانحطاطنا واستحالة تطورنا، والعجز عن الانتصارات واستعادة الاراضي المحتلة، كلها امور محكومون بأقدارها، وعلى رأسها الحكام القابعون على رؤوسنا. تتواطأ المؤسسة الدينية مع السلطات السياسية في نشر الفكر الاسطوري وتكريس التفسيرات "القدرية" لمشكلات المجتمعات العربية، بما ينزع مسؤولية الحكام عن البؤس والشقاء العربيين.
ان معركة العقل مع الفكر الاسطوري الخرافي في البلدان العربية، لا تزال في بداياتها، بل ان هذا الفكر الاسطوري يعزز مواقعه بشكل قوي، مستفيدا من درجة تخلف المجتمعات العربية التي تشكل الارض الخصبة لازدهار الاساطير والخرافات، يزيد من فاعليتها تسخير الاعلام الحديث وثورة الاتصالات والعلم في نشر كل ما يتعلق بهذه الخرافات والاساطير. فهل يمكن ان يأمل الانسان العربي في انتصار العقل على الفكر الخرافي في المدى المنظور؟ سؤال برسم المستقبل والمصير معا.

خالد غزال

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...