ريــفٌ يزعــم أنّــه مدينــة
لا تسألُ المدينة عن هويتها. لم تعد معنيّة بالأمر. تترّيف في طور عودتها، ما قبل الأخير، إلى.. الباديّة. والبادية، في هذا السياق، ليست الخيام والجمال والرمال، لكنّها القبيلة والعقليّة في فضاء الشوارع العريضة والأبنية الرسميّة و.. الموضة بحرف كبير (غير متوفر في العربيّة). في النهاية، ستكون السيرة الذاتيّة للمدينة، كما هي دوماً، نسخة عن السيرة الذاتية لسكانها: ضاعوا فضاعت.. ضاعت فضاعوا!
المدينة ضحية لالتباس كبير: تحفل المدينة، وتحتفل، بكل ما هو مصنّع، مشذب، ومعالج؛ بالحريّة المصّنعة، بالعلاقات المشذبة، وبالطبيعة المعالجة. «التصنيع» (ليس بمعناه النقيض للزراعة حصراً) هو جوهر المدينة، لكنّ «الخام» و«الطبيعي» يحاصرانها، يفرضان عليها ملامح ليست لها: رائحة البول في زواياها، هواء ثقيل يقتل مرونتها وديناميكيتها، والأهم من هذا وذاك «كائن» لا تعنيه المدينة، إلاّ باعتبارها مكاناً لممارسة «الطبيعة»: الأكل، الشرب، الجنس.. والتبرز. «كائن» تعرّضت احتمالات التمدّن في روحه لعملية قتل مبرمجة، «كائن» ربّته أمهات كثيرات: الصلابة، والقسوة؛ وآباء كثيرون: الفقر والتصّحر (بكل أنواعه!). هو ضحية، ومن قال إنّ الضحية لا تنتج ضحايا؟ المدينة ضحيته المغريّة و.. العزيزة.
هو التباس كبير تعرضه المدينة، طريقتها الوحيدة لحلّه: الدهشة. الدهشة التي يتقوّس فيها حاجبا المدينة نحو الأسفل كناية عن الألم؛ المدينة تتألّم لتجد حلاً لها تبحث عنه وتعيشه من خلال انكسارها، إحباطها، تعبها، تشاؤمها. وإن كان لها أن تطلب حلاً آخر فلا بدّ أن تسأل أبناءها، لكنها لن تحصل على جواب؛ هي عاقر أصلاً؛ المدينة اليوم لا تنجب، تكتفي بالتبني الإجباري، ثمّ تنهزم في عملية التربيّة: تفشل في تصنيع مدينيين.
ما من ثقة متبادلة بين «الكائن» والمدينة، رغم أنّ أحداً لم يخدع الآخر. ما كان للمدينة، قبل أن تصير ريفاً متحضراً، سوى أن تكون ذاتها: شوارع عريضة، جامعات، سرعة، خفّة، شطارة، مرونة، تجارة، ثقافة. وما كان «للكائن» سوى أن يعيش وأن يثأر من عملية القتل. الثأر إحدى مكوّناته «الموضوعيّة» التي أجهضت عملية القتل المبرمجة إمكانيّة تجاوزها والتخلي عنها، يشحن دونيته المعزّزة بالقهر، فتنقلب في أقصى حدودها إلى عدوانية، وتكون الحصيلة النهائيّة لعملية الثأر تصنيع الخوف: الكل العدواني هو كلّ خائف.
تتمزّق المدينة، «تتعشوأ»، «تتسرطن»، تدفع بأحشائها نحو الخارج، تجهض يوميّاً ما ليس لها: ثمرات اغتصابها غير المتعمّد. لكن، إلى متى؟! مع الإجهاض اليومي تلفي المدينة نفسها خارجها، تخرج المدينة من نفسها، لا وجه لها، لذا لا تبحث عن مرآة تعرّفها بحقيقتها أو تكشف لها ملامح وجهها، تهيم في صحرائها، ولا صحراء للمدن؛ المدينة تتبخر إذا»!
تبدي المدينة ارتياحاً ممزوجاً باليأس، تساير من خلالهما حالتها الجديدة، فتتمسك بقشور سماتها من شوارع عريضة وجامعات وموضة و..الخ. ولكن من دون عمق، تتمسك بكل هذا بافتعال وكذب، بزيف وفشل، وبسطحيّة لا يضاهي عمقها سوى عمق السواقي التي تصنعها أمطار غزيرة والتي غايتها لا أعلى من فتحات المجارير!
الأسوأ أنّها تتمسك بتلك القشور بعقلية «الطبيعة»، العقليّة التي تحرص، مثلاً، على أن تكون الهندسة المعماريّة لأي جامع حديث البناء أكثر جمالاَ وإتقاناً بما لا يقاس من الهندسة المعماريّة لأي بناء من أبنية «المؤسسات الثقافية»، العقلية التي من خلالها يبتلع الخوف من القانون ومن ممثلّيه أدنى احترام له؛ إنّه أمر من سمات الطبيعة: الخوف من القوّة التي تحدّ من الحريّة الخام، وليس احترام القوة التي تتيح للكل ممارسة حرياتهم المصنّعة. عقليّة «الطبيعة» هي المسؤولة عن كون القانون «الشــهير» الناظــم لحياة المدينة هو «البقاء للسيئ والارتقاء للأسوأ»، في ترجمة ارتجالية ومحليّة لقــانون الغــاب الشهير هو الآخر: «البقاء للقوي والارتقــاء للأقـوى». والقــوّة هنا هي كل قوّة عدا تــلك الــتي يشــكل «التصنــيع» جوهـــرها.
مدينة كهذه ستهزأ حتماً من كل القوانين المصنّعة، هي المدينة التي ستُفقد الجغرافيا صوابها حين لا تكفّ عن التهام التضاريس، وهي ستعبث مع الكيمياء حين يسخر هواؤها من التركيبة القياسية لكل هواء الأرض، مدينة لا تعترف بالرياضيات، فتجمع من سكان بلد واحد ربعهم وتحشرهم فيها، وهي ستمنح علم السوائل إجازة طويلة حين تفخر بأنّها تجفف نهراً كاملاً مــع روافـده في.. خمسة أيام.
هي، في النهاية، ليست سوى مدينة تحترف التنجيم و.. لعب الورق. فما هي حقّاً؟ ريف يثير الضحك إذ يزعم أنّه مدينة!
محمد دحنون
المصدر: السفير
التعليقات
رائع جدا يا سيد
أروع من رائع
إضافة تعليق جديد